حسن الاحتیاط مطلقاً
إعلم أنّـه لا یعتبر فی حسن الاحتیاط عقلاً شیء زائد علی تحقّق موضوعـه وعنوانـه .
نعم هنا إشکالات لابدّ من التعرّض لها والجواب عنها .
بعضها یرجع إلی مطلق الاحتیاط ولو کان فی الشبهات البدویّـة .
وبعضها إلی الاحتیاط فی خصوص الشبهات المقرونـة بالعلم الإجمالی .
وبعضها إلی الاحتیاط فیما إذا قامت الحجّـة المعتبرة علی خلافـه .
أمّا الإشکال الراجع إلی مطلق الاحتیاط ، فهو أنّ الاحتیاط یعتبر فیـه أن یکون الإتیان بالعمل بانبعاث من بعث المولی ، ولیس الاحتیاط عبارة عن مجرّد الإتیان بالعمل مطلقاً ، لعدم صدق الإطاعـة مع عدم الانبعاث ، لأنّ حقیقـة الطاعـة أن تکون إرادة العبد تبعاً لإرادة المولی بانبعاثـه عن بعثـه وتحرّکـه عن تحریکـه ، وهذا یتوقّف علی العلم بتعلّق البعث والتحریک نحو العمل ، ولا یمکن الانبعاث بلا توسیط البعث الواصل إلی المکلّف .
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 297
وحینئذٍ فمع کون الأمر مجهولاً للمکلّف لا یعقل أن ینبعث منـه ، وبدون تحقّق الانبعاث لا یتحقّق الإطاعـة ، واحتمال الأمر وإن کان محرّکاً باعثاً ، إلاّ أنّـه لا یکفی ؛ لأنّـه لابدّ من کون الانبعاث مسبّباً عن نفس بعث المولی وتحریکـه ، والاحتمال یغایر البعث الواقعی .
ودعوی : أنّ الانبعاث إنّما هو عن الأمر المحتمل لا احتمال الأمر .
مدفوعـة : بأنّ الانبعاث عن الأمر المحتمل مستحیل ، لأنّـه لابدّ من إحراز ذلک وإحراز وجود الأمر لا یجتمع مع توصیفـه بکونـه محتملاً ، فمع الاحتمال لا یکون الأمر بمحرزٍ ، ومع إحرازه لا یکون الأمر محتملاً ، فلا یعقل الانبعاث عن الأمر بوصف کونـه محتملاً ، هذا .
ویمکن توسعـة دائرة هذا الإشکال بالقول بأنّ الانبعاث لا یکون عـن البعث ولو فی مـوارد العلم بالبعث ، لأنّ المحرّک والباعث لیس هـو البعث بوجوده الواقعی ، وإلاّ لکان اللازم ثبوت الملازمـة بینهما وعدم انفکاک أحدهما عن الآخر ، مع أنّ الضرورة قاضیـة بخلافـه ؛ لأنّـه کثیراً ما لا یتحقّق الانبعاث مـع تحقّق البعث فی الواقع ونفس الأمـر ، وکثیراً ما ینبعث المکلّف مع عدم وجـود البعث فی الواقع ، فهذا دلیل علی أنّ المحرّک والباعث لیس هو نفس البعث ، بل الصورة الذهنیـة الحاکیـة عنـه باعتقاد المکلّف ، فوجود البعث وعدمـه سواء .
وهذا لا یختصّ بالبعث ، بل یجری فی جمیع أفعال الإنسان وحرکاتـه ، ضرورة أنّ المؤثّر فی الإخافـة والفرار لیس هو الأسد بوجوده الواقعی ، بل صورتـه الذهنیـة المعلومـة بالذات المنکشفـة لدی النفس . ولا فرق فی تأثیرها بین کونها حاکیـة عن الواقع واقعاً وبین عدم کونها کذلک ؛ لعدم الفرق فی حصول
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 298
الخـوف بین العالم بوجـود الأسد الغیر الموجـود ، وبین العالم بوجـود الأسد الموجـود .
وبعبارة اُخری : لا فرق بین العالم وبین الجاهل بالجهل المرکّب ، ولو کان المؤثّر هو الأسد بوجود الواقعی لکان اللازم عدم تحقّق الخوف بالنسبـة إلی الجاهل ، مع أنّ الوجدان یشهد بخلافـه .
فانقدح ممّا ذکر : أنّ الانبعاث عن بعث المولی لا یتوقّف علی وجوده فی الواقع ، بل یتحقّق فی صورة الجهل المرکّب بـه . والسرّ أنّ الانبعاث إنّما هو عن البعث بصورتـه الذهنیـة المعلومـة بالذات ، وإلاّ یلزم عدم انفکاک الانبعاث عن البعث ، فلا یتحقّق الانبعاث بدونـه ، ولا البعث بدون الانبعاث ، ولازمـه عدم تحقّق العصیان أصلاً ، کما لا یخفی .
وحینئذٍ : یظهر عدم إمکان تحقّق الإطاعـة أصلاً ولو فی صورة العلم بعد کـون المعتبر فی حقیقتها هـو کون الانبعاث مستنداً إلی نفس البعث بوجـوده الواقعی .
ویمکن تصویر ذلک بصورة البرهان بنحو الشکل الأوّل الذی هو بدیهی الانتاج بأن یقال : إنّ الإطاعـة هو الانبعاث ببعث المولی ، ولا شیء من الانبعاث ببعث المولی بممکن التحقّق ، ینتج : فلا شیء من الإطاعـة بممکن .
والجواب عن هذا الإشکال أوّلاً : أنّـه لا یعتبر فی تحقّق الإطاعـة بنظر العرف والعقلاء إلاّ وجود البعث والعلم بـه ، فإذا تحقّق البعث وصار موجـوداً واقعاً وعلم بـه المکلّف بتوسّط صورتـه الذهنیـة ففعل بداعی ذلک یتحقّق حینئذٍ عنوان الإطاعـة .
ودعوی : أنّ الانبعاث لم یکن مسبّباً عن البعث ، مدفوعـة : بأنّ الصورة
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 299
الذهنیّـة حیث کانت کاشفـة عن الواقع وحاکیـة لـه یکون الانبعاث معها مستنداً إلی الواقع ، وهی وسیلـة إلی النیل بـه والوصول إلیـه ، فالباعث فی الحقیقـة هو نفس البعث لا الصورة الذهنیّـة . کیف وهذه الصورة مغفولـة عنها غیر متوجّـه إلیها ، لأنّ العالم بالبعث لا یری إلاّ نفس البعث ، ولا یتوجّـه إلی صورتـه المعلومـة بالذات أصلاً ، کما لایخفی .
وثانیاً : أنّ المراد بکون الإطاعـة هو الانبعاث ببعث المولی ، هل هو لزوم کون الانبعاث مستنداً إلی البعث من دون واسطـة ، أو لزوم کون الانبعاث مستنداً إلیـه ولو بالعرض ؟ فعلی الأوّل نمنع الصغری ، لعدم الدلیل علی کون الإطاعـة عبارة عن الانبعاث عن البعث بالذات ، وعلی الثانی نمنع الکبری ، لوضوح إمکان الانبعاث ببعث المولی بالعرض ، بل قد عرفت أنّـه فی صورة العلم دائماً یکون الانبعاث مستنداً إلی البعث تبعاً .
وثالثاً : أنّ ما ذکر فی الإشکال مبنی علی لزوم عنوان الإطاعـة ، مع أنّـه لا دلیل علیـه . والإطاعـة المأمور بها فی قولـه تعالی : « أَطِیعُوا الله َ . . . » إلی آخره لیس المراد بها إلاّ مجرّد الموافقـة وعدم المخالفـة ، والدلیل علیـه أنّ إطاعـة الرسول واُولی الأمر لابدّ وأن یکون المراد منها ذلک ، کما لایخفی . فاتّحاد السیاق یقضی بکون المراد من إطاعـة اللّٰه أیضاً لیس إلاّ مجرّد الموافقـة فتدبّر . هذا کلّـه فی الإشکال علی مطلق الاحتیاط .
وأمّا الإشکال الذی یختصّ بالشبهات المقرونة بالعلم الإجمالی ، فتارة من جهة التکرار ، واُخری من أجل اعتبار قصد القربـة والوجـه ونظائرهما فی العبادة .
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 300
أمّا من الجهـة الاُولی فمحصّلـه : أنّ تکرار العبادة مع إمکان تحصیل العلم التفصیلی یعدّ لعباً بأمر المولی ، واللعب والعبث ینافی العبودیّـة التی هی غایـة الفعل العبادی ، بل نقول : إنّ حصول اللعب بالتکرار لا یختصّ بالعبادة ، بل یجری فی غیرها .
ألا تری أنّـه لو علم عبد بأنّ المولی طلب منـه شیئاً مردّداً بین اُمور مختلفـة وکان قادراً علی تحصیل العلم التفصیلی بمطلوب المولی ، ولکن اکتفی بالامتثال الإجمالی ، فأحضر عدّة من العلماء وعملـة المولی وجماعـة من الصنوف المختلفـة یعدّ لاعباً بأمر المولی وأنّـه فی مقام الاستهزاء والسخریّـة . فیستفاد منـه أنّ التکرار لعب بأمر المولی فلا یجوز .
والجواب أمّا أوّلاً : أنّ المدّعی هو کون التکرار مطلقاً لعباً بأمر المولی ، وهو لا یثبت بکونـه لعباً فی بعض الموارد کما فی مثل المثال ، لأنّ کثیراً من موارد التکرار لا یکون فیـه لعب أصلاً .
ألا تری أنّـه لو کان لـه ثوبان أحدهما طاهر والآخر نجس ، وکان قادراً علی غسل أحدهما ، ولکن کان ذلک متوقّفاً علی تحمّل مشقّـة وصرف وقت کثیر ، فصلّی فیهما معاً هل یعدّ هذا الشخص لاعباً ولاغیاً ؟ وکذا لو دار الواجب فی یوم الجمعـة بین الظهر وصلاة الجمعـة وکان قادراً علی السؤال عن الفقیـه ـ مثلاً ـ لکن کان لـه محذور عرفی فی السؤال إمّا من ناحیتـه ، أو من ناحیـة الفقیـه ، فجمع بینهما هل یعدّ لاعباً ؟ کلاّ . وبالجملـة فالمدّعی لا یثبت بما ذکره .
وأمّا ثانیاً : لو فرض کون التکرار لعباً وعبثاً ، لکن نقول : إنّ المعتبر فی صحّـة العبادة أن یکون أصل الإتیان بها بداعی تعلّق الأمر بها من المولی ، وأمّا الخصوصیات الخارجـة عن حقیقـة العبادة کالمکان والزمان ونحوهما فی مثل
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 301
الصلاة فلا یعتبر أن یکون الإتیان بها بداعی الأمر ، بل لا وجـه لـه بعد کونها خارجـة عن متعلّق الأمر . کیف ولو اعتبر الاخلاص فیها یلزم عدم صحّـة شیء من العبادات ، کما هو واضح . هذا مع أنّ التکرار لا یکون من الخصوصیّات أصلاً ، ضرورة أنّ الإتیان بالصلاة فی ثوبین لا یکون شیء من الصلاتین من خصوصیات الصلاة الاُخری ککونها واقعـة فی مکان کذا أو زمان کذا ، بل کلّ منهما أمر مستقلِّ، کما لایخفی .
وبالجملـة : فالمراد بکون التکرار لعباً إن کان هو اللعب بأمر المولی فنمنع ذلک جدّاً ؛ لأنّـه لیس لعباً إلاّ فی کیفیّـة الإطاعـة ، وإن کان هو اللعب ولو فی خصوصیّات العمل ، فنمنع کون هذا اللعب مؤثّراً فی البطلان .
وأمّا من الجهـة الثانیـة فمحصّلـه : أنّـه یعتبر فی العبادة قصد القربـة والوجه والتمیـیز والجزم بالنیّة ، ولا یتحقّق ذلک إلاّ مع العلم التفصیلی بالمأمور به .
والجواب ـ مضافاً إلی منع توقّف قصد القربـة والوجـه والتمیـیز علی العلم التفصیلی ، بل یتحقّق فی الامتثال الإجمالی أیضاً بداهةً . نعم الجزم بالنیّة لا یتحقّق إلاّ مع العلم التفصیلی ـ أنّـه لا دلیل علی اعتبار ذلک فی العبادة ، لعدم الدلیل علیـه لا عقلاً ولا شرعاً .
أمّا عقلاً فواضح ، وأمّا شرعاً فلخلوّ النصوص عن الدلالـة علی اعتبارها ، ومن الواضح أنّ الأمر بالشیء لا یقتضی إلاّ مجرّد الإتیان بـه فی الخارج ، فإطلاق دلیل الأمر دلیل علی العدم ، بناءً علی ما حقّقنا فی مباحث الألفاظ من إمکان أخذ ذلک کلّـه فی متعلّق الأمر ، وعلی تقدیر القول بعدم الإمکان فحیث إنّـه لا سبیل للعقل إلی تشخیص کونها معتبرة ، بل اللازم أن یبیّنـه الشارع ، والمفروض عدم دلیل شرعی علی اعتبارها ، فلا وجـه للقول بـه .
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 302
نعم قد یستدلّ بالإجماع علی ذلک ، کما ادّعاه السیّد الرضی علی بطلان صلاة من صلّی ولا یعلم أحکامها ، کما أنّـه قد اُدّعی الإجماع علی بطلان عبادة تارک طریقی الاجتهاد والتقلید والأخذ بالاحتیاط ، ولکن کلّ ذلک ممّا لم یثبت .
نعم القدر المتیقّن أنّـه یعتبر فی صحّـة العبادة أن لا یکون الداعی لها أمراً دنیویاً بل أمراً مرتبطاً باللّٰه جلّ شأنـه ، والزائد علی ذلک مشکوک مورد لجریان البراءة علی ما عرفت سابقاً من أنّ مقتضی التحقیق هو جریان البراءة فی الأقلّ والأکثر .
والفرق بین نیّـة الوجـه وبین سائر الشروط من حیث جریان البراءة کما ذکره الشیخ فی الرسالـة ممّا لا یتمِّ. کما أنّ دعوی کون المقام من صغریات مسألـة التعیـین والتخیـیر لا مسألـة الأقلّ والأکثر ممنوعـة جدّاً .
وبالجملـة : فالظاهر صحّـة عبادة المحتاط ، هذا کلّـه فی الإشکال فی الاحتیاط فی أطراف العلم الإجمالی .
وأمّا الإشکال الراجع إلی الاحتیاط فیما إذا کان علی خلافـه حجّـة شرعیّـة ، فهو ما ذکره المحقّق النائینی علی ما فی التقریرات ، ومحصّلـه : أنّـه یعتبر فی حسن الاحتیاط إذا کان علی خلافـه حجّـة شرعیّـة أن یعمل المکلّف أوّلاً بمؤدّی الحجّـة ، ثمّ یعقّبـه بالعمل علی خلاف ما اقتضتـه الحجّـة إحرازاً للواقع ، ولیس للمکلّف أن یعمل بالعکس إلاّ إذا لم یستلزم الاحتیاط استئناف
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 303
جملـة العمل وتکراره . والسرّ فی ذلک أنّ معنی اعتبار الطریق إلقاء احتمال مخالفتـه للواقع عملاً وعدم الاعتناء بـه ، والعمل أوّلاً برعایـة احتمال مخالفـة الطریق للواقع ینافی إلقاء احتمال الخلاف ، فإنّ ذلک عین الاعتناء باحتمال الخلاف ، وهذا بخلاف ما إذا قدّم العمل بمؤدّی الطریق ، فإنّـه حیث قد أدّی المکلّف ما هو الوظیفـة وعمل بما یقتضیـه الطریق فالعقل یستقلّ بحسن الاحتیاط لرعایـة إصابـة الواقع ، هذا مضافاً إلی أنّـه یعتبر فی حسن الطاعـة الاحتمالیّـة عدم التمکّن من الطاعـة التفصیلیّـة ، وبعد قیام الطریق المعتبر یکون المکلّف متمکّناً من الامتثال التفصیلی بمؤدّی الطریق ، فلا یحسن منـه الامتثال الاحتمالی ، انتهی .
ویرد علیـه أوّلاً : أنّ معنی حجّیـة الأمارة واعتبارها لیس إلاّ مجرّد وجوب العمل علی طبقها وترتیب آثار الواقع علیها فی مقام العمل ، وأمّا دلالـة دلیل الحجّیـة علی لزوم إلقاء احتمال الخلاف فلم نعرف لها وجهاً . وبالجملـة : فحجّیـة الأمارة معناها مجرّد عدم جواز ترک العمل بها وهذا لا ینافی الإتیان علی طبق الاحتمال المخالف من باب الاحتیاط ، کما هو واضح .
وثانیاً : أنّ تقدّم رتبـة الامتثال التفصیلی علی الامتثال الاحتمالی ممنوع ، بل الظاهر کونهما فی عرض واحد ورتبـة واحدة ، فمع التمکّن مع تحصیل العلم یجوز لـه الاقتصار علی الامتثال الاحتمالی . والسرّ أنّـه لا یعتبر فی تحقّق الإطاعـة أزید من الإتیان بالمأمور بـه مع جمیع القیود المعتبرة فیـه ولو بداعی احتمال الأمر ، ولا فرق بینهما فی نظر العقل أصلاً .
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 304
فانقدح من جمیع ما ذکرنا : أنّـه لا یعتبر فی حسن الاحتیاط شیء زائد علی تحقّق موضوعـه وهو احتمال التکلیف . هذا کلّـه فی الاحتیاط .
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 305