تتمّة‏: فی ثبوت ا‏لإطلاق لدلیل ا‏لجزء وا‏لمرکّب

تتمّة : فی ثبوت الإطلاق لدلیل الجزء والمرکّب

‏ ‏

‏قد عرفت أنّ مرکز البحث فی جریان البراءة العقلیّـة هو ما إذا لم یکن‏‎ ‎‏للدلیل المثبت للجزئیـة إطلاق یقتضی الشمول لحال النسیان أیضاً ، وکذا ما إذا لم‏‎ ‎‏یکن لدلیل المرکّب إطلاق یؤخذ بـه ویحکم بعدم کون المنسی جزءاً فی حال‏‎ ‎‏النسیان ، اقتصاراً فی تقیـید إطلاقـه بخصوص حال الذکر . فالآن نتکلّم فی قیام‏‎ ‎‏الدلیل وثبوت الإطلاق لشیء من الدلیلین وعدمـه وإن کان خارجاً عن بحث‏‎ ‎‏الاُصولی ، فنقول :‏

‏قد أفاد المحقّق العراقی فی هذا المقام ما ملخّصـه : أنّ دعوی ثبوت‏‎ ‎‏الإطلاق لدلیل المرکّب مثل قولـه تعالی : ‏‏«‏‏ ‏أَقِیمُوا الصَلاةَ‏ ‏‏»‏‎[1]‎‏ ساقطـة عن‏‎ ‎‏الاعتبار ، لـوضوح أنّ مثل هـذه الخطابات إنّما کانت مسوقـة لبیان مجـرّد‏‎ ‎‏التشریع بنحو الإجمال .‏

‏وأمّا الدلیل المثبت للجزئیـة فلا یبعد هذه الدعوی فیـه ، لقوّة ظهوره فی‏‎ ‎‏الإطلاق مـن غیر فرق بین أن یکون بلسان الوضع کقولـه : « ‏لا صلاة إلاّ بفاتحـة‎ ‎الکتاب‏ »‏‎[2]‎‏ وبین أن یکون بلسان الأمر کقولـه : ارکع فی الصلاة ، مثلاً .‏


کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 232
‏نعم لو کان دلیل اعتبار الجزء هو الإجماع یمکن تخصیص الجزئیّـة‏‎ ‎‏المستفادة منـه بحال الـذکر ، لأنّـه القـدر المتیقّن ، بخلاف ما لو کـان الدلیل‏‎ ‎‏غیره ، فإنّ إطلاقـه مثبت لعموم الجزئیـة لحال النسیان .‏

‏لایقال : إنّ ذلک یتمّ إذا کان الدلیل بلسان الوضع ، وأمّا إذا کان بلسان الأمر‏‎ ‎‏فلا ، لأنّ الجزئیـة حینئذٍ تـتبع الحکم التکلیفی ، فإذا کان مختصّاً بحکم العقل‏‎ ‎‏بحال الذکر فالجزئیـة أیضاً تختص بحال الذکر .‏

‏فإنّـه یقال : إنّـه لو تمّ ذلک فإنّما هو علی فرض ظهور تلک الأوامر فی‏‎ ‎‏المولویّـة النفسیـة أو الغیریّـة ، وإلاّ فعلی ما هو التحقیق من کونها إرشاداً إلی‏‎ ‎‏جزئیـة متعلّقاتها فلایستقیم ذلک ، إذ لا یکون حینئذٍ محذور عقلی ، مع أنّـه علی‏‎ ‎‏فرض المولویّـة ولو بدعوی کونها بحسب اللب عبارة عن قطعات ذلک الأمر‏‎ ‎‏النفسی المتعلّق بالمرکّب غیر أنّها صارت مستقلّـة فی مقام البیان نقول : إنّ المنع‏‎ ‎‏المزبور إنّما یتّجـه لو کان حکم العقل بقبح تکلیف الناسی من الأحکام‏‎ ‎‏الضروریّـة المرتکزة فی الأذهان بحیث یکون کالقرینـة المختصّـة بالکلام مانعاً‏‎ ‎‏عن انعقاد الظهور ، مع أنّـه ممنوع ، لأنّـه من العقلیّات التی لا ینتقل الذهن إلیها إلاّ‏‎ ‎‏بعد الالتفات والتأمّل فی المبادئ التی أوجبت حکم العقل ، فیصیر حینئذٍ من‏‎ ‎‏القرائن المنفصلـة المانعـة عن حجّیـة الظهور لا عن أصل الظهور .‏

‏وعلیـه یمکن أن یقال : إنّ غایـة ما یقتضیـه الحکم العقلی إنّما هو المنع عن‏‎ ‎‏حجّیـة ظهور تلک الأوامر فی الإطلاق بالنسبـة إلی الحکم التکلیفی ، وأمّا‏‎ ‎‏بالنسبـة إلی الحکم الوضعی وهو الجزئیـة وإطلاقها لحال النسیان فحیث لا‏‎ ‎


کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 233
‏قرینـة علی الخلاف من هذه الجهـة یؤخذ بظهورها فی ذلک .‏

‏وعلی فرض الإغماض عـن ذلک أیضاً یمکن التمسّک بإطلاق المادّة‏‎ ‎‏لـدخل الجزء فی الملاک والمصلحـة حتّی فی حال النسیان ، فلا فرق حینئذٍ فی‏‎ ‎‏صحّـة التمسّک بالإطلاق بین کون الدلیل بلسان الحکم التکلیفی أو بلسان‏‎ ‎‏الوضع‏‎[3]‎‏ ، انتهی .‏

‏وفی جمیع الأجوبـة الثلاثـة التی أجاب بها عن التفصیل الذی ذکره‏‎ ‎‏بقولـه : ‏‏« لا یقال » نظر .‏

‏أمّا الجواب الأوّل الذی یرجع إلی تسلیم التفصیل مع فرض ظهور تلک‏‎ ‎‏الأوامر فی المولویّـة وعدم استقامتـه مع کونها إرشاداً إلی جـزئیـة متعلّقاتها ،‏‎ ‎‏فیرد علیـه : أنّ الأوامر الإرشادیّـة لا تکون مستعملـة فی غیر ما وضع لـه هیئـة‏‎ ‎‏الأمر وهو البعث والتحریک إلی طبیعـة المادّة ، بحیث کان مدلولها الأوّلی هو‏‎ ‎‏جزئیـة المادّة للمرکّب المأمور بها فی المقام ، فکأنّ قولـه : اسجد فی الصلاة ،‏‎ ‎‏عبارة اُخری عن کون السجود جزءً لها . بل الأوامر الإرشادیّـة أیضاً تدلّ علی‏‎ ‎‏البعث والتحریک ، فإنّ قولـه : اسجد فی الصلاة ، معناه الحقیقی هو البعث إلی‏‎ ‎‏إیجاد سجدة فیها . غایة الأمـر أنّ المأمـور به بهذا الأمـر لایکون مترتّباً علیه‏‎ ‎‏غـرض نفسی ، بل الغرض من هذا البعث إفهام کون المادّة جزءً وأنّ الصلاة لا‏‎ ‎‏تـتحقّق بدونها .‏

‏وبالجملـة : فالأمر الإرشادی لیس بحیث لم یکن مستعملاً فی المعنی‏‎ ‎‏الحقیقی لهیئـة الأمر ، بل الظاهر کونـه کالأمر المولوی مستعملاً فی البعث‏‎ ‎


کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 234
‏والتحریک . فإذا کان الحکم التکلیفی مختصّاً بحال الذکر لکان الجزئیـة أیضاً‏‎ ‎‏مختصّـة بـه ، من غیر فرق بین کون الدلیل بلسان الأمر المولوی أو یکون بلسان‏‎ ‎‏الأمر الإرشادی .‏

‏وأمّا الجواب الثانی فیرد علیـه أوّلاً : ما عرفت سابقاً من أنّـه لا فرق فیما لو‏‎ ‎‏کان المخصّص عقلیّاً بین کون ذلک الحکم العقلی من العقلیات الضروریّـة ، أو من‏‎ ‎‏العقلیات التی لا ینتقل الذهن إلیها إلاّ بعد الالتفات والتأمّل فی المبادئ الموجبـة‏‎ ‎‏لـه ، فإنّ فی کلتا الصورتین یکون المخصّص کالقرینـة المختصّـة بالکلام مانعاً‏‎ ‎‏عن انعقاد الظهور .‏

‏وثانیاً : أنّـه لو سلّم ذلک فی العقلیّات الغیر الضروریّـة ، وأنّها من قبیل‏‎ ‎‏القرائن المنفصلـة المانعـة عن حجّیـة الظهور لا عن أصلـه فنقول : إنّ ما ذکره من‏‎ ‎‏التفصیل بین حجّیـة ظهور الأوامر فی الإطلاق بالنسبـة إلی الحکم التکلیفی‏‎ ‎‏وبین حجّیتها فیـه بالنسبـة إلی الحکم الوضعی ، فالحکم العقلی مانع عن الأوّل‏‎ ‎‏دون الثانی ، ممنوع ، فإنّ الحکم الوضعی إذا کان منتزعاً عن الحکم التکلیفی‏‎ ‎‏وتابعاً لـه یکون فی السعـة والضیق مثلـه ، ولا یمکن أن یکون الحکم التکلیفی‏‎ ‎‏مختصّاً بحال الذکر ، والحکم الوضعی المستفاد منـه مطلقاً وشاملاً لحالی الذکر‏‎ ‎‏وعدمـه ، إذ لیس الظهوران وهما الظهور فی الإطلاق بالنسبـة إلی الحکم‏‎ ‎‏التکلیفی والظهور فیـه بالنسبـة إلی الحکم الوضعی فی عرض واحد حتّی لا‏‎ ‎‏یکون رفع الید عن أحدهما مستلزماً لرفع الید عن الآخر ، بل الظهور الثانی فی‏‎ ‎‏طول الظهور الأوّل ولا مجال لحجّیتـه مع رفع الید عنـه .‏

