الفصل الثالث فی القاعدة المشهورة وهی : أنّ الجمع بین الدلیلین مهما أمکن أولی من الطرح
وظاهرها الإطلاق من حیث وجود المرجّح وعدمـه ، فیکون الجمع مع وجـود المرجّح أولی من الترجیح ومع التعادل أولی من التخیـیر ، وقد ادّعی علیها الإجماع .
قال الشیخ ابن أبی جمهور الإحسائی فی محکی عوالی اللآلی : إنّ کلّ حدیثین ظاهرهما التعارض یجب علیک أوّلاً البحث عن معناهما وکیفیّـة دلالـة ألفاظهما ، فإن أمکنک التوفیق بینهما بالحمل علی جهات التأویل والدلالات فأحرص علیـه واجتهد فی تحصیلـه ، فإنّ العمل بالدلیلین مهما أمکن خیر من ترک أحدهما وتعطیلـه بإجماع العلماء ، فإذا لم تـتمکّن من ذلک ولم یظهر لک وجـه فارجع إلی العمل بهذا الحدیث ، انتهی .
وأشار بهذا إلی مقبولـة عمر بن حنظلـة . هذا ، ولکن الظاهر أنّ مـراده مـن الجمع بین الدلیلین هو الجمع العقلائی فی الموارد التی لا تکون الأدلّـة فیها متعارضـة کالعامّ والخاصّ والمطلق والمقیّد ، والدلیل علی ذلک أمران :
أحدهما : دعواه الإجماع علی ذلک ، مع أنّـه لا إجماع فی غیر تلک الموارد
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 338
لو لم نقل بثبوت الإجماع علی خلافـه ، من حیث إنّ علماء الإسلام من زمن الصحابـة إلی یومنا هذا لم یزالوا یستعملون المرجّحات فی الأخبار المتعارضـة بظواهرها ، ثمّ اختیار أحدهما وطرح الآخر من دون تأویلهما معاً لأجل الجمع .
ثانیهما : الاستدلال علی هذه القاعدة بأنّ دلالـة اللفظ علی تمام معناه أصلیّـة ، وعلی جزئـه تبعیّـة ، وعلی تقدیر الجمع یلزم إهمال دلالـة تبعیّـة ، وهو أولی ممّا یلزم علی تقدیر عدم الجمع وهو إهمال دلالـة أصلیـة . فإنّ هذا الدلیل یناسب مع ما إذا کان الجمع مستلزماً للتصرّف فی جزء مدلول الآخر ، وهو یتحقّق بالنسبـة إلی العامّ والخاصِّ، فإنّ الجمع بینهما یقتضی إهمال الدلالـة التبعیّـة الثابتـة للعامِّ، کما هو واضح .
وکیف کان : فإن کان المراد من القاعدة ما ذکرنا فلا بأس بها ، لما عرفت فی العامّ والخاصِّ.
وإن کان المراد منها ما هو ظاهرها من أنّ الجمع بین الدلیلین ولو کانا متعارضین عند العقلاء مهما أمکن ولو بالحمل علی جهات التأویل أولی من الطرح ، فیرد علیها عدم الدلیل علی إثباتـه من إجماع أو غیره ، کدعوی أنّ الأصل فی الدلیلین الإعمال ، فیجب الجمع بینهما مهما أمکن ، لاستحالـة الترجیح من غیر مرجّح .
وقد فصّل الکلام فی هذا المقام الشیخ المحقّق الأنصاری قدس سره فی الرسائل ، بل أتعب نفسـه الشریفـة لإثبات عدم ثبوت مستند للقاعدة وإن کان
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 339
لا یخلو بعض مواقع کلامـه عن النظر ، کدعواه أنّـه لا إشکال ولا خلاف فی أنّـه إذا وقع التعارض بین ظاهری مقطوعی الصدور کآیتین أو متواترین وجب تأویلهما والعمل بخلاف ظاهرهما ، لأنّ القطع بصدورهما عن المعصوم قرینـة صارفـة لتأویل کلّ من الظاهرین .
فإنّـه یرد علیـه : أنّ القطع بالصدور لا یوجب التصرّف فی الظاهر ، بمعنی أنّـه لا ینحصر طریق دفع التعارض بذلک ، بل یمکن التصرّف فی جهـة صدور واحد منهما بدعوی عدم کونـه صادراً لأجل بیان الحکم الواقعی ، کما لایخفی . وبالجملـة : فالقاعدة بالمعنی المذکور لم یدلّ علیـه دلیل أصلاً .
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 340