المقام الأوّل : فیما یحکم به العقل فی هذا الباب
فنقول : البحث فی حکم العقل فیـه قد یقع بناءً علی اعتبار الخبر من باب الطریقیّـة ، وقد یقع بناءً علی السببیّـة . ولیعلم أنّ التکلّم فی حکم العقل إنّما هو بعد الفراغ عن عدم کون الحکم فی المتکافئین هو التساقط وطرح الخبرین ، بل بعد ثبوت کون الحکم فیهما هو التخیـیر .
وحینئذٍ نقول : أمّا بناءً علی اعتبار الخبر من باب الطریقیـة ، فإن قلنا : بأنّ المجعول عند التعارض هی الطریقیّـة والکاشفیّـة ، فلا ینبغی الارتیاب فی المقام فی أنّـه لابدّ من الأخذ بذی المزیّـة أو بما یحتمل اشتمالـه علیها ، لأنّـه یدور الأمر بین أن یکون الطریق المجعول بعد التعارض هو خصوص الخبر الراجح أو أحدهما تخیـیراً ، فحجّیـة الخبر الراجح متیقّنـة لا ریب فیها ، وأمّا الخبر غیر الراجح فیشکّ فی طریقیّتـه وکاشفیّتـه عند التعارض ، لأنّـه یحتمل اعتبار الشارع بالمزیّـة الموجودة فی الآخر ، والشکّ فی باب الحجّـة والطریق مساوق للقطع
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 401
بعدم حجّیتـه ، لأنّها ترجع إلی صحّـة الاحتجاج للمولی علی العبد وکذا العکس ، ولا یصحّ الاحتجاج مع الشکّ قطعاً .
وإن لم نقل بأنّ المجعول فی مورد التعارض هی الطریقیّـة والکاشفیـة ، بل قلنا بأنّ المجعول إنّما هو حکم وجوبی ووظیفـة للمکلّف المتحیّر عند تعارض الطریقین عنده ، نظراً إلی استحالـة کون الطریقیّـة مجعولـة ، أمّا مطلقاً ، لأنّها من الاُمور التکوینیّـة غیر القابلـة لتعلّق الجعل بها ، أو فی خصوص المقام ، لاستحالـة جعل الطریقیـة للمتناقضین کما عرفت . فالأمر یدور بین التعیـین والتخیـیر ، لأنّـه یحتمل تعلّق التکلیف الوجوبی بالأخذ بخصوص الخبر الراجح ، ویحتمل تعلّقـه علی سبیل الوجوب التخیـیری بکلا الخبرین ، والحکم فیـه هو البراءة أو الاشتغال علی خلاف ما عرفت فی بابـه .
هذا کلّـه بناءً علی اعتبار الخبر من باب الطریقیّـة .
وأمّا بناءً علی السببیّـة فقد اُطلق القول فیها بصیرورة المقام من صغریات باب التزاحم مع احتمال رجحان أحد المتزاحمین ، ولکن التحقیق عدم تمامیّـة الإطلاق ، بل إنّما یتمّ علی بعض الوجوه .
توضیح ذلک : أنّ السببیـة إن کانت علی النحو الذی یقول بـه الأشاعرة من خلوّ الواقع عن الأحکام الواقعیّـة وکون الحکم الواقعی تابعاً لقیام الأمارة ، فلا معنی حینئذٍ لدعوی کون المقام من صغریات باب التزاحم ، لأنّـه لو فرض قیام أمارة علی وجوب صلاة الجمعـة ، وأمارة اُخری علی حرمتها ، فلا یمکن أن یکون فی صلاة الجمعـة مصلحـة ملزمـة وفی ترکها أیضاً مصلحـة ملزمـة ، أو فی فعلها
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 402
مفسدة ملزمـة ، وباب المتزاحمین ینحصر بما إذا اشتمل کلّ منهما علی تمام المصلحـة الموجبـة للحکم .
وکذا لو کانت السببیّـة علی النحو الذی یقول بـه المعتزلـة من ثبوت الأحکام الواقعیـة فی الواقع ، غایـة الأمر أنّ مع قیام الأمارة علی خلافـه لا یکون الحکم الفعلی إلاّ ما یطابق مدلول الأمارة ، بمعنی أنّ فیـه مصلحـة غالبـة علی مصلحـة الواقع ، فإنّـه حینئذٍ لا یکون من ذلک الباب ، لعدم إمکان امتثال کلّ من الفعل والترک علی مصلحـة ملزمـة ، کما هو واضح .
نعم لو کانت السببیّـة بالمعنی المعقول غیر المستحیل ، وهی الذی یرجع إلی اشتمال سلوک الطریق والتطرّق بـه علی المصلحـة ، فیصیر المقام من صغریات ذلک الباب ، لأنّ المفروض أنّ سلوک کلّ من الأمارتین والتعبّد بکل من الخبرین مشتمل علی المصلحـة ، ولا یمکن الجمع بین المصلحتین ، فیصیر من باب المتزاحمین ، وحکمـه أنّـه مع احتمال اشتمال واحد منهما علی المزیّـة یدور الأمر بین التعیـین والتخیـیر ، والحکم فیـه البراءة أو الاشتغال علی الخلاف المتقدّم فی بابـه .
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 403