تتمّة : فی ثبوت الإطلاق لدلیل الجزء والمرکّب
قد عرفت أنّ مرکز البحث فی جریان البراءة العقلیّـة هو ما إذا لم یکن للدلیل المثبت للجزئیـة إطلاق یقتضی الشمول لحال النسیان أیضاً ، وکذا ما إذا لم یکن لدلیل المرکّب إطلاق یؤخذ بـه ویحکم بعدم کون المنسی جزءاً فی حال النسیان ، اقتصاراً فی تقیـید إطلاقـه بخصوص حال الذکر . فالآن نتکلّم فی قیام الدلیل وثبوت الإطلاق لشیء من الدلیلین وعدمـه وإن کان خارجاً عن بحث الاُصولی ، فنقول :
قد أفاد المحقّق العراقی فی هذا المقام ما ملخّصـه : أنّ دعوی ثبوت الإطلاق لدلیل المرکّب مثل قولـه تعالی : « أَقِیمُوا الصَلاةَ » ساقطـة عن الاعتبار ، لـوضوح أنّ مثل هـذه الخطابات إنّما کانت مسوقـة لبیان مجـرّد التشریع بنحو الإجمال .
وأمّا الدلیل المثبت للجزئیـة فلا یبعد هذه الدعوی فیـه ، لقوّة ظهوره فی الإطلاق مـن غیر فرق بین أن یکون بلسان الوضع کقولـه : « لا صلاة إلاّ بفاتحـة الکتاب » وبین أن یکون بلسان الأمر کقولـه : ارکع فی الصلاة ، مثلاً .
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 232
نعم لو کان دلیل اعتبار الجزء هو الإجماع یمکن تخصیص الجزئیّـة المستفادة منـه بحال الـذکر ، لأنّـه القـدر المتیقّن ، بخلاف ما لو کـان الدلیل غیره ، فإنّ إطلاقـه مثبت لعموم الجزئیـة لحال النسیان .
لایقال : إنّ ذلک یتمّ إذا کان الدلیل بلسان الوضع ، وأمّا إذا کان بلسان الأمر فلا ، لأنّ الجزئیـة حینئذٍ تـتبع الحکم التکلیفی ، فإذا کان مختصّاً بحکم العقل بحال الذکر فالجزئیـة أیضاً تختص بحال الذکر .
فإنّـه یقال : إنّـه لو تمّ ذلک فإنّما هو علی فرض ظهور تلک الأوامر فی المولویّـة النفسیـة أو الغیریّـة ، وإلاّ فعلی ما هو التحقیق من کونها إرشاداً إلی جزئیـة متعلّقاتها فلایستقیم ذلک ، إذ لا یکون حینئذٍ محذور عقلی ، مع أنّـه علی فرض المولویّـة ولو بدعوی کونها بحسب اللب عبارة عن قطعات ذلک الأمر النفسی المتعلّق بالمرکّب غیر أنّها صارت مستقلّـة فی مقام البیان نقول : إنّ المنع المزبور إنّما یتّجـه لو کان حکم العقل بقبح تکلیف الناسی من الأحکام الضروریّـة المرتکزة فی الأذهان بحیث یکون کالقرینـة المختصّـة بالکلام مانعاً عن انعقاد الظهور ، مع أنّـه ممنوع ، لأنّـه من العقلیّات التی لا ینتقل الذهن إلیها إلاّ بعد الالتفات والتأمّل فی المبادئ التی أوجبت حکم العقل ، فیصیر حینئذٍ من القرائن المنفصلـة المانعـة عن حجّیـة الظهور لا عن أصل الظهور .
وعلیـه یمکن أن یقال : إنّ غایـة ما یقتضیـه الحکم العقلی إنّما هو المنع عن حجّیـة ظهور تلک الأوامر فی الإطلاق بالنسبـة إلی الحکم التکلیفی ، وأمّا بالنسبـة إلی الحکم الوضعی وهو الجزئیـة وإطلاقها لحال النسیان فحیث لا
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 233
قرینـة علی الخلاف من هذه الجهـة یؤخذ بظهورها فی ذلک .
وعلی فرض الإغماض عـن ذلک أیضاً یمکن التمسّک بإطلاق المادّة لـدخل الجزء فی الملاک والمصلحـة حتّی فی حال النسیان ، فلا فرق حینئذٍ فی صحّـة التمسّک بالإطلاق بین کون الدلیل بلسان الحکم التکلیفی أو بلسان الوضع ، انتهی .
وفی جمیع الأجوبـة الثلاثـة التی أجاب بها عن التفصیل الذی ذکره بقولـه : « لا یقال » نظر .
أمّا الجواب الأوّل الذی یرجع إلی تسلیم التفصیل مع فرض ظهور تلک الأوامر فی المولویّـة وعدم استقامتـه مع کونها إرشاداً إلی جـزئیـة متعلّقاتها ، فیرد علیـه : أنّ الأوامر الإرشادیّـة لا تکون مستعملـة فی غیر ما وضع لـه هیئـة الأمر وهو البعث والتحریک إلی طبیعـة المادّة ، بحیث کان مدلولها الأوّلی هو جزئیـة المادّة للمرکّب المأمور بها فی المقام ، فکأنّ قولـه : اسجد فی الصلاة ، عبارة اُخری عن کون السجود جزءً لها . بل الأوامر الإرشادیّـة أیضاً تدلّ علی البعث والتحریک ، فإنّ قولـه : اسجد فی الصلاة ، معناه الحقیقی هو البعث إلی إیجاد سجدة فیها . غایة الأمـر أنّ المأمـور به بهذا الأمـر لایکون مترتّباً علیه غـرض نفسی ، بل الغرض من هذا البعث إفهام کون المادّة جزءً وأنّ الصلاة لا تـتحقّق بدونها .
وبالجملـة : فالأمر الإرشادی لیس بحیث لم یکن مستعملاً فی المعنی الحقیقی لهیئـة الأمر ، بل الظاهر کونـه کالأمر المولوی مستعملاً فی البعث
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 234
والتحریک . فإذا کان الحکم التکلیفی مختصّاً بحال الذکر لکان الجزئیـة أیضاً مختصّـة بـه ، من غیر فرق بین کون الدلیل بلسان الأمر المولوی أو یکون بلسان الأمر الإرشادی .
وأمّا الجواب الثانی فیرد علیـه أوّلاً : ما عرفت سابقاً من أنّـه لا فرق فیما لو کان المخصّص عقلیّاً بین کون ذلک الحکم العقلی من العقلیات الضروریّـة ، أو من العقلیات التی لا ینتقل الذهن إلیها إلاّ بعد الالتفات والتأمّل فی المبادئ الموجبـة لـه ، فإنّ فی کلتا الصورتین یکون المخصّص کالقرینـة المختصّـة بالکلام مانعاً عن انعقاد الظهور .
وثانیاً : أنّـه لو سلّم ذلک فی العقلیّات الغیر الضروریّـة ، وأنّها من قبیل القرائن المنفصلـة المانعـة عن حجّیـة الظهور لا عن أصلـه فنقول : إنّ ما ذکره من التفصیل بین حجّیـة ظهور الأوامر فی الإطلاق بالنسبـة إلی الحکم التکلیفی وبین حجّیتها فیـه بالنسبـة إلی الحکم الوضعی ، فالحکم العقلی مانع عن الأوّل دون الثانی ، ممنوع ، فإنّ الحکم الوضعی إذا کان منتزعاً عن الحکم التکلیفی وتابعاً لـه یکون فی السعـة والضیق مثلـه ، ولا یمکن أن یکون الحکم التکلیفی مختصّاً بحال الذکر ، والحکم الوضعی المستفاد منـه مطلقاً وشاملاً لحالی الذکر وعدمـه ، إذ لیس الظهوران وهما الظهور فی الإطلاق بالنسبـة إلی الحکم التکلیفی والظهور فیـه بالنسبـة إلی الحکم الوضعی فی عرض واحد حتّی لا یکون رفع الید عن أحدهما مستلزماً لرفع الید عن الآخر ، بل الظهور الثانی فی طول الظهور الأوّل ولا مجال لحجّیتـه مع رفع الید عنـه .
فالمقام نظیر لازم الأمارتین المتعارضتین ، کما إذا قامت أمارة علی الوجوب وأمارة اُخری علی الحرمـة ، فإنّ لازمهما هو عدم کونـه مباحاً ، إلاّ أنّ
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 235
الأخذ بهذا اللازم بعد سقوطهما عن الحجّیـة لأجل التعارض ممّا لا مجال معـه ، لأنّـه فرع حجّیتهما وقد فرضنا خلافـه ، هذا .
ولو قلنا بجواز الأخذ بمثل هذا اللازم فی الأمارتین المتعارضتین یمکن القول بعدم جواز التفکیک بین الحکم التکلیفی والوضعی فی المقام ، لأنّ کلّ واحد من الأمارتین حجّـة مع قطع النظر عن معارضـة الآخر . غایـة الأمر أنّـه سقط من الحجّیـة لأجلها ، وهذا بخلاف المقام ، فإنّ الحکم التکلیفی من أوّل الأمر مقیّد بحال الذکر ، والمفروض أنّـه المنشأ للحکم الوضعی ، فلا یمکن التفرقـة بینهما فی الإطلاق والتقیـید .
وأمّا الجواب الثالث فیرد علیـه : أنّ استفادة الملاک والمصلحـة إنّما هو بملاحظـة تعلّق الأمر ، بناءً علی ما ذکره العدلیّـة من أنّ الأوامر الواقعیّـة تابعـة للمصالح النفس الأمریّـة ، وإلاّ فمع قطع النظر عن تعلّق الأمر لا سبیل لنا إلی استفادة المصلحـة أصلاً .
وحینئذٍ فنقول : بعدما ثبت کون إطلاق الهیئـة مقیّداً بحال الذکر لامجال لاستفادة الملاک والمصلحـة مطلقاً حتّی فی غیر حال الذکر ، وتعلّق الأمر بالسجود ـ مثلاً ـ إنّما یکشف عن کونـه ذا مصلحـة بالمقدار الذی ثبت کونـه مأموراً بـه ، ولا مجال لاستفادة کونـه ذا مصلحـة حتّی فیما لم یکن مأموراً بـه ، کما فی حال النسیان علی ما هو المفروض بعد کون هذه الاستفادة مبتنیـة علی مذهب العدلیّـة ، وهو لا یقتضی ذلک إلاّ فی موارد ثبوت الأمر ، کما هو واضح .
فالإنصاف أنّ هذا الجواب کسابقیه ممّا لا یدفع بـه الإیراد ولا ینهض للجواب عن القول بالتفصیل ، بل لا محیص عن هذا القول بناءً علی مذهبهم من عدم إمکان کون الناسی مکلّفاً وعدم شمول إطلاق الهیئـة لـه ، وأمّا بناءً علی ما حقّقناه
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 236
من عدم انحلال الخطابات حسب تعدّد المخاطبین فلا مانع من کونه مکلّفاً کالجاهل وغیر القادر وغیرهما من المکلّفین المعذورین ، وحینئذٍ فلا یبقی فرق بین کون الأدلّـة المتضمّنـة لبیان الأجزاء بلسان الوضع أو بلسان الأمر ، کما لایخفی .
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 237