فی جریان ا‏لبراءة ا‏لشرعیّة فی ا‏لمقام

فی جریان البراءة الشرعیّة فی المقام

‏ ‏

‏وأمّا البراءة الشرعیّـة : فالظاهر أنّـه لا مانع من جریانها بناءً علی ما هو‏‎ ‎‏مقتضی التحقیق من انحلال العلم الإجمالی إلی العلم التفصیلی بوجوب الأقلّ‏‎ ‎‏والشکّ فی وجوب الأکثر ، کما عرفت . وذلک لأنّ الأقلّ معلوم وجوبـه النفسی‏‎ ‎‏تفصیلاً والأکثر مشکوک ، فیکون مرفوعاً بمثل حدیث الرفع‏‎[1]‎‏ ، ولا فرق فی ذلک‏‎ ‎


کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 195
‏بین أن یقال بدلالـة الحدیث علی رفع الجزئیّـة المجهولـة بناءً علی إمکان رفعها‏‎ ‎‏لکونها قابلـة للوضع ، أو یقال بدلالتـه علی رفع الوجوب النفسی المتعلّق بالأکثر‏‎ ‎‏بناءً علی عدم إمکان رفع الجزئیـة . وکیف کان فلا مانع من جریانها بالنسبـة إلی‏‎ ‎‏الأکثر بناءً علی الانحلال .‏

‏وأمّا بناءً علی عدم الانحلال الموجب لعدم جریان البراءة العقلیّـة فهل‏‎ ‎‏تجری البراءة الشرعیّـة مطلقاً ، أو لا تجری کذلک ، أو یفصّل بین ما إذا کان العلم‏‎ ‎‏الإجمالی مقتضیاً لوجوب الموافقـة القطعیّـة فتجری ، وبین ما إذا قیل بکونـه‏‎ ‎‏علّـة تامّـة لـه فلا تجری ؟ وجوه بل أقوال ذهب إلی الأوّل المحقّق الخراسانی‏‎[2]‎‏ ‏‎ ‎‏وإلی الأخیر المحقّق العراقی علی ما فی تقریرات بحثـه‏‎[3]‎‏ .‏

‏والحقّ هو الوجـه الثانی ، لأنّـه لو کان مجری البراءة هو الوجوب النفسی‏‎ ‎‏المتعلّق بالأکثر المجهول فالأصل وإن کان یجری بالنسبـة إلیـه لکونـه مشکوکاً ،‏‎ ‎‏إلاّ أنّـه معارض بالأصل الجاری فی الأقلِّ، لأنّ وجوبـه النفسی أیضاً مشکوک‏‎ ‎‏بناءً علی ما هو المفروض من عدم انحلال العلم الإجمالی ، لأنّـه یلزم من‏‎ ‎‏جریانهما مخالفـة عملیّـة للتکلیف المعلوم المتحقّق فی البