تعارض العموم والإطلاق
فمنها : ما إذا تعارض العامّ الاُصولی والمطلق الشمولی علی اصطلاحهم ، ودار الأمر بین تقیـید المطلق وتخصیص العامّ کقولـه : « أکرم العلماء » و« لا تکرم الفاسق » . فالشیخ قدس سره ذهب فی الرسائل إلی ترجیح التقیـید علی التخصیص ، وتبعـه علـی ذلـک المحقّـق النائینی قدس سره ولکنّـه خـالف فـی ذلـک المحقّـق الخراسانی وتبعـه المحقّق الحائری .
ومحصّل ما أفاده المحقّقان الأوّلان یرجع إلی أنّ شمول العامّ لمورد الاجتماع أظهر من شمول المطلق لـه ، لأنّ شمول العامّ لمادّة الاجتماع یکون بالوضع ، وشمول المطلـق یکون بمقدّمات الحکمـة ، ومـن جملتها عدم ورود مـا یصلح أن یکون بیاناً للقید ، والعامّ الاُصولی یصلح لأن یکون بیاناً لذلک ، فلا تـتمّ مقدّمات الحکمـة فی المطلق الشمولی ، فلابدّ من تقدیم العامّ علیـه .
أقول : لابدّ أوّلاً من بیان أنّ محلّ النزاع ممحّض فی ما إذا کان التعارض بین
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 348
العامّ والمطلق مع اجتماع شرائطهما فی أنفسهما ، بحیث کانت أصالـة العموم فی العامّ جاریـة مع قطع النظر عن المطلق ، وکذا أصالـة الإطلاق فی المطلق مع قطع النظر عن العامّ بأن کان المتکلّم ممّن لا یکون بناؤه علی إیراد الحکم علی سبیل العموم ثمّ بیان المخصّصات ، بأن لا یکون فی مقام التقنین وجعل الأحکام الکلّیـة کأکثر المتکلّمین ، أو کان المخاطب قد فحص عن المخصّص أو المقیّد فلم یظفر به .
فدعوی أنّ الإطلاق معلّق علی عدم البیان بخلاف العموم ، مدفوعـة بأنّ العموم أیضاً معلّق علی عدم المخصّص ، فلا فرق بینهما من هذه الجهـة أصلاً ، فمورد البحث متمحّض فی مجرّد التعارض بین العامّ والمطلق من دون فرق بینهما من جهـة الفحص وعدمـه .
ونقول بعد ذلک : إنّ نسبـة المخصّص مع العامّ وإن کانت تغایر نسبـة المقیّد مع المطلق ، إلاّ أنّ ذلک لا یوجب ترجیحاً لأحدهما علی الآخر .
توضیح ذلک : أنّ التعاند الواقع بین العامّ والخاصّ تعاند دلالی ، فإنّ العامّ یدلّ علی جمیع الأفراد بالدلالـة الإجمالیّـة ، فإنّ قولـه : « أکرم کلّ عالم » ، یدلّ علی وجوب إکرام کلّ واحد من أفراد هذه الطبیعـة بما أنّـه فرد لها ، ضرورة أنّ عالماً موضوع لنفس الطبیعـة المطلقـة ، والکلّ یدلّ علی تکثیرها المتحقّق بالإشارة إلی أفرادها لا بجمیع خصوصیاتها ، بل بما أنّها مـن أفـرادها ، کما حقّقناه مراراً ، فهذا القول دالّ بالدلالـة اللفظیـة علی وجوب إکرام الجمیع ، والخاصّ یعانده من حیث الدلالة بالنسبة إلی المقدار الذی خصّص العامّ بـه ، فهما متنافیان من حیث الدلالة اللفظیة . غایة الأمر تقدّم الخاصّ علی العامِّ، إمّا لما ذکرنا سابقاً أو لغیره .
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 349
وأمّا المطلق فدلالتـه علی الإطلاق لیست دلالـة لفظیّـة ، ضرورة أنّ اللفظ الدالّ علیـه لا یکاد یتخطّی عن المعنی الذی وضع لـه ، سواء بقی علی إطلاقـه أو قیّد ، بل الإطلاق إنّما ینشأ من عدم الإشارة إلی القید مع کون المطلق بصدد البیان ، والتقیـید إنّما ینافیـه من حیث إنّـه یذکر القید ویأتی بـه .
فاحتجاج العبد علی المولی فی باب المطلقات إنّما یرجع إلی أنّـه لم یقیّد موضوع حکمـه مع کونـه فاعلاً مختاراً ، وفی باب العمومات یرجع إلی أنّـه لم یقل بخلاف العامِّ، إلاّ أنّ هذا الاختلاف لا یوجب الفرق بینهما فی مقام تعارض العامّ والمطلق بحیث یکون العامّ أقوی من حیث الدلالـة ، کما لایخفی .
نعم قد ذکرنا غیر مرّة أنّ اللفظ المطلق لا یدلّ إلاّ علی مجرّد نفس الطبیعـة ، وانطباقها فی الخارج علی کلّ واحد من أفرادها لا یوجب دلالـة اللفظ الموضوع لنفس الطبیعـة علی الأفراد والکثرات أیضاً ، فإنّ للدلالـة مقاماً وللانطباق مقاماً آخر ولا ربط بینهما ، فماهیّـة الإنسان وطبیعتها وإن کانت تنطبق علی زید وعمرو وغیرهما من مصادیق هذه الحقیقـة ، إلاّ أنّ لفظ الإنسان الموضوع لتلک الماهیّـة لا دلالـة لـه علی هذه الکثرات أصلاً ، ولعمری أنّ هذا واضح جدّاً .
ولا فرق فی ذلک بین ما إذا تمّت مقدّمات الحکمـة المنتجـة لثبوت الإطلاق ، وبین ما إذا لم تـتمِّ، لعدم کون المولی فی مقام البیان مثلاً ، بل کان فی مقام الإهمال والإجمال ، فإنّ الإطلاق وضدّه إنّما یلاحظان بالنسبـة إلی
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 350
الموضوعیّـة للحکم ، ولا ربط لهما بمقام الدلالـة ، فإنّ الإنسان المأخوذ فی الموضوع ـ مثلاً ـ لا دلالـة لـه إلاّ علی نفس ماهیّـة الإنسان التی هی حیوان ناطق ، سواء کان مطلقاً من حیث الموضوعیّـة بأن کان تمام الموضوع هو نفسها أم لم یکن کذلک .
ومنـه یظهر : أنّ إدراج تعارض المطلق والعامّ فی تعارض الأظهر والظاهر بالنسبـة إلی مورد الاجتماع لیس فی محلّـه ، من حیث إنّ الأظهریّـة والظاهریّـة إنّما هما من أوصاف الدلالـة وحالاتها ، والمطلق لا دلالـة لـه علی مورد الاجتماع حتّی تـتصف بالظهور ، لأنّک عرفت أنّـه لا دلالـة لـه إلاّ علی مجرّد نفس الطبیعـة والکثرات المتّحدة فی الخارج معها خارجـة عن مدلولـه .
کما أنّـه ظهر ممّا ذکرنا : أنّ تسمیـة هذا المطلق بالمطلق الشمولی ممّا لا وجـه لـه ، لأنّ الشمول فرع الدلالـة علی الأفراد ، والمطلق أجنبی عـن الدلالـة علیها .
فانقدح : أنّ المطلق غیر ناظر إلی الموجودات المتّحدة معها فی الخارج أصلاً ، لکن الاحتجاج بـه یستمرّ إلی أن یأتی من المولی ما یدلّ علی خلافـه . فالبیان المتأخّر قاطع للاحتجاج ، لا أنّ الإطلاق معلّق من أوّل الأمر علیـه . ومن المعلوم أنّ العامّ لأجل تعرّضـه بالدلالـة اللفظیـة للأفراد والکثرات ـ لأجل تعدّد الدالّ والمدلول ، ضرورة أنّـه یدلّ تالی مثل لفظ الکلّ علی نفس الطبیعـة . غایـة الأمر أنّ إضافـة الکلّ الموضوع لإفادة الکثرة إلیـه توجب الدلالـة علی الأفراد والإشارة إلیها لا بجمیع خصوصیاتها ، بل بما أنّها مصادیق لتلک الطبیعـة ـ یصلح لأن یکون بیاناً قاطعاً للاحتجاج .
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 351
فظهر أنّ العامّ مقدّم علی المطلق بهذا الوجـه الذی ذکرنا ، ولعلّـه إلیـه یرجع ما أفاده الشیخ قدس سره فی وجهـه وإن کان ربّما لا یساعده ظاهر العبارة فارجع إلیها .
ثمّ إنّـه ظهر ممّا ذکرنا من عدم الفرق بین المطلقات فیما یرجع إلی معنی الإطلاق ، وأنّ تسمیـة المطلق بالشمولی فی بعض الموارد وبالبدلی فی البعض الآخر لا وجـه لها أصلاً ، أنّـه عند تعارض الإطلاق الشمولی والإطلاق البدلی علی حسب اصطلاحهم الغیر التامّ لا وجـه لتقدیم تقیـید الثانی علی تقیـید الأوّل ، نظراً إلی أنّ الإطلاق الشمولی یمنع عن کون الأفراد فی الإطلاق البدلی متساویـة الإقدام فی حصول الامتثال بأیّ منها ، وذلک لما عرفت من اتّحادهما فیما یرجع إلی معنی الإطلاق ، ولا دلالـة لشیء منهما علی الأفراد شمولاً أو بدلیّاً ، فلا ترجیح لواحد منهما علی الآخر ، کما لایخفی .
کما أنّـه ظهر ممّا ذکرنا : أنّـه عند تعارض بعض المفاهیم مع البعض الآخر لا ترجیح لواحد منهما علی الآخر لو کان ثبوت کلّ منهما بضمیمـة مقدّمات الحکمـة ، کما فی مفهوم الشرط ومفهوم الوصف .
نعم لو کان أحد المتعارضین ممّا ثبت بالدلالـة اللفظیـة کما لایبعد دعوی ذلک بالنسبـة إلی مفهوم الغایـة وکذا مفهوم الحصر ، فالظاهر أنّـه حینئذٍ لابدّ من ترجیحـه علی الآخر ، لما مرّ من ترجیح العامّ علی المطلق الراجع إلی تقدیم التقیـید علی التخصیص .
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 352