‏فالمقام نظیر لازم الأمارتین المتعارضتین ، کما إذا قامت أمارة علی‏‎ ‎‏الوجوب وأمارة اُخری علی الحرمـة ، فإنّ لازمهما هو عدم کونـه مباحاً ، إلاّ أنّ‏‎ ‎


کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 235
‏الأخذ بهذا اللازم بعد سقوطهما عن الحجّیـة لأجل التعارض ممّا لا مجال معـه ،‏‎ ‎‏لأنّـه فرع حجّیتهما وقد فرضنا خلافـه ، هذا .‏

‏ولو قلنا بجواز الأخذ بمثل هذا اللازم فی الأمارتین المتعارضتین یمکن‏‎ ‎‏القول بعدم جواز التفکیک بین الحکم التکلیفی والوضعی فی المقام ، لأنّ کلّ واحد‏‎ ‎‏من الأمارتین حجّـة مع قطع النظر عن معارضـة الآخر . غایـة الأمر أنّـه سقط من‏‎ ‎‏الحجّیـة لأجلها ، وهذا بخلاف المقام ، فإنّ الحکم التکلیفی من أوّل الأمر مقیّد‏‎ ‎‏بحال الذکر ، والمفروض أنّـه المنشأ للحکم الوضعی ، فلا یمکن التفرقـة بینهما‏‎ ‎‏فی الإطلاق والتقیـید .‏

‏وأمّا الجواب الثالث فیرد علیـه : أنّ استفادة الملاک والمصلحـة إنّما هو‏‎ ‎‏بملاحظـة تعلّق الأمر ، بناءً علی ما ذکره العدلیّـة من أنّ الأوامر الواقعیّـة تابعـة‏‎ ‎‏للمصالح النفس الأمریّـة ، وإلاّ فمع قطع النظر عن تعلّق الأمر لا سبیل لنا إلی‏‎ ‎‏استفادة المصلحـة أصلاً .‏

‏وحینئذٍ فنقول : بعدما ثبت کون إطلاق الهیئـة مقیّداً بحال الذکر لامجال‏‎ ‎‏لاستفادة الملاک والمصلحـة مطلقاً حتّی فی غیر حال الذکر ، وتعلّق الأمر‏‎ ‎‏بالسجود ـ مثلاً ـ إنّما یکشف عن کونـه ذا مصلحـة بالمقدار الذی ثبت کونـه‏‎ ‎‏مأموراً بـه ، ولا مجال لاستفادة کونـه ذا مصلحـة حتّی فیما لم یکن مأموراً بـه ،‏‎ ‎‏کما فی حال النسیان علی ما هو المفروض بعد کون هذه الاستفادة مبتنیـة علی‏‎ ‎‏مذهب العدلیّـة ، وهو لا یقتضی ذلک إلاّ فی موارد ثبوت الأمر ، کما هو واضح .‏

‏فالإنصاف أنّ هذا الجواب کسابقیه ممّا لا یدفع بـه الإیراد ولا ینهض‏‎ ‎‏للجواب عن القول بالتفصیل ، بل لا محیص عن هذا القول بناءً علی مذهبهم من عدم‏‎ ‎‏إمکان کون الناسی مکلّفاً وعدم شمول إطلاق الهیئـة لـه ، وأمّا بناءً علی ما حقّقناه‏‎ ‎


کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 236
‏من عدم انحلال الخطابات حسب تعدّد المخاطبین فلا مانع من کونه مکلّفاً کالجاهل‏‎ ‎‏وغیر القادر وغیرهما من المکلّفین المعذورین ، وحینئذٍ فلا یبقی فرق بین کون‏‎ ‎‏الأدلّـة المتضمّنـة لبیان الأجزاء بلسان الوضع أو بلسان الأمر ، کما لایخفی .‏

‏ ‏

‎ ‎

کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 237

  • )) البقرة ( 2 ) : 43 .
  • )) عوالی اللآلی 1 : 196 / 2 ، مستدرک الوسائل 4 : 158 ، کتاب الصلاة ، أبواب القراءة فی الصلاة ، الباب 1 ، الحدیث 5 .
  • )) نهایـة الأفکار 3 : 423 ـ 424 .