فی جریان البراءة الشرعیّة فی المقام
وأمّا البراءة الشرعیّـة : فالظاهر أنّـه لا مانع من جریانها بناءً علی ما هو مقتضی التحقیق من انحلال العلم الإجمالی إلی العلم التفصیلی بوجوب الأقلّ والشکّ فی وجوب الأکثر ، کما عرفت . وذلک لأنّ الأقلّ معلوم وجوبـه النفسی تفصیلاً والأکثر مشکوک ، فیکون مرفوعاً بمثل حدیث الرفع ، ولا فرق فی ذلک
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 195
بین أن یقال بدلالـة الحدیث علی رفع الجزئیّـة المجهولـة بناءً علی إمکان رفعها لکونها قابلـة للوضع ، أو یقال بدلالتـه علی رفع الوجوب النفسی المتعلّق بالأکثر بناءً علی عدم إمکان رفع الجزئیـة . وکیف کان فلا مانع من جریانها بالنسبـة إلی الأکثر بناءً علی الانحلال .
وأمّا بناءً علی عدم الانحلال الموجب لعدم جریان البراءة العقلیّـة فهل تجری البراءة الشرعیّـة مطلقاً ، أو لا تجری کذلک ، أو یفصّل بین ما إذا کان العلم الإجمالی مقتضیاً لوجوب الموافقـة القطعیّـة فتجری ، وبین ما إذا قیل بکونـه علّـة تامّـة لـه فلا تجری ؟ وجوه بل أقوال ذهب إلی الأوّل المحقّق الخراسانی وإلی الأخیر المحقّق العراقی علی ما فی تقریرات بحثـه .
والحقّ هو الوجـه الثانی ، لأنّـه لو کان مجری البراءة هو الوجوب النفسی المتعلّق بالأکثر المجهول فالأصل وإن کان یجری بالنسبـة إلیـه لکونـه مشکوکاً ، إلاّ أنّـه معارض بالأصل الجاری فی الأقلِّ، لأنّ وجوبـه النفسی أیضاً مشکوک بناءً علی ما هو المفروض من عدم انحلال العلم الإجمالی ، لأنّـه یلزم من جریانهما مخالفـة عملیّـة للتکلیف المعلوم المتحقّق فی البین المردّد بین الأقلّ والأکثر .
ودعوی : أنّ طبیعـة الوجوب بالنسبـة إلی الأقلّ معلومـة بالتفصیل ، فلا تجری أصالـة البراءة بالنسبـة إلیـه ، وأمّا الأکثر فأصل تعلّق الوجوب بـه مشکوک ، فلا مانع من جریان الأصل فیـه .
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 196
مدفوعـة : بأنّ الأمر المشترک بین الوجوب النفسی والغیری أمر انتزاعی لا یکون قابلاً للجعل ، ضرورة أنّ المجعول إمّا هو الوجوب النفسی ، وإمّا هو الوجوب الغیری ، غایـة الأمر أنّ العقل بعد ملاحظتهما ینتزع منهما أمراً واحداً وهو أصل الوجوب والإلزام .
کما أنّ دعوی عدم جریان الأصل فی الأقلّ بالنسبـة إلی وجوبـه النفسی ، لعدم ترتّب أثر علیـه بعد لزوم الإتیان بـه علی أیّ تقدیر کان واجباً نفسیّاً أو غیریّاً فلا معارض للأصل الجاری فی الأکثر .
تندفع بأنّـه یکفی فی جریان الأصل ترتّب الأثر علیـه ولو فی بعض الموارد ، وهنا یکون کذلک ، فإنّ جریان أصل البراءة عن الوجوب النفسی المجهول المتعلّق بالأقلّ یترتّب علیـه الأثر فیما لو سقط الجزء المشکوک عن الجزئیـة لتعذّر وغیره ، فإنّ مقتضی أصالـة البراءة عن وجوب الأقلّ عدم لزوم الإتیان بـه أصلاً .
وبالجملـة : فلو کان مجری البراءة هو الوجوب النفسی المتعلّق بالأکثر لکان الأصل الجاری فیـه معارضاً بالأصل الجاری فی الأقلِّ. وأمّا لو کان مجراها هی جزئیّـة الجزء المشکوک فعلی مختار الأعاظم من عدم کون الجزئیّـة قابلـة للوضع ولا للرفع ، بل کلّ واحد منهما یتعلّق بمنشأ انتزاعـه وهو الوجوب النفسی المتعلّق بالمرکّب من الجزء المشکوک وسائر الأجزاء فیقع التعارض حینئذٍ بین الأصل الجاری فی منشأ انتزاعـه وبین الأصل الجاری فی الأقلّ کما فی الصورة السابقـة .
ومن هنا ینقدح الخلل فیما أفاده المحقّق العراقی بعد تسلیم ثبوت التعارض بین الأصل الجاری فی الأکثر فی وجوبـه النفسی والأصل الجاری فی الأقلِّ، من
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 197
أنّـه یکفی فی جریان الأصل فی جزئیّـة المشکوک مجرّد کونها ممّا أمر رفعـه ووضعـه بید الشارع ولو بتوسّط منشائـه وهو التکلیف ، فإنّ للشارع رفع الجزئیّـة عن المشکوک برفع الید عن فعلیّـة التکلیف المتعلّق بالأکثر .
وجـه الخلل ما عرفت من أنّ منشأ انتزاع الجزئیّـة هو الوجوب النفسی المتعلّق بالمرکّب ، والأصل الجاری فی المرکّب من الجزء المشکوک معارض بالأصل الجاری فی المرکّب من غیره ، کما اعترف بـه .
وأمّا لو کان مجری البراءة هو الوجوب المتعلّق بالجزء المشکوک فالظاهر أیضاً عدم جریان الأصل فیـه للمعارضـة ، لأنّ الوجوب المتعلّق بالجزء المشکوک وإن کان وجوباً شرعیاً بناءً علی القول بوجوب المقدّمـة علی خلاف ما هو الحقّ والمحقّق فی محلّـه ، إلاّ أنّ الملازمـة بینـه وبین وجوب ذی المقدّمـة ملازمـة عقلیّـة ، فالشکّ فیـه وإن کان مسبّباً عن الشکّ فی وجوب الأکثر ، إلاّ أنّـه لا یرتفع بالأصل الجاری فی السبب بعد عدم کون المسبّب من الآثار الشرعیّـة المترتّبـة علیـه ، فکما أنّـه یجری الأصل فی السبب یجری فی المسبّب أیضاً . وحینئذٍ فیقع التعارض بین الأصل الجاری فیهما والجاری فی الأقلِّ.
نعم لو قلنا بکون وجوب المقدّمـة من الآثار الشرعیّـة المترتّبـة علی وجوب ذیها لکان الأصل الجاری فی السبب معارضاً بالأصل الجاری فی الأقلِّ، ویبقی الأصل الجاری فی المسبّب سلیماً عن المعارض ، ولکن هذا بمکان من البطلان ، لأنّ مسألـة وجوب المقدّمـة مسألـة عقلیّـة ، کما هو المسلّم بینهم .
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 198
فانقدح من جمیع ما ذکرنا : أنّـه بناءً علی عدم انحلال العلم الإجمالی لا یجـری أصالـة البراءة بالنسبـة إلی الأکثر لا فـی وجوبـه النفسی المتعلّق بـه ، ولا فی جزئیـة الجزء المشکوک ، ولا فی الوجوب المتعلّق بـه .
وهذا لا فرق فیـه بین أن نقول باقتضاء العلم الإجمالی لوجوب الموافقـة القطعیـة ، وبین أن نقول بکونـه علّـة تامّـة لـه ، فالتفکیک بین البراءة الشرعیّـة والعقلیّـة ممّا لا وجـه لـه أصلاً .
ثمّ إنّ المحقّق العراقی المفصّل بین القـول بالاقتضاء والعلّیـة أفـاد فی وجـه عدم جریان الأصل النافی ـ بناءً علی العلّیـة ولو فی بعض أطرافـه بلا معارض ـ أنّـه بعد انتهاء الأمر إلی حکم العقل بوجوب الاحتیاط ولزوم تحصیل الجـزم بالفراغ ولو جعلیّاً لا مجال لجـریان الاُصول النافیـة ولو فی فرض کونها بلا معارض ، إلاّ علی فرض اقتضاء جریانها لإثبات أنّ الواجب الفعلی هو الأقلّ ولو ظاهراً ، کی ببرکـة إثباتـه ذلک یکون الإتیان بـه فراغـاً جعلیاً عمّا ثبت فی العهدة . وهو أیضاً فی محلّ المنع ؛ لمنع اقتضاء مجرّد نفی وجوب الأکثر والخصوصیّـة الزائدة لإثبات هذه الجهـة إلاّ علی القول بالمثبت الذی لا نقول بـه .
نعم قد یتوهّم تکفّل مثل حدیث الرفع لإثبات ذلک بتقریبات ثلاثـة :
أحدها : أنّ الحدیث ناظر إلی إطلاقات أدلّـة الجزئیـة واقعاً بتقیـید مفاد فعلیّتها بحال العلم بها ، وأنّـه برفع فعلیّـة التکلیف عن المشکوک واقعاً مع ضمیمـة ظهور بقیـة الأجزاء فی الفعلیـة یرتفع الإجمال من البین ویتعیّن کون متعلّق التکلیف الفعلی هو الأقلِّ، وبالإتیان بـه یتحقّق الفراغ والخروج عن عهدة التکلیف .
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 199
وأجاب عن هذا التقریب بما ملخّصـه : منع صلاحیّـة حدیث الرفع لأن یکون ناظراً إلی نفی فعلیّـة التکلیف عن المشکوک واقعاً ، إذ مفاد الرفع فیـه إنّما هو مجرّد الرفع الظاهری الثابت فی المرتبـة المتأخّرة عـن الجهل بالواقـع ، ومثلـه غیر صالح لتقیـید إطلاق الجزئیّـة الواقعیّـة المحفوظـة حتّی بمرتبـة فعلیّتها فی المرتبـة السابقـة عن تعلّق الجهل بها ؛ لاستحالـة ورود الرفع فی ظرف الجهل بشیء علی الشیء الملحوظ کونـه فـی المرتبـة السابقـة علی الجهل بنفسـه ، ولأنّ رفـع کلّ شیء عبارة عـن نقیضـه وبدیلـه ، فلا یمکن أن یکون الرفع فی هذه المرتبـة نقیضاً لما هو فی المرتبـة السابقـة ؛ لأنّ وحدة الرتبـة بین النقیضین من الوحدات الثمان التی تعتبر فی التناقض والتضادِّ. وحینئذٍ فلو کانت مقتضیات الفعلیّـة فی المرتبـة السابقـة علی الجهل متحقّقـة لا یکاد یصلح مثل هذا الحـدیث للمانعیّـة عنها ، ومعـه یبقی العلم الإجمالی علـی حالـه .
وتوهّم : أنّ الحکم الظاهری وإن لم یکن فی مرتبـة الحکم الواقعی ، إلاّ أنّ الحکم الواقعی ولو بنتیجـة الإطلاق یکون فی مرتبـة الحکم الظاهری ، وبذلک أمکن تعلّق الرفع فی تلک المرتبـة بفعلیّـة الحکم الواقعی .
مدفوع : بأنّـه مع الاعتراف بکون الحکم الظاهری فی طول الحکم الواقعی کیف یمکن توهّم کون الحکم الواقعی فی عرض الحکم الظاهری وفی مرتبتـه . نعم الحکم الواقعی یجتمع مع الحکم الظاهری زماناً ، ولکنّـه لا یقتضی اجتماعهما رتبـة ، انتهی .
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 200
وأنت خبیر بعدم تمامیّـة هذا الجواب ، لأنّـه ـ مضافاً إلی منع کون الجهل بشیء والشکّ فیـه متأخّراً عن نفس ذلک الشیء وإلاّ لزم انقلابـه علماً ، کما هو واضح ـ یرد علیـه أنّ معنی الإطلاق لیس هو لحاظ السریان والشمول حتّی یقتصر فیـه علی الحالات التی کانت فی عرض الواقع من حیث الرتبـة ، بل هو عبارة عن مجرّد عدم أخذ القید فی نفس الحکم أو متعلّقـه مع کونـه بصدد البیان ، وحینئذٍ فلا مانع من شمول إطلاق الواقع لمرتبـة الجهل بـه ، فلا استحالـة فی ورود الرفع فی ظرف الجهل علی الواقع الشامل لمرتبـة الجهل أیضاً .
ومن هنا یظهر : أنّ الحکم الواقعی یکون فی مرتبـة الحکم الظاهری ومحفوظاً معـه ، کما تقدّم تحقیقـه فی مبحث اجتماع الحکم الظاهری مع الواقعی .
هذا تمام الکلام فیما لو کان الأقلّ والأکثر من قبیل الأجزاء .
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 201