فی جریان البراءة العقلیّة
أمّا الکلام فی المقام الأوّل ، فمحصّلـه : أنّ الظاهر جریان البراءة العقلیّـة ، لأنّ مرجع الشکّ فی اعتبار الشیء فی المأمور بـه شطراً أو شرطاً مطلقاً ، أو اختصاصـه بصورة التمکّن منـه إلی الشکّ فی ثبوت الأمر مع العجز عنـه ، وهو مورد لجریان البراءة ، کما هو واضح .
وهذا لا فرق فیـه بین ما لو کان العجز من أوّل البلوغ الذی هو أوّل زمان ثبوت التکلیف کالأخرس الذی لا یقدر علی القراءة ، وبین ما لو کان طارئاً فی واقعـة واحدة ، کمن عرض لـه العجز فی أثناء الوقت بعد أن کان متمکّناً فی أوّل الوقت ، وبین ما لو کان طارئاً فی واقعتین ، کمن کان قادراً فی الأمس وصار عاجزاً فی الیوم من أوّل الوقت إلی آخره .
وذلک ـ أی وجـه عدم الفرق ـ أنّ مرجع الشکّ فی الجمیع إلی الشکّ فی أصل ثبوت التکلیف ، والقاعدة فیـه تقتضی البراءة .
أمّا الصورة الاُولی فرجوع الشکّ فیها إلی الشکّ فی أصل التکلیف واضح ،
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 276
وکذا الصورة الثالثـة ، لأنّ ثبوت التکلیف فی الواقعـة الاُولی لا دلالـة علی ثبوتـه فی الواقعـة الثانیـة أیضاً ، فالتکلیف فیها مشکوک .
وأمّا الصورة الثانیـة فلأنّ المکلّف وإن کان عالماً فی أوّل الوقت بتوجّـه التکلیف إلیـه ، إلاّ أنّـه حیث کان قادراً علی المأمور بـه بجمیع أجزائـه وشرائطـه یکون المکلّف بـه فی حقّـه هو المأمور بـه مع جمیع الأجزاء والشرائط ، فتعلّق التکلیف بالمرکّب التامّ کان معلوماً مع القدرة إلیـه .
وأمّا مع العجز عن بعض الأجزاء أو الشرائط فلم یکن أصل ثبوت التکلیف بمعلوم ، فما علم ثبوتـه قد سقط بسبب العجز ، وما یحتمل ثبوتـه فعلاً کان من أوّل الأمر مشکوکاً ، فلا مانع من جریان البراءة فیـه .
ولکن قد یتوهّم أنّ المقام نظیر الشکّ فی القدرة ، والقاعدة فیـه تقتضی الاحتیاط بحکم العقل ، ولا یخفی أنّ التنظیر غیر صحیح ، لأنّ فی مسألـة الشکّ فی القدرة یکون أصل ثبوت التکلیف معلوماً بلا ریب . غایـة الأمر أنّـه یشکّ فی سقوطـه لأجل احتمال العجز عن إتیان متعلّقـه .
وأمّا فی المقام یکون أصل ثبوت التکلیف مجهولاً ، لما عرفت من أنّ التکلیف بالمرکّب التامّ قد علم سقوطـه بسبب العجز ، وبالمرکّب الناقص یکون مشکوکاً من أوّل الأمر ، فالتنظیر فی غیر محلّـه .
کما أنّ قیاس المقام بالعلم الإجمالی الذی طرء الاضطرار علی بعض أطرافـه ، حیث یحکم العقل بحرمـة المخالفـة القطعیّـة مع العجز عـن الموافقـة القطعیّـة ـ کما یظهر من الدرر ، حیث اختار وجوب الإتیان بالمقدور عقلاً
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 277
فیمالو کان العجز طارئاً علیـه فی واقعـة واحدة ، لأنّـه یعلم بتوجّـه التکلیف إلیـه ، فإن لم یأت بالمقدور لـزم المخالفـة القطعیـة ـ ممّا لا یتمّ أیضاً ، لعـدم ثبوت العلم الإجمالی فی المقام ، بل الثابت هـو العلم التفصیلی بالتکلیف المتعلّق بالمرکّب التامّ الساقط بسبب العجز عنـه والشکّ البدوی فی ثبوت التکلیف بالباقی المقدور . فالحقّ جریان البراءة العقلیّـة فی جمیع الصور الثلاثة .
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 278