المطلب الثالث فی دوران الأمر بین الأقلّ والأکثر فی الأسباب والمحصّلات
وفی جریان البراءة فیها مطلقاً ، وعدم جریانها کذلک ، والتفصیل بین ما لو کانت الأسباب عادیّـة أو عقلیّـة ، وبین ما لو کانت شرعیّـة ، أو بین ما لو قیل بکون العلم الإجمالی مقتضیاً فتجری ، أو علّـة تامّـة فلا تجری ، أو بین أن یکون العنوان البسیط الذی هو المأمور بـه ذا مراتب متفاوتـة متدرّج الحصول والتحقّق ، وبین ما إذا کان دفعی الحصول والتحقّق عند تحقّق الجزء الأخیر من علّتـه ، بالجریان فی الصورة الاُولی وعدمـه فی الصورة الثانیـة ، وجوه بل أقوال خمسـة .
ولیعلم أوّلاً : أنّ مرکز البحث ومورد النزاع بینهم هو ما إذا کان المسبّب الذی هو مورد تعلّق الأمر معلوماً بجمیع خصوصیّاتـه بحیث لم یکن فیـه تردید أصلاً ، بل کان التردید فی السبب المحقّق لـه من حیث مدخلیّـة جزء أو شرط فی سببیّتـه وترتّب المسبّب علیـه . وأمّا لو کان المسبّب أیضاً مشکوکاً بحیث دار أمره بین السعـة والضیق فهو خارج عن البحث فی هذا المقام وداخل فی المباحث المتقدّمـة .
وحینئذٍ فیظهر أنّ الوجـه الأخیر الذی اختاره المحقّق العراقی ـ علی ما فی تقریرات بعض تلامذتـه الراجع إلی التفصیل بین ما لو کان المسبّب عنواناً بسیطاً ذا مراتب متفاوتـة ومتدرّج الحصول وبین ما إذا کان دفعی الحصول ، خارج
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 208
عن مورد البحث . فإنّـه لو کان العنوان البسیط ذا مراتب متفاوتـة ، فتارة یکون الشکّ فی مدخلیّـة خصوصیّـة فی تحقّق ذلک الأمر البسیط ، کما لو فرض الشکّ فی اعتبار النیّـة فی غسل البدن الذی یؤثّر فی حصول الطهارة المأمور بها ، واُخری یکون الشکّ فی نفس ذلک الأمر البسیط وأنّـه بأ یّـة مرتبـة تعلّق بـه الأمر ، فعلی الأوّل لا فرق بینـه وبین ما إذا کان دفعی الحصول أصلاً . وعلی الثانی وإن کان بین الصورتین فرق من حیث جریان البراءة وعدمـه ، إلاّ أنّ الصورة الاُولی بناءً علی هذا لا تکون داخلـة فی محلّ البحث ، کما عرفت .
إذا ظهر لک ذلک فاعلم : أنّ الأقوی وجوب الاحتیاط مطلقاً ؛ لأنّـه بعد تنجّز التکلیف وعدم کون المکلّف معذوراً فی مخالفتـه من جهـة العلم بـه وبمتعلّقـه یحکم العقل حکماً بتّیاً بلزوم العلم بالفراغ عن عهدتـه بالإتیان بکلّ ما یحتمل دخلـه فی سببیّـة السبب وترتّب المسبّب علیـه جزءً أو شرطاً ، ولیس الاقتصار علی الأقلّ ـ الذی لا یوجب الإتیان بـه إلاّ مجرّد احتمال تحقّق الامتثال والإتیان بالمأمور بـه ـ إلاّ کالاقتصار علی احتمال الإتیان بالمأمور بـه فیما لو احتمل أنّـه لم یأت بشیء من أجزائـه وشرائطـه أصلاً .
ومن المعلوم أنّ مقتضی حکم العقل فیـه لزوم إحراز الامتثال ، ألا تری أنّـه لا یکفی لمن احتمل أنّـه لم یصلّ أصلاً مجرّد احتمال أنّـه صلّی . نعم بعد خروج الوقت دلّ الدلیل النقلی علی عدم الاعتناء بهذا الاحتمال فی خصوص الصلاة .
ودعوی : أنّـه بعد الإتیان بما علم مدخلیّتـه فی السبب لا یعلم ببقاء الأمر حینئذٍ حتّی یجب علیـه الإتیان بالقید المشکوک ، ضرورة أنّـه یحتمل أن یکون المأتی بـه تمام السبب .
مدفوعـة بأنّ هذا الاحتمال متحقّق فی جمیع موارد قاعدة الاشتغال ، کما
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 209
هو واضح . والمناط فی جریانها هو العلم بتعلّق الأمر وکون المتعلّق معلوماً أیضاً وشکّ فی فراغ ذمّتـه عنـه .
وبالجملـة : بعد ما علّق الأمر مخلبـه وقامت الحجّـة من المولی علی ثبوتـه وعلی تعیـین المکلّف بـه ، لا یکون مفرّ من لزوم العلم بتحقّقـه وحصول الامتثال ، وهو یقتضی وجوب الاحتیاط ؛ بلا فرق بین أن تکون الأسباب عادیّـة أو عقلیّـة أو شرعیّـة ، وکذا بین أن نقول باقتضاء العلم الإجمالی لوجوب الموافقـة القطعیـة أو بکونـه علّـة تامّـة ، ولا بین أن نقول بإمکان جعل السببیّـة وکذا الجزئیـة والشرطیـة ، أو لا نقول بذلک .
ولا فرق أیضاً فیما ذکرنا بین أن نقول بأنّ عدم المأمور بـه المنهی عنـه حسب اقتضاء الأمر بالشیء للنهی عن النقیض متکثّر حسب تکثّر أجزاء محقّقـة ، لأنّـه ینعدم بانعدام کلّ واحد منها ، أو نقول بأنّـه لیس للمأمور بـه إلاّ عدم واحد ، إذ کما أنّـه لا یکون لـه إلاّ وجود واحد کذلک لا یکون لـه إلاّ عدم واحد ، وقد مرّت الإشارة إلی ذلک فی بعض المقدّمات التی مهّدناها لجریان البراءة فی الأقلّ والأکثر فی الأجزاء ، فراجع .
أمّا علی القول الثانی : فواضح ، لأنّ المنهی عنـه إنّما هو عدم واحد ، ولا یعلم بترکـه وحصول الامتثال إلاّ بالإتیان بکلّ ما یحتمل دخلـه فی المحقّق ـ بالکسر ـ شطراً أو شرطاً ، إذ مع الاقتصار علی المقدار المعلوم لا یعلم بتحقّق المأمور بـه حتّی یعلم بامتثال النهی بترک المنهی عنـه .
وأمّا علی القول الأوّل : فقد یقال بأنّـه لا مانع حینئذٍ من جریان البراءة ،
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 210
لأنّ الأمر ینتهی فی ظرف حرمـة الترک إلی الأقلّ والأکثر ، حیث إنّ ترک المأمور بـه الناشئ من قبل ترک الأقلّ ممّا یعلم تفصیلاً حرمتـه واستحقاق العقوبـة علیـه ، للعلم بافضائـه إلی ترک المأمور بـه ، وأمّا الترک الناشئ من قبل الجزء أو الشرط المشکوک فلا یعلم حرمتـه ، لعدم العلم بأدائـه إلی ترک المأمور بـه ، فیشکّ فی تعلّق النهی عنـه فتجری فیـه أدلّـة البراءة العقلیّـة والنقلیّـة .
ولکنّـه لا یخفی : أنّـه بناءً علی ذلک أیضاً لا مجال لجریان البراءة ، لأنّ هذه النواهی المتعلّقـة بأعدام المأمور بـه حیث إنّها لا تکون إلاّ ناشئـة من الأمر المتعلّق بـه ، ضرورة أنّها لا تکون نواهی مستقلّـة ، لأنّ مبادیها إنّما هی المبادئ الموجبـة للأمر فلا محالـة تکون فی السعـة والضیق تابعـة للأمر ، فلا مجال لإجراء البراءة فیها مع عدم جریانها فیـه ، مضافاً إلی أنّـه لو فرض کونها نواهی مستقلّـة فجریان البراءة فیها لا یوجب جواز الاقتصار علی الأقلّ بعد کون الأمر حجّـة تامّـة والاشتغال بـه یقینی ، ومقتضی حکم العقل لزوم إحراز الامتثال والعلم بإتیان المأمور بـه ، وهو لا یحصل إلاّ بضمّ القید المشکوک إلی السبب .
وممّا ذکرنا ینقدح الخلل فیما أفاده المحقّق العراقی من تسلیم جریان البراءة لو کان إضافـة أجزاء المحقّق ـ بالکسر ـ إلی المحقّق ـ بالفتح ـ من قبیل الجهات التقیـیدیّـة الموجبـة لتکثّر أعدام المأمور بـه بالإضافـة إلیها ، حیث إنّـه بتعدّد أجزاء المحقّق حینئذٍ یتعدّد الإضافات والتقیّدات ، وبذلک یتکثّر الأعدام أیضاً ، فینتهی الأمر من جهـة حرمـة الترک إلی الأقلّ والأکثر ، هذا .
ولکنّک عرفت : عدم الفرق بین المسلکین هنا وعدم ترتّب أثر علیهما فی هذا المقام ، فتدبّر .
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 211
ثمّ إنّک عرفت أنّـه لا فرق فی عدم جریان البراءة فی الأسباب والمحقّقات بین کونها عقلیّـة ، کما إذا أمر بقتل زید مثلاً وتردّد محقّقـه بین أن یکون ضربـة أو ضربتین ، أو عادیّـة ، کما إذا أمر بتنظیف المسجد وتردّد محصّلـه بین أن یکون مجرّد الکنس أو مع إضافـة رشّ الماء ، وبین کونها شرعیّـة کما إذا فرض أنّ المأمور بـه حقیقـة فی باب الغسل ـ مثلاً ـ هی الطهارة الحاصلـة منـه ، وتردّد أمر الغسل بین أن یکون الترتیب بین الأجزاء أو بین الجانبین ـ مثلاً ـ معتبراً فیـه أم لا .
ولتوضیح عدم الجریان فی الأسباب والمحصّلات الشرعیّـة نقول : إنّ جعل الأسباب والمحصّلات الشرعیّـة وکذا الاُمور الاعتباریـة العقلائیـة کالبیع ونحوه لا یکون معناه کون الأسباب مؤثّرة فی حصول المسبّبات تکویناً ، بحیث لم یکن قبل تحقّق الأسباب شیء منها ، وبعد تحقّقها صارت موجودة فی عالم التکوین ، وهذا واضح جدّاً .
وکذلک لیس معناه کون الأسباب بعد حصولها مؤثّرة فی تحقّق الاعتبار إمّا من الشرع أو من العقلاء ، بحیث کان إیجاد « بعتُ » مثلاً والتکلّم بهذه اللفظـة بقصد إنشاء البیع علّـة مؤثّرة فی تحقّق اعتبار العقلاء ، ضرورة أنّ لاعتبارهم مبادئ مخصوصـة وأسباب معیّنـة ، ولا یعقل أن یکون قول « بعت » مؤثّراً فی نفوس العقلاء بحیث کانوا مجبورین بمجرّد صدوره من المنشئ فی اعتبار البیع ، کما هو أوضح من أن یخفی .
بل التحقیق : أنّ العقلاء فی الأزمنـة المتقدّمـة بعد ما رأوا توقّف معاشهم علی مثل البیع وأحرزوا الاحتیاج إلیـه اعتبروا ذلک علی سبیل الکلّیـة ، فإذا تحقّق فی الخارج بیع ، یتحقّق حینئذٍ موضوع اعتبار العقلاء بخروج المبیع عن ملک البائع وانتقالـه إلی ملک المشتری ، وکذا الثمن ، لا أن یکون تحقّق البیع فی الخارج
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 212
مؤثّراً فی أصل اعتبار العقلاء ؛ لما عرفت من أنّ الاعتبار لأسباب ومبادئ خاصّـة ، بل تحقّقـه یوجب تحقّق الموضوع لاعتبارهم ، هذا فی الاُمور الاعتباریّـة العقلائیّـة .
وأمّا فی المجعولات الشرعیّـة فهی علی قسمین :
أحدهما : أن یکون المسبّب من الاُمور الاعتباریـة العقلائیـة المتعارفـة عندهم . غایـة الأمر أنّ الشارع یتصرّف فی الأسباب فیردع عن بعضها وإن کان عند العقلاء موضوعاً للاعتبار ، أو یزید علیها سبباً آخر فی عرض سائر الأسباب .
وبالجملـة : فتصرّفـه حینئذٍ مقصور علی الأسباب إمّا بخلع بعضها عن السببیّـة ، وإمّـا بتوسعـة دائـرتها بإضافـة بعض ما لم یکـن عند العقلاء سببـاً . مثلاً حقیقـة النکاح والطلاق من الاُمـور المعتبرة عند العقلاء ، والشارع أیضاً تبعهم فـی ذلک ولکـن تصرّف فی أسباب حصولهما ، فردع عـن بعضها ولم یرتّب الأثر علیـه .
ثانیهما : أن یکون المسبّب أیضاً ممّا لم یکن معتبراً عند العقلاء ، بل کان من المجعولات الشرعیّـة والمخترعات التی لم تکن لها سابقـة عند العقلاء . وفی هذا القسم لابدّ وأن یکون السبب أیضاً مجعولاً کالمسبّب ؛ لأنّ المفروض أنّ المسبّب من المخترعات الشرعیّـة ، ولا یعقل أن یکون لمثل ذلک أسباب عقلیّـة أو عادیّـة ، بل أسبابها لابدّ وأن تکون مجعولـة شرعاً ، ولا یغنی جعل واحد منهما عن الآخر ، أمّا جعل المسبّب فلما عرفت من أنّ المفروض کونـه من المجعولات الشرعیّـة وأسبابها لابدّ وأن تکون شرعیّـة . فمجرّد کون الطهارة المأمور بها أمراً اعتباریاً شرعیاً لا یغنی عن جعل الوضوء والغسل سبباً لحصولها ، کما أنّ جعل السبب بالجعل البسیط لا بالجعل المرکّب الذی مرجعـه إلی جعل السبب سبباً لا یغنی عن جعل المسبّب .
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 213
وبالجملـة : لابدّ فی المجعولات الشرعیّـة من أن یتعلّق الجعل بالأسباب والمسبّبات معاً ولا یغنی جعل واحد منهما عن الآخر .
إذا عرفت ذلک فاعلم : أنّـه لا مجال لجریان البراءة العقلیّـة فی الأسباب والمحصّلات الشرعیّـة ؛ لأنّ اعتبارها وإن کان بید الشارع ، إلاّ أنّـه حیث یکون المأمور بـه هو المسبّبات وهی مبیّـنـة لا خفاء فیها فمقتضی اشتغال الیقینی بها لزوم العلم بتحقّقها ، وهو یتوقّف علی ضمّ القید المشکوک أیضاً .
وأمّا البراءة الشرعیّـة فقد یقال بجریانها ، لأنّ الشکّ فی حصول المسبّب وهی الطهارة أو النقل والانتقال ـ مثلاً ـ مسبّب عن الشکّ فی الأسباب ، وأنّـه هل الترتیب بین الأجزاء ـ مثلاً ـ معتبر فی الوضوء ، أو العربیّـة والماضویّـة معتبرة فی الصیغـة عند الشارع أم لا ؟ وبعد کون الأسباب من المجعولات الشرعیّـة لا مانع من جریان حدیث الرفع ونفی القید الزائد المشکوک بـه ، وإذا ارتفع الشکّ عن السبب بسبب حدیث الرفع یرتفع الشکّ عن المسبّب أیضاً ، ولا یلزم أن یکون الأصل مثبتاً بعد کون المفروض أنّ المسبّب من الآثار الشرعیّـة المترتّبـة علی السبب .
ولکن لا یخفی : أنّ مثل حدیث الرفع وإن کان یرفع اعتبار الزیادة المشکوکـة لکونها مجهولـة غیر مبیّنـة ، إلاّ أنّ رفعها لا یستلزم رفع الشکّ عن حصول المسبّب ، لأنّـه یتوقّف علی أن یکون ما عدا الزیادة تمام السبب وتمام المؤثّر ، إذ بدونـه لا یرتفع الشکّ عن المسبّب ، وکونـه تمام السبب لا یثبت برفع اعتبار الزیادة المشکوکـة إلاّ علی القول بالأصل المثبت ، ونحن لا نقول بـه .
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 214