ادلّـة وجوب ا‏لفحص

‏ ‏

ادلّـة وجوب الفحص

‏ ‏

‏أمّا البراءة العقلیّـة التی مدرکها قبح العقاب بلا بیان والمؤاخذة بلا برهان‏‎ ‎‏فلا إشکال فی اعتبار الفحص فیها ، لأنّها متفرّعـة علی عدم البیان ، والمراد بـه‏‎ ‎‏وإن کان هو البیان الواصل إلی المکلّف جزماً ، إلاّ أنّ مناط الوصول لیس هو أن‏‎ ‎‏یُعلم المولی کلّ واحد من المکلّفین بحیث یسمعـه کلّ واحد منهم ، بل وصولـه‏‎ ‎‏یختلف حسب اختلاف الموالی والعبید .‏

‏فالمولی المقنّن للقوانین العامّـة الثابتـة علی جمیع المکلّفین یکون‏‎ ‎‏إیصالـه للأحکام من الأوامر والنواهی إنّما هو بإرسال الرسل وإنزال الکتب ثمّ‏‎ ‎‏الأحادیث المرویّـة عن أنبیائـه وأوصیائهم المحفوظـة فی الکتب التی بأیدی‏‎ ‎‏المکلّفین ، بحیث یتمکّن کـلّ واحـد منهم مـن المراجعـة إلیها والاطّلاع علی‏‎ ‎


کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 305
‏أحکام اللّٰه جلّ شأنـه . وحینئذٍ : فالملاک فی تحقّق البیان الذی لا یقبح العقاب‏‎ ‎‏والمؤاخذة معـه هو أنّ أمر اللّٰه تعالی رسولـه بتبلیغـه وقـد بلّغـه الرسول علی‏‎ ‎‏نحو المتعارف وصار مضبوطاً فی الکتب المعدّة لـه ، ومـع فقدان أحـد هـذه‏‎ ‎‏الشروط یصدق عدم البیان ویقبح العقاب معـه . وحینئذٍ فمع احتمال المکلّف‏‎ ‎‏ثبوت التکلیف المبیّن الـواصل بحیث لـو فحص لظفـر بـه لا یجـوز الاعتماد‏‎ ‎‏علی البراءة التی مدرکها قبح العقاب بلا بیان ، کما أنّ العبد العرفی لو وصل إلیـه‏‎ ‎‏مکتوب من ناحیـة مولاه واحتمل أن یکون المکتوب متضمّناً لبعض التکالیف‏‎ ‎‏لا یجـوز لـه القعود عنـه بعد عـدم المراجعـة إلیـه استناداً إلـی أنّ المولی لم‏‎ ‎‏یبیّن حکمـه ، ولا یکون مثل هـذا العبد معذوراً عند العقلاء جـزماً ، کما هـو‏‎ ‎‏غیر خفی .‏

‏ثمّ إنّـه قد یستشکل فی وجوب الفحص وعدم جریان البراءة قبلـه بأنّ‏‎ ‎‏الحکم ما لم یتّصف بوصف المعلومیّـة لا یکون باعثاً ومحرِّکاً ، ضرورة أنّ البعث‏‎ ‎‏بوجوده الواقعی لا یصلح للمحرّکیـة ، وإلاّ لکان اللازم تحقّق الانبعاث بالنسبـة‏‎ ‎‏إلی الجاهل بـه المعتقد عدمـه ، بل قد عرفت سابقاً‏‎[1]‎‏ أنّـه لا یعقل أن یکون‏‎ ‎‏الانبعاث مسبّباً عـن البعث الواقعی ، بل الانبعاث دائماً مسبّب عـن البعث بوجوده‏‎ ‎‏العلمی الذی هی الصورة الذهنیـة الکاشفـة عنـه ، والأوامـر إنّما تتّصف‏‎ ‎‏بالباعثیّـة والمحرّکیـة بالعرض ، کما أنّ اتّصافها بوصف المعلومیـة أیضاً کذلک ،‏‎ ‎‏ضرورة أنّ المعلوم بالـذات ، إنّما هـی نفس الصورة الحاضـرة عند النفس ، کما‏‎ ‎‏حقّق فی محلّـه .‏


کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 306
‏وبالجملـة : فالبعث الواقعی لا یکون باعثاً ما لم یصر مکشوفاً ، والکاشف‏‎ ‎‏عنـه إنّما هو العلم ونحوه . وأمّا الاحتمال فلا یعقل أن یکون کاشفاً ، وإلاّ لکان‏‎ ‎‏اللازم أن یکشف عن طرفی الوجود والعدم ، کما هو واضح . فمع الاحتمال لا‏‎ ‎‏یکون البعث الواقعی باعثاً ومحرّکاً ، وبدون الباعثیّـة لا یمکن أن یکون منجّزاً ،‏‎ ‎‏ومع عدم التنجّز لا وجـه لاستحقاق العقوبـة علی مخالفتـه ، وهذا بلا فرق بین‏‎ ‎‏کون المکلّف قادراً علی الفحص وعدمـه .‏

‏ویرد علیـه أوّلاً : النقض بما إذا قامت الحجّـة المعتبرة من قبل المولی علی‏‎ ‎‏ثبوت التکلیف وفرض عدم إفادتها الظنِّ، بل کان التکلیف مع قیام الأمارة أیضاً‏‎ ‎‏مشکوکاً أو مظنون الخلاف ، فإنّـه یجری فیـه هذا الإشکال ، ومقتضاه حینئذٍ عدم‏‎ ‎‏ثبوت العقاب علی مخالفتـه علی تقدیر ثبوتـه فی الواقع ، مع أنّـه واضح البطلان ،‏‎ ‎‏وإلاّ یلزم لغویّـة اعتبار الأمارة ، کما هو واضح ، مضافاً إلی أنّـه لا یلتزم بـه‏‎ ‎‏المستشکل أیضاً .‏

‏وثانیاً : الحلّ بأنّـه لا نسلّم أن یکون المنجّزیّـة متفرّعـة علی الباعثیّـة ، لأنّ‏‎ ‎‏المنجّزیـة الراجعـة إلی صحّـة عقوبـة المولی علی المخالفـة والعصیان حکم‏‎ ‎‏عقلی ، وقد عرفت أنّ العقل یحکم بعدم المعذوریّـة وبصحّـة العقوبـة لو بیّن‏‎ ‎‏المولی التکلیف بنحو المتعارف ، بحیث کان العبد متمکّناً من الاطّلاع علیـه‏‎ ‎‏بالمراجعـة إلی مظانّ ثبوتـه ولم یراجع ، فخالف اعتماداً علی البراءة کما عرفت‏‎ ‎‏فی مثال المکتوب الواصل من المولی إلی العبد ویحتمل اشتمالـه علی بعض‏‎ ‎‏التکالیف ، والظاهر أنّ هذا من الوضوح بمکان ، فلا موقع لهذا الإشکال .‏

ثمّ إنّـه قد یقرّر وجوب الفحص بوجـه آخر‏ ، ومحصّلـه : أنّ ارتکاب التحریم‏‎ ‎‏قبل الفحص والمراجعـة إلی مظانّ ثبوتـه ظلم علی المولی ، والظلم خصوصاً ‏


کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 307
‏علی المولی قبیح محرّم ، فلو اقتحم فی المشتبـه قبل الفحص یستحقّ العقوبـة‏‎ ‎‏لأجل الظلم علی المولی ، کما أنّـه فی موارد التجرّی یستحقّ العقوبـة علیـه وإن‏‎ ‎‏کان لا یستحقّ العقوبـة علی مخالفـة الواقع فی المقامین .‏

‏ویرد علیـه : أنّ تحقّق عنوان الظلم فی المقام لیس إلاّ من جهـة احتمال‏‎ ‎‏حصول المخالفـة بالاقتحام فی المشتبـه ، ضرورة أنّـه مع العلم بعدم وجود‏‎ ‎‏التکلیف فی البین لا یکون مجرّد ترک الفحص من مصادیق ذلک العنوان ، فترک‏‎ ‎‏الفحص وارتکاب محتمل التحریم إنّما یکون ظلماً لأجل احتمال تحقّق المخالفـة‏‎ ‎‏التی هی قبیحـة موجبـة لاستحقاق العقوبـة .‏

‏وحینئذٍ نقول : بعد جریان حکم العقل بقبح العقاب بلا بیان ولو قبل ترک‏‎ ‎‏الفحص ـ کما هو المفروض ـ لا یبقی مجال لاحتمال تحقّق المخالفـة القبیحـة‏‎ ‎‏أصلاً ومع انتفاء هذا الاحتمال یخرج المقام عن تحت عنوان الظلم علی المولی ،‏‎ ‎‏کما هو واضح .‏

‏ومن هنا یظهر الفرق بین المقام وبین مسألـة التجرّی : فإنّ الموضوع‏‎ ‎‏للحکم بالقبح والحرمـة هناک علی تقدیر ثبوتـه إنّما هو نفس عنوان التجرّی ،‏‎ ‎‏الراجع إلی الطغیان علی المولی والخروج عن رسم الرقیّـة والعبودیّـة ، وهذا لا‏‎ ‎‏یتوقّف تحقّقـه علی ثبوت التکلیف ، بل یصدق علی کلا التقدیرین ، بخلاف المقام .‏‎ ‎‏فإنّ تحقّق عنوان الظلم یتوقّف علی عدم حکم العقل بقبح العقاب ولو قبل‏‎ ‎‏الفحص ، والمفروض حکمـه بذلک مطلقاً ، فتدبّر ، هذا .‏

وقد یقرّر حکم العقل بوجوب الفحص بوجـه ثالث وهو‏ : أنّ کلّ من التفت‏‎ ‎‏إلی المبدء والشریعـة یعلم إجمالاً بثبوت أحکام فیها ، ومقتضی العلم الإجمالی‏‎ ‎‏هو الفحص عن تلک الأحکام .‏


کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 308
‏ولا یخفی ضعف هذا الوجـه ، لأنّ الکلام إنّما هو فی شرائط جریان أصل‏‎ ‎‏البراءة بعد کون المورد المفروض مجری لها ، وقد عرفت أنّ مجریها هو الشکّ فی‏‎ ‎‏أصل التکلیف وعدم العلم بـه لا إجمالاً ولا تفصیلاً . فلو فرض ثبوت العلم‏‎ ‎‏الإجمالی یخرج المورد عن مجریها ، فالتمسّک لاعتبار وجوب الفحص فی‏‎ ‎‏جریانها بالعلم الإجمالی لا یبقی لـه موقع أصلاً ، کما هو أظهر من أن یخفی . ولکن‏‎ ‎‏حیث إنّـه وقع مورداً للنقض والإبرام بین الأعلام فلا مانع من التعرّض لحالـه بما‏‎ ‎‏یسعـه المقام ، فنقول :‏

‏قد نوقش فی الاستدلال بالعلم الإجمالی لوجوب الفحص تارةً : بأنّـه‏‎ ‎‏أخصّ من المدّعی ، لأنّ المدّعی هو وجوب الفحص والاستعلام فی کلّ مسألـة‏‎ ‎‏تعمّ بها البلوی ، وهذا الاستدلال إنّما یوجب الفحص قبل استعلام جملـة من‏‎ ‎‏الأحکام بمقدار یحتمل انحصار المعلوم بالإجمال فیـه ، لانحلال العلم الإجمالی‏‎ ‎‏بذلک .‏

‏واُخری : بأنّـه أعمّ من المدّعی ، لأنّ المدّعی هو الفحص عن الأحکام فی‏‎ ‎‏خصوص ما بأیدینا من الکتب ، والمعلوم بالإجمال معنی أعمّ من ذلک ، لأنّ متعلّق‏‎ ‎‏العلم هی الأحکام الثابتـة فی الشریعـة واقعاً ، لا خصوص ما بأیدینا ، والفحص‏‎ ‎‏فیما بأیدینا من الکتب لا یرفع أثر العلم الإجمالی ، بل العلم باق علی حالـه ولو‏‎ ‎‏بعد الفحص التامّ عمّا بأیدینا ، هذا .‏

وأجاب المحقّق النائینی ‏قدس سره‏‏ ـ علی ما فی التقریرات ـ عن المناقشـة الاُولی‏‎ ‎‏بأنّ استعلام مقدار من الأحکام یحتمل انحصار المعلوم بالإجمال فیها لا یوجب‏‎ ‎‏انحلال العلم الإجمالی ، لأنّ متعلّق العلم تارة : یتردّد من أوّل الأمر بین الأقلّ‏‎ ‎‏والأکثر ، کما لو علم بأنّ فی هذا القطیع من الغنم موطوء وتردّد بین کونـه عشرة أو‏‎ ‎


کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 309
‏عشرین . واُخری : یکون المتعلّق عنواناً لیس بنفسـه مردّداً بین الأقلّ والأکثر من‏‎ ‎‏أوّل الأمر ، بل المعلوم بالإجمال هو العنوان بما لـه فی الواقع من الأفراد ، کما لو‏‎ ‎‏علم بموطوئیّـة البیض من هذا القطیع وتردّدت البیض بین کونها عشراً أو عشرین ،‏‎ ‎‏ففی الأوّل ینحلّ العلم الإجمالی ، وفی الثانی لا ینحلِّ، بل لابدّ من الفحص التامّ‏‎ ‎‏عن کلّ ما یحتمل انطباق العنوان المعلوم بالإجمال علیـه ، لأنّ العلم الإجمالی‏‎ ‎‏یوجب تنجیز متعلّقـه بما لـه من العنوان .‏

‏ففی المثال : العلم الإجمالی تعلّق بعنوان البیض بما لـه من الأفراد فی‏‎ ‎‏الواقع ، فکلّ ما کان من أفراد البیض واقعاً قد تنجّز التکلیف بـه ، ولازم ذلک هو‏‎ ‎‏الاجتناب عن کلّ ما یحتمل کونـه من أفراد البیض ، والمقام من هذا القبیل ، لأنّ‏‎ ‎‏المعلوم بالإجمال هی الأحکام الموجودة فیما بأیدینا من الکتب ، فقد تنجّزت‏‎ ‎‏بسبب هذا العلم الإجمالی جمیع الأحکام المثبتـة فی الکتب ، ولازم ذلک هو‏‎ ‎‏الفحص التامّ عن جمیع الکتب التی بأیدینا ، ولا ینحلّ العلم الإجمالی باستعلام‏‎ ‎‏جملـة من الأحکام یحتمل انحصار المعلوم بالإجمال فیها .‏

‏ألا تری أنّـه لیس للمکلّف الأخذ بالأقل لو علم باشتغال ذمّتـه لزید بما فی‏‎ ‎‏الطومار وتردّد ما فی الطومار بین الأقلّ والأکثر ، بل لابدّ لـه من الفحص التامّ فی‏‎ ‎‏جمیع صفحات الطومار ، کما علیـه بناء العرف والعقلاء ، وما نحن فیـه یکون‏‎ ‎‏بعینـه من هذا القبیل .‏

‏وعن المناقشـة الثانیـة بأنّـه وإن علم إجمالاً بوجود أحکام فی الشریعـة‏‎ ‎‏أعمّ ممّا بأیدینا من الکتب ، إلاّ أنّـه یعلم إجمالاً أیضاً بأنّ فیما بأیدینا من الکتب‏‎ ‎‏أدلّـة مثبتـة للأحکام مصادفـة للواقع بمقدار یحتمل انطباق ما فی الشریعـة علیها ،‏‎ ‎‏فینحلّ العلم الإجمالی العامّ بالعلم الإجمالی الخاصِّ، ویرتفع الإشکال بحذافیره‏‎ ‎‏ویتمّ الاستدلال لوجوب الفحص ، فتدبّر جیّداً‏‎[2]‎‏ ، انتهی .‏


کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 310
ویرد علیـه أوّلاً‏ : أنّ ما ذکره من الفرق فی الانحلال وعدمـه بین ما لو کان‏‎ ‎‏متعلّق العلم الإجمالی بنفسـه مردّداً بین الأقلّ والأکثر ، وبین ما کان عنواناً لیس‏‎ ‎‏مردّداً بینهما من أوّل الأمر إنّما یتمّ لو کان متعلّق العلم الإجمالی فی القسم الثانی‏‎ ‎‏نسبتـه إلی المعنون کنسبـة المحصِّل إلی المحصَّل ، وأمّا لو لم یکن من هذا القبیل‏‎ ‎‏کما فی المثال الذی ذکره فلا وجـه لعدم الانحلال ، لانحلال التکلیف إلی‏‎ ‎‏التکالیف المتعدّدة المستقلّـة حسب تعدّد المعنونات وتکثّرها ، وحینئذٍ فلا یبقی‏‎ ‎‏فرق بین القسمین .‏

وثانیاً‏ : لو قطع النظر عن ذلک نقول : إنّ تعلّق العلم الإجمالی بعنوان یوجب‏‎ ‎‏تنجیز متعلّقـه إذا کان متعلّقـه موضوعاً للحکم الشرعی ، وأمّا إذا لم یکن ممّا‏‎ ‎‏یترتّب علیـه الحکم فی الشریعـة فلا أثر لـه بالنسبـة إلیـه ، کما فی المثال الذی‏‎ ‎‏ذکره . فإنّ الموضوع للحکم بالحرمـة ووجوب نفی البلد ـ مثلاً ـ إنّما هو الحیوان‏‎ ‎‏الموطوء بما أنّـه موطوء ، وأمّا کونـه أبیض أو أسود فلا دخل لـه فی ترتّب الحکم‏‎ ‎‏وحینئذٍ فالعلم الإجمالی بموطوئیّـة البیض من هذا القطیع لا یؤثّر إلاّ بالنسبـة‏‎ ‎‏إلی ما علم کونـه موطوءاً ، لکونـه الموضوع للأثر الشرعی .‏

‏وکذا المقام ، فإنّا إنّما نکون مأخوذین بالأحکام الواقعیـة الثابتـة فی‏‎ ‎‏الشریعـة ، وأمّا عنوان کونها مضبوطـة فی الکتب التی بأیدینا فهو ممّا لا ارتباط‏‎ ‎‏لـه بذلک أصلاً ، کما هو واضح .‏

‏ومن المعلوم أنّ العلم الإجمالی بتلک الأحکام الثابتـة فی الشریعـة یکون‏‎ ‎


کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 311
‏من أوّل الأمر متردّداً بین الأقلّ والأکثر ، کما أنّ فی مثال البیض یکون العلم‏‎ ‎‏الإجمالی بالعنوان الموضوع للحکم الشرعی مردّداً بین الأقلّ والأکثر بنفسـه‏‎ ‎‏ومن أوّل الأمر .‏

‏وحینئذٍ نقول : لو صحّ ما ادّعاه من أنّ تعلّق العلم الإجمالی بعنوانٍ یوجب‏‎ ‎‏التنجّز بالنسبـة إلی جمیع الأفراد الواقعیـة لذلک العنوان یصیر القسم الأوّل أیضاً‏‎ ‎‏کالقسم الثانی فی عدم الانحلال ، بل أولی منـه ، لأنّ العنوان فیـه یکون متعلّقاً‏‎ ‎‏للحکم الشرعی بخلاف القسم الثانی .‏

وثالثاً‏ : أنّ ما أجاب بـه عن المناقشـة الثانیـة لا یتمّ بناءً علی مذهبـه من‏‎ ‎‏أنّ المقام من قبیل القسم الثانی من العلم الإجمالی ، لأنّ العلم الإجمالی العامّ‏‎ ‎‏تعلّق بعنوان « ما فی الکتب » أعمّ من الکتب التی بأیدینا أو بعنوان « ما فی‏‎ ‎‏الشریعـة » ، وقد فرض أنّ تعلّقـه بـه یوجب تنجّزه بجمیع أفراده الواقعیـة ، ولا‏‎ ‎‏یعرض لـه الانحلال وإن تردّد بین الأقلّ والأکثر ، کما هو غیر خفی .‏

‏ثمّ إنّ مثال الطومار الذی ذکره لا یکون مرتبطاً بالمقام ، لأنّ وجوب‏‎ ‎‏الفحص التامّ فی جمیع صفحات الطومار لیس من آثار العلم الإجمالی باشتغال‏‎ ‎‏ذمّتـة لزید ، بل یجب الفحص فیها ولو بدون العلم الإجمالی وکون الشبهـة‏‎ ‎‏بدویّـة ، کما سیأتی أنّ هذا المحقّق یلتزم بوجوب الفحص فی مثل المثال ولو مع‏‎ ‎‏عدم العلم الإجمالی ، فتدبّر جیّداً .‏

ثمّ إنّـه أجاب المحقّق العراقی ‏قدس سره‏‏ ـ علی ما فی التقریر ـ عن المناقشـة‏‎ ‎‏الاُولی المتقدّمـة بأنّها إنّما تتّجـه لو کان متعلّق العلم الإجمالی مطلقاً أو کان مقیّداً‏‎ ‎‏بالظفر بـه علی تقدیر الفحص ، ولکن کان تقریب العلم الإجمالی هو کونـه بمقدار‏‎ ‎‏من الأحکام علی وجـه لو تفحّص ولو فی مقدار من المسائل لظفر بـه .‏


کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 312
‏وأمّا لو کان تقریبـه بما ذکرناه من العلم بمقدار من الأحکام فی مجموع من‏‎ ‎‏المسائل المحرّرة علی وجـه لو تفحّص فی کلّ مسألـة تکون مظانّ وجود‏‎ ‎‏محتملـة لظفر بـه . فلا یرد إشکال ، فإنّـه علی هذا التقریب یترتّب علیـه النتیجـة‏‎ ‎‏المزبورة ، وهی عدم جواز الرجوع إلی البراءة قبل الفحص ، ولا یجدی فی رفع‏‎ ‎‏أثر العلم مجرّد الظفر بمقدار المعلوم بالإجمال فی جملـة من المسائل لیکون‏‎ ‎‏الشکّ بدویاً فی البقیّـة ، کما أنّـه یترتّب علیـه جواز الرجوع إلی البراءة فی کلّ‏‎ ‎‏مسألـة بعد الفحص وعدم الظفر فیها بالدلیل علی التکلیف ، فإنّـه بمقتضی التقیـید‏‎ ‎‏المزبور یستکشف من عدم الظفر بالدلیل فیها عن خروجها عن دائرة المعلوم‏‎ ‎‏بالإجمال من أوّل الأمر‏‎[3]‎‏ ، انتهی .‏

ویرد علیـه‏ : أنّ تقریب العلم الإجمالی بالوجـه الأوّل أو الثانی لیس أمراً‏‎ ‎‏موکولاً إلی اختیارنا حتّی لو قرّبناه علی الوجـه الثانی ترتّب علیـه النتیجـة‏‎ ‎‏واندفع الإشکال والمناقشـة ، بل لابدّ من ملاحظـة الواقع وأنّ العلم الإجمالی‏‎ ‎‏الحاصل لمن التفت إلی المبدأ والشریعـة هل هو علی النحو الأوّل أو الثانی .‏

‏وحینئذٍ نقول : إنّ المراجعـة إلی الوجدان تشهد بکونـه إنّما هو علی النحو‏‎ ‎‏الأوّل بل نقول : إنّ لازم تقریبـه بالنحو الثانی هو العلم بوجود حکم إلـزامی فی‏‎ ‎‏کلّ مسألـة ، ضرورة أنّـه مع عدم هذا العلم لا یبقی مجال لوجوب الفحص بعد‏‎ ‎‏الظفر بمقدار یحتمل انحصار المعلوم بالإجمال فیـه .‏

‏ومن الواضح أنّـه لا یمکن هذه الدعوی الراجعـة إلی ثبوت حکم إلزامی‏‎ ‎‏فی کلّ مسألـة ، کما لایخفی .‏


کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 313
‏وکیف کان : فالعمدة ما ذکرنا فی مقام الجواب عن الاستدلال لوجوب‏‎ ‎‏الفحص بالعلم الإجمالی وأنّـه خروج عن فرض کون المورد مجری للبراءة ،‏‎ ‎‏فتدبّر .‏

‏والصحیح الاستدلال لذلک بحکم العقل بوجوب الفحص وعدم حکمـه‏‎ ‎‏بقبح العقاب قبل المراجعـة إلی مظانّ ثبوت التکلیف وبیانـه ، ومع ذلک لا مجال‏‎ ‎‏لدعوی الإجماع القطعی علی وجوبـه ، ضرورة أنّـه علی تقدیر ثبوتـه لا یکون‏‎ ‎‏حجّـة بعد قوّة احتمال أن یکون مستند المجمعین هو هذا الحکم العقلی‏‎ ‎‏الضروری ، کما أنّ التمسّک بالکتاب والسنّـة لذلک نظراً إلی اشتمالهما علی الأمر‏‎ ‎‏بالتفقّـة والتعلّم ونظائرهما ممّا لا یخلو من مناقشـة ، لأنّـه من البعید أن یکون‏‎ ‎‏المقصود منهما هو بیان حکم تأسیسی تعبّدی ، بل الظاهر أنّها إرشاد إلی حکم‏‎ ‎‏العقل بذلک .‏

‏فالدلیل فی المقام ینحصر فی حکم العقل بعدم جواز القعود عن تکالیف‏‎ ‎‏المولی اعتماداً علی البراءة قبل الرجوع إلی مظانّ ثبوتـه ، هذا فی الشبهـة‏‎ ‎‏الحکمیـة .‏

وأمّا الشبهـة الموضوعیـة‏ فعلی تقدیر جریان البراءة العقلیّـة فیها ـ کما‏‎ ‎‏هو الحقّ والمحقّق ـ فهل یجب فیها الفحص مطلقاً ، أو لا یجب مطلقاً ، أو یفصّل‏‎ ‎‏بین ما إذا توقّف امتثال التکلیف غالباً علی الفحص ـ کما إذا کان موضوع التکلیف‏‎ ‎‏من الموضوعات التی لا یحصل العلم بها إلاّ بالفحص عنـه کالاستطاعـة فی‏‎ ‎‏الحجّ والنصاب فی الزکاة ـ فیجب الفحص ، وبین غیره فلا یجب ، أو یفصّل بین ما‏‎ ‎‏إذا کان تحصیل العلم غیر متوقّف إلاّ علی مجرّد النظر فی المقدّمات الحاصلـة ،‏‎ ‎‏فیجب ، وبین غیره ، فلا یجب ؟ وجوه بل أقوال .‏


کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 314
‏والظاهر هو وجوب الفحص مطلقاً ؛ لأنّ العقل الحاکم بجریان البراءة‏‎ ‎‏العقلیّـة فیها الراجعـة إلی قبح العقاب من قبل المولی قبل ثبوت الوظیفـة بإحراز‏‎ ‎‏الصغری والکبری معاً ، لا یحکم بذلک إلاّ بعد الفحص والیأس عن إحراز‏‎ ‎‏الصغری ، والدلیل علی ذلک مراجعـة العقلاء فی اُمورهم . ألا تری أنّـه لو أمر‏‎ ‎‏المولی عبده بإکرام ضیفـه وتردّد بین کون زید ضیفـه أم غیره ، وکان قادراً علی‏‎ ‎‏السؤال عن المولی والعلم بذلک هل یکون معذوراً فی المخالفـة مع عدم الإکرام ؟‏‎ ‎‏کلاّ ، فاللازم بحکم العقل ، الفحص والتـتبّع فی الشبهات الموضوعیّـة أیضاً .‏

‏هذا کلّـه فیما یتعلّق بأصل اعتبار الفحص .‏

‎ ‎

کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 315

  • )) تقدّم فی الصفحـة 298 .
  • )) فوائد الاُصول ( تقریرات المحقّق النائینی ) الکاظمی 4 : 279 ـ 280 .
  • )) نهایـة الأفکار 3 : 471 ـ 472 .