وجوه ورود ا‏لعامّ وا‏لخاصّ وا‏لدوران بین ا‏لنسخ وا‏لتخصیص

وجوه ورود العامّ والخاصّ والدوران بین النسخ والتخصیص

‏ ‏

‏وکیف کان فصور الدوران ثلاث :‏

‏إحداها : ما إذا کان العامّ متقدّماً ، ودار أمر المتأخّر بین کونـه نسخاً أو‏‎ ‎‏تخصیصاً لاحتمال کون العموم حکماً ظاهریّاً والخاصّ حکماً واقعیاً ، فلا محذور‏‎ ‎‏فی تأخیر بیانـه عن وقت العمل .‏

‏ثانیتها : ما إذا کان الخاصّ متقدّماً والعامّ متأخّراً ، ودار الأمر بین تخصیصـه‏‎ ‎‏وکونـه ناسخاً للخاصِّ.‏

‏ثالثتها : ما إذا ورد عامّ وخاصّ ولم یعلم المتقدّم منهما عن المتأخّر ، ودار‏‎ ‎‏الأمر بین النسخ والتخصیص .‏

‏ثمّ إنّ استمرار الحکم زماناً قد یستفاد من إطلاق الدلیل ، وقد یستفاد من‏‎ ‎‏عمومـه الراجع إلی کلّ ما وجد وکان فرداً لـه ، وهو الذی یعبّر عنـه بالقضیّـة‏‎ ‎‏الحقیقیّـة ، وقد یستفاد من الدلیل اللفظی کقولـه ‏‏علیه السلام‏‏ : « ‏حلال محمّد ‏صلی الله علیه و آله وسلم‏‏ حلال‏‎ ‎إلی یوم القیامـة وحرامـه ‏صلی الله علیه و آله وسلم‏‏ حرام ‏إلی یوم القیامـة‏ »‏‎[1]‎‏ . وقولـه ‏‏صلی الله علیه و آله وسلم‏‏ :‏‎ ‎‏« ‏حکمی علی الأوّلین حکمی علی الآخرین‏ »‏‎[2]‎‏ . ونظائرهما .‏

‏إذا عرفت ذلک فنقول : إذا کانت صورة الدوران بین النسخ والتخصیص من‏‎ ‎‏قبیل الصورة الاُولی من الصور الثلاثـة المتقدّمـة التی هی عبارة عن تقدّم العامّ‏‎ ‎‏ودوران الأمر فی المتأخّر بینهما ، وفرض استفادة الاستمرار الزمانی من إطلاق‏‎ ‎


کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 359
‏الدلیل ، فقد یقال فیها : بأنّ مرجع هذا الدوران إلی الدوران بین التخصیص‏‎ ‎‏والتقیـید ، وحیث قد رجّح الثانی علی الأوّل هناک فلابدّ من الالتزام هنا أیضاً‏‎ ‎‏بتقدیم النسخ علی التخصیص .‏

‏ولکنّـه یرد علیـه بأنّ ترجیح التقیـید علی التخصیص فیما سبق إنّما هو‏‎ ‎‏فیما إذا کان العامّ والمطلق متنافیـین بأنفسهما ولم یکن فی البین دلیل ثالث ، بل‏‎ ‎‏کان الأمر دائراً بین ترجیح العامّ وتقیـید المطلق وبین العکس کقولـه : « أکرم‏‎ ‎‏العلماء » ، مع قولـه : « لا تکرم الفاسق » . وهنا لا منافاة بین العامّ والمطلق أصلاً ،‏‎ ‎‏بل التعاند بینهما إنّما نشأ من أجل دلیل ثالث لا یخلو أمره من أحد أمرین : کونـه‏‎ ‎‏مخصّصاً للعامِّ، ومقیّداً للمطلق ، ولا دلیل علی ترجیح شیء منهما علی الآخر بعد‏‎ ‎‏کون کلّ واحد منهما دلیلاً تامّاً ، بخلاف ما هناک ، فإنّ التعارض من أوّل الأمر کان‏‎ ‎‏بین العامّ الذی هو ذو لسان ، وبین المطلق الذی هو ألکن ، ومن الواضح أنّـه لا‏‎ ‎‏یمکنـه أن یقاوم ذا اللسان ، کما لایخفی .‏

‏ثمّ إنّـه قد یقال : بأنّ الأمر فی المقام دائـر بین التخصیص والتقیـید معاً‏‎ ‎‏وبین التقیـید فقط ، ضرورة أنّـه مع التخصیص لابدّ من الالتزام بتقیـید الإطلاق‏‎ ‎‏المقامی الدالّ علی الاستمرار الزمانی أیضاً ، وهذا بخلاف العکس .‏

‏ومن الواضح أنّـه مع کون الأمر هکذا لا مجال للإشکال فی ترجیح‏‎ ‎‏التقیـید ، کما هو واضح ، هذا .‏

‏ویرد علیـه : منع کون التخصیص مستلزماً للتقیـید أیضاً ، ضرورة أنّـه‏‎ ‎‏بالتخصیص یستکشف عدم کون مورد الخاصّ مراداً من أوّل الأمر ، ومعـه‏‎ ‎‏لا یکون الدلیل الدالّ علی الاستمرار الزمانی شاملاً لـه من رأس ، لعدم کـونـه‏‎ ‎‏موضوعاً له ، ضرورة أنّ موضوعـه هو الحکم الثابت فی زمان ، کمالایخفی ، هذا .‏


کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 360
‏وقد یقال فی المقام أیضاً : بأنّ العلم الإجمالی بالتخصیص أو النسخ یرجع‏‎ ‎‏إلی دوران الأمر بین الأقلّ والأکثر ، لأنّ عدم ثبوت حکم العامّ بالنسبـة إلی مورد‏‎ ‎‏الخاصّ بعد ورود الخاصّ متیقّن علی أیّ تقدیر ، سواء کان علی نحو التخصیص أو‏‎ ‎‏النسخ ، وثبوتـه بالنسبـة إلی مورده قبل وروده مشکوک ، لأنّها تـتفرّع علی کونـه‏‎ ‎‏نسخاً وهو غیر معلوم ، فالأمر یدور بین الأقلّ المتیقّن والأکثر المشکوک ، وبـه‏‎ ‎‏ینحلّ العلم الإجمالی ، ومقتضی جریان البراءة فی المشکوک عدم کونـه محکوماً‏‎ ‎‏بحکم العامِّ، وحینئذٍ تـتحقّق نتیجـة التخصیص .‏

‏وبعبارة اُخری : مقتضی العلم الإجمالی بالتخصیص أو النسخ هو ترجیح‏‎ ‎‏الأوّل علی الثانی ، لما عرفت ، هذا .‏

‏ویدفعـه ما أشرنا إلیـه مراراً من أنّ ما یکون مقوّماً للعلم الإجمالی من‏‎ ‎‏الاحتمالین لا یمکن أن یکون العلم الإجمالی الذی قوامـه بـه سبباً لإفنائـه .‏

‏وبعبارة اُخری : لا یمکن أن یصیر العلم الإجمالی سبباً لارتفاعـه وانقلابـه‏‎ ‎‏إلی العلم التفصیلی والشکّ البدوی ، ضرورة أنّـه لا یعقل أن یکون الشیء سبباً‏‎ ‎‏لارتفاع نفسـه . فدعوی أنّ العلم الإجمالی بالتخصیص والنسخ یتولّد منـه تعیّن‏‎ ‎‏التخصیص ممّا لا ینبغی الإصغاء إلیـه .‏

‏هذا کلّـه إذا کان الاستمرار الزمانی مستفاداً من الإطلاق المقامی ، وأمّا لو‏‎ ‎‏فرض کونـه مدلولاً علیـه بالعموم الراجع إلی القضیّـة الحقیقیّـة ، ودار الأمر بین‏‎ ‎‏تخصیصـه وتخصیص العموم ، فالظاهر ترجیح تخصیص العموم المستفاد منـه‏‎ ‎‏الاستمرار الزمانی ، لأنّ الأمر وإن کان دائراً بین التخصیصین ، إلاّ أنّـه لمّا کان‏‎ ‎‏النسخ الذی مرجعـه إلی تخصیص العموم الدالّ علی الاستمرار الزمانی مستلزماً‏‎ ‎‏لقلّـة التخصیص ، بخلاف تخصیص العموم ، فالترجیح معـه ، کما هو ظاهر .‏


کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 361
‏کما أنّـه لو کان الاستمرار الزمانی مستفاداً من الدلیل اللفظی فإن قلنا‏‎ ‎‏بدلالتـه علی العموم نظراً إلی أنّ المفرد المضاف یفید العموم ، فحکمـه حکم‏‎ ‎‏الصورة السابقـة التی یستفاد الاستمرار الزمانی فیها من العموم ، وإن لم نقل بذلک‏‎ ‎‏فحکمـه حکم الصورة التی یستفاد الاستمرار من الإطلاق ، کما لایخفی .‏

‏هذا کلّـه فیما إذا کان العامّ متقدّماً والخاصّ المردّد متأخّراً .‏

‏وأمّا فی الصورة الثانیـة التی هی عکس هذه الصورة ، فإن کان الاستمرار‏‎ ‎‏مستفاداً من الإطلاق فالظاهر ترجیح التخصیص علی النسخ ، لأنّ النسخ وإن کان‏‎ ‎‏مرجعـه حینئذٍ إلی تقیـید الإطلاق المقامی الدالّ علی استمرار الزمان ، وقد قلنا :‏‎ ‎‏إنّ التقیـید مقدّم علی التخصیص ، إلاّ أنّ ذلک إنّما هـو فیما إذا کان النسبـة بین‏‎ ‎‏الدلیلین العموم مـن وجـه کقولـه : « أکرم العلماء » و« لا تکرم الفاسق » .‏

‏وأمّا لو کانت النسبـة بین الدلیلین العموم مطلقاً ـ کما هنا ـ فالظاهر ترجیح‏‎ ‎‏التخصیص علی التقیـید ، لأنّـه لا یلاحظ فی العامّ والخاصّ قوّة الدلالـة وضعفها‏‎ ‎‏کما عرفت مقتضی التحقیق من أنّ بناء العقلاء علی تقدیم الخاصّ علی العامّ من‏‎ ‎‏دون فرق بین کونـه متقدّماً علیـه أو متأخّراً عنـه .‏

‏وأمّا لـو کان الاستمرار مستفاداً مـن العموم الثابت للخاصّ لکونـه قضیّـة‏‎ ‎‏حقیقیّـة ، فلا إشکال هنا فی التخصیص أصلاً ، لقوّة دلالـة الخاصّ علی ثبوت‏‎ ‎‏الحکم لمورده حتّی بعد ورود العامِّ، فلابدّ من أن یکون مخصّصاً لـه ، کما لایخفی .‏

‏کما أنّـه لو کان الاستمرار مستفاداً من الدلیل اللفظی لابدّ من ترجیح‏‎ ‎‏التخصیص ، لأنّ الخاصّ وإن لم یکن قویّاً من حیث هو ، إلاّ أنّـه یتقوّی بذلک‏‎ ‎‏الدلیل اللفظی الذی یدلّ علی استمرار حکمـه حتّی بعد ورود العامِّ، ومعـه‏‎ ‎‏یخصّص العامّ لا محالـة ، هذا فی الصورة الثانیـة .‏


کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 362
‏وأمّا فی الصورة الثالثـة التی دار الأمر بین النسخ والتخصیص ولم یعلم‏‎ ‎‏المتقدّم من العامّ والخاصّ عن المتأخّر ، فالظاهر فیها ترجیح التخصیص أیضاً ،‏‎ ‎‏لغلبتـه وندرة النسخ .‏

‏ودعوی أنّ هذه الغلبـة لا تصلح للترجیح ، مدفوعـة بمنع ذلک واستلزامـه‏‎ ‎‏لعدم کون الغلبـة مرجّحـة فی شیء من الموارد ، لأنّ هذه الغلبـة من الأفراد‏‎ ‎‏الظاهرة لها ، کیف وندرة النسخ تجد لا یکاد یتعدّی عن الموارد القلیلـة‏‎ ‎‏المحصورة ، وأمّا التخصیص فشیوعـه إلی حدّ قیل : « ما من عامّ إلاّ وقد خصِّ» ،‏‎ ‎‏واحتمال النسخ بعد تحقّق هذه الغلبـة أضعف من الاحتمال الذی لا یعتنی بـه‏‎ ‎‏العقلاء فی الشبهـة غیر المحصورة ، فعدم اعتنائهم بـه أولی ، کما لایخفی .‏

‎ ‎

کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 363

  • )) الکافی 1 : 58 / 19 .
  • )) اُنظر الکافی 5 : 18 / 1 ، وفیـه : « لأنّ حکم اللّٰه فی الأوّلین والآخرین . . . سواء » .