مقتضی ا‏لأصل بناءً علی ا‏لطریقیّة

‏ ‏

مقتضی الأصل بناءً علی الطریقیّة

‏ ‏

فنقول‏ : لو کان الوجـه فی اعتبار الخبر هو سیرة العقلاء وبنائهم عملاً علی‏‎ ‎‏الاعتماد علی قول المخبر إذا کان موثوقاً ومورداً للاطمئنان ، فمع التعارض وعدم‏‎ ‎‏المزیّـة لا محیص عن القول بتساقطهما وعدم حجّیـة واحد منهما فی مدلولـه‏‎ ‎‏المطابقی ، وذلک لوجهین :‏


کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 379
أحدهما‏ : أنّـه لا خفاء فی أنّ اعتبار الخبر عند العقلاء إنّما هو لأجل‏‎ ‎‏کاشفیّتـه عن الواقع وإرائتـه لـه وأماریّتـه بالنسبـة إلیـه . ومن الواضح أنّ الإرائـة‏‎ ‎‏والکشف إنّما هو مع عدم ابتلائـه بمعارض مماثل أو أقوی ، ضرورة أنّـه مع هذا‏‎ ‎‏الابتلاء یتردّد الطریق والکاشف بینهما ، إذ لا یعقل کون کلّ واحد منهما مع وجود‏‎ ‎‏الآخر کاشفاً ، وإلاّ لزم الخروج عن حدّ التعارض ، ومع تردّد الطریق والکاشف‏‎ ‎‏وعدم وجود مرجّح فی البین اللازم منـه الترجیح من غیر مرجّح لابدّ من التوقّف ،‏‎ ‎‏ضرورة أنّ الأخذ بالمجموع ممّا لا یمکن ، وبواحد ترجیح من غیر مرجّح .‏

‏وهذا نظیر ما لو أخبر مخبر واحد بخبرین متعارضین ، فکما أنّـه لا یکون‏‎ ‎‏شیء من الخبرین هناک بکاشف ولا طریق ، کذلک لا یکون شیء من الخبرین هنا‏‎ ‎‏بکاشف ، کما لایخفی .‏

ثانیهما‏ : أنّ معنی حجّیـة الخبر إنّما هو عبارة عن صحّـة احتجاج المولی‏‎ ‎‏بـه علی العبد . ومن المعلوم أنّ ذلک إنّما هـو مع عدم کـون الأمـارة مجهولـة‏‎ ‎‏للعبد ، ضرورة أنّـه لو کانت کذلک لا یبقی للمولی حـقّ المؤاخـذة والاعتراض ،‏‎ ‎‏فإذا کانت صلاة الجمعـة واجبـة واقعاً وکانت الأمارة الدالّـة علی ذلک غیر‏‎ ‎‏واصلـة إلی المکلّف ، بل کان الموجود عنده هو الأمارة الضعیفـة الدالّـة علی‏‎ ‎‏التحریم ، لا یجوز للمولی المؤاخذة والاعتراض لأجل الترک ، ضرورة أنّ البیان‏‎ ‎‏الـذی بـه یسدّ باب البراءة العقلیّـة الراجعـة إلی عـدم استحقاق العقوبـة مـع‏‎ ‎‏عدم وصول التکلیف إنّما یکون المراد بـه هو البیان الواصل إلی المکلّف ، ومع‏‎ ‎‏الجهل بـه لا مخرج للمورد عن البراءة . هذا ، ومن الواضح أنّ مع ابتلاء البیان‏‎ ‎‏الواصل بمعارض مماثل لا یصحّ للمولی الاحتجاج أصلاً ، وهذا ممّا لا ینبغی‏‎ ‎‏الارتیاب فیـه .‏


کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 380
‏فانقدح : أنّ الخبرین المتکافئین لایکون شیء منهما حجّـة بالنسبـة إلی‏‎ ‎‏مدلولهما المطابقی .‏

‏وأ مّا بالنسبـة إلی المدلول الالتزامی الذی یشترک فیـه الخبران ولا‏‎ ‎‏معارضـة بینهما فیـه ، کعدم الاستحباب والکراهـة ، والإباحـة فی ما إذا قام أحد‏‎ ‎‏الخبرین علی الوجوب والآخر علی التحریم ، فلا شبهـة فی حجّیتهما بالنسبـة‏‎ ‎‏إلیـه ، إنّما الإشکال فی أنّ الحجّـة بالنسبـة إلیـه هل هو کلا الخبرین أو واحد‏‎ ‎‏منهما معیّن بحسب الواقع وهو الخبر الذی لم یعلم کذبـه ؟‏

‏قد یقال بالأوّل ، کما أفاده المحقّق النائینی ‏‏قدس سره‏‏ علی ما فی التقریرات ، حیث‏‎ ‎‏دفع توهّم سقوط المتعارضین عن الحجّیـة بالنسبـة إلی نفی الثالث أیضاً ، نظراً‏‎ ‎‏إلی أنّ الدلالـة الالتزامیّـة فرع الدلالـة المطابقیّـة ، وبعد سقوط المتعارضین فی‏‎ ‎‏المدلول المطابقی لا مجال لبقاء الدلالـة الالتزامیّـة لهما فی نفی الثالث ؛ فإنّ‏‎ ‎‏الدلالـة الالتزامیّـة إنّما تکون فرع الدلالـة المطابقیّـة فی الوجود لا فی الحجّیـة ،‏‎ ‎‏ثمّ قال : وبعبارة أوضح : الدلالـة الالتزامیّـة للکلام تـتوقّف علی دلالتـه‏‎ ‎‏التصدیقیّـة ؛ أی دلالتـه علی المؤدّی ، وأ مّا کون المؤدّی مراداً فهو ممّا لا یتوقّف‏‎ ‎‏علیـه الدلالـة الالتزامیّـة ، فسقوط المتعارضین عن الحجّیـة فی المؤدّی لا یلازم‏‎ ‎‏سقوطهما عن الحجّیـة فی نفی الثالث‏‎[1]‎‏ ، انتهی .‏

‏ویرد علیـه : أنّـه مع العلم بکذب أحدهما واقعاً بالنسبـة إلی المدلول‏‎ ‎‏المطابقی کیف یکون مـع ذلک حجّـة بالنسبـة إلی المدلول الالتزامی ، ألا تری‏‎ ‎‏أنّـه لو کان هنا خبر واحد فقط مع عدم الابتلاء بالمعارض وعلم من الخارج‏‎ ‎


کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 381
‏بکذبـه ، فهل یرضی مع ذلک أحد بکون العلم بالکذب یوجب سقوطـه فی‏‎ ‎‏خصوص مدلولـه المطابقی ، وأ مّا المدلول الالتزامی فهو بالنسبـة إلیـه حجّـة ،‏‎ ‎‏وکـذلک المقـام ، فإنّـا لا نتعقّل مـع العلم بکذب واحـد مـن الخبریـن أن یکونـا‏‎ ‎‏معـاً حجّـة بالنسبـة إلی نفی الثالث الذی هو من اللوازم العقلیّـة للمدلول‏‎ ‎‏المطابقی .‏

‏وما أفاده من التفکیک بین الوجود والحجّیـة ممّا لم یظهر وجهـه لنا ، فإنّـه‏‎ ‎‏إذا کان حجّـة یکون مدلولـه المطابقی موجوداً ، ومع الوجود لا مجال للتفکیک‏‎ ‎‏بین المدلولین ولیست الدلالـة الالتزامیـة من الدلالات اللفظیـة حتّی لا یکون‏‎ ‎‏دلالـة اللفظ علیها متوقّفـة علی دلالتـه علی المدلول المطابقی وإن عدّت هذه‏‎ ‎‏الدلالـة فی المنطق من جملـة تلک الدلالات ، وذلک لأنّ دلالـة اللفظ علی أمر‏‎ ‎‏خارج عمّا وضع لـه مع عدم کونـه مجازاً ممّا لا یتصوّر ، بل قد عرفت أنّ فی‏‎ ‎‏المجازات أیضاً لا یکون اللفظ دالاًّ إلاّ علی المعنی الحقیقی .‏

‏وکیف کان : فمع العلم بکذب أحد الخبرین بالنسبـة إلی مدلولـه المطابقی‏‎ ‎‏لا وجـه لتوهّم حجّیتـه بالنسبـة إلی المدلول الالتزامی .‏

‏فالحقّ فی هذا الباب ما اختاره المحقّق الخراسانی ‏‏قدس سره‏‏ من کون الحجّـة‏‎ ‎‏علی نفی الثالث هو أحدهما الغیر المعیّن الذی هو الخبر الذی لم یعلم کذبـه ، لا‏‎ ‎‏الخبرین معاً‏‎[2]‎‏ ، فتأ مّل جیّداً .‏

‏هذا کلّـه بناءً علی کون الوجـه فی اعتبار الخبر هو بناء العقلاء علی العمل‏‎ ‎‏بـه فی جمیع أمورهم کما أنّـه هو الوجـه .‏


کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 382
وأ مّا بناءً علی کون الدلیل هی الآیات والروایات‏ التی استدلّ بها علی‏‎ ‎‏ذلک : فتارةً یقال بکونها مهملـة غیر شاملـة لحال التعارض .‏

‏ ‏‏واُخری بکونها مطلقـة . وعلی هذا التقدیر قد یراد بالإطلاق الإطلاق‏‎ ‎‏الشمولی اللحاظی ، وقد یراد بـه الإطلاق الذاتی ، فإن کانت الأدلّـة مهملـة غیر‏‎ ‎‏شاملـة لحال التعارض فواضح حکم صورة التعارض ، لأنّـه لا دلیل حینئذٍ علی‏‎ ‎‏حجّیـة واحد من الخبرین ، فیسقطان عن الاعتبار الذی کان ثابتاً لهما فی حال‏‎ ‎‏عدم المعارضـة ، وإن کانت مطلقـة بالإطلاق الشمولی اللحاظی فاللازم أن یقال‏‎ ‎‏بثبوت التخیـیر فی حال التعارض ، وإلاّ تلزم اللغویّـة ، کما لایخفی .‏

‏وإن کان المراد بـه هو الإطلاق الذاتی وهو الذی اخترناه وحقّقناه فی باب‏‎ ‎‏المطلق والمقیّد فقد یقال : بأنّ اللازم حینئذٍ التخیـیر أیضاً ، نظراً إلی أنّ الدلیل‏‎ ‎‏علی اعتبار الخبر لـه عموم وإطلاق ، أ مّا العموم فباعتبار شمولـه بجمیع الأخبار ،‏‎ ‎‏وأ مّا الإطلاق فباعتبار عدم کونـه مقیّداً بحال عدم المعارض .‏

‏وحینئذٍ : فإذا ورد خبران متعارضان یدور الأمر بین رفع الید عن العموم‏‎ ‎‏والحکم بعدم حجّیـة شیء منهما ، وبین حفظ العموم علی حالـه ورفع الید عن‏‎ ‎‏الإطلاق والقول بحجّیـة کلّ واحد منهما مع رفع الید عن الآخر ، وهذا هو الذی‏‎ ‎‏ینبغی أن یختار ، لأنّ التصرّفات فی الدلیل تـتقدّر بقدر الضرورة ، ومع إمکان‏‎ ‎‏التصرّف القلیل لامسوغ للتصرّف الکثیر ، وهذا نظیر المتزاحمین ، حیث إنّ العقل‏‎ ‎‏یحکم فیهما بالتخیـیر ، لأجل عدم إمکان امتثالهما ، هذا .‏

‏ویرد علیـه : أ مّا بناءً علی کون المستفاد من النقل هو الحجّیـة من باب‏‎ ‎‏الطریقیّـة : أنّ قیاس المقام بباب المتزاحمین قیاس مع الفارق ، لأنّـه هناک کان‏‎ ‎


کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 383
‏المکلّف متوجّهاً إلیـه تکلیفان نفسیّان تعلّق کلّ واحـد منهما بمتعلّق خاص ،‏‎ ‎‏وحیث لا یکون قادراً علی جمعهما فی مقام الامتثال ولا مرجّح فی البین یحکم‏‎ ‎‏العقل بالتخیـیر .‏

‏وأ مّا هنا فالتکلیف المتعلّق بتصدیق العادل تکلیف طریقی ، ومرجعـه إلی‏‎ ‎‏لزوم متابعـة الخبر لکونـه طریقاً وکاشفاً عن الواقع ، ولا معنی للحکم بالتخیـیر‏‎ ‎‏بین الطریقین اللذین کانت حجّیتهما لأجل الطریقیّـة ، والعقل یحکم بتساقطهما‏‎ ‎‏لامتناع ثبوت الکاشفیـة لهما ، ضرورة أنّـه لا معنی للتخیـیر بین الخبرین بکون‏‎ ‎‏کلّ واحد منهما کاشفاً مع عدم العمل بالآخر ، کما لایخفی ، هذا .‏

‏وأ مّا بناءً علی کون المستفاد من النقل هو الحجّیـة من باب السببیـة فالأمر‏‎ ‎‏وإن کان یدور بین رفع الید عن العموم وتقیـید الإطلاق ، إلاّ أنّک عرفت فیما تقدّم‏‎ ‎‏أنّ ترجیح التقیـید علی التخصیص إنّما هو فیما إذا کان الأمر دائراً بین التصرّف فی‏‎ ‎‏دلیل بالتخصیص والتصرّف فی ذلک الدلیل بالتقیـید .‏

‏هذا کلّـه بناءً علی الطریقیّـة .‏

‎ ‎

کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 384

  • )) فوائد الاُصول ( تقریرات المحقّق النائینی ) الکاظمی 4 : 755 ـ 756 .
  • )) کفایـة الاُصول : 499 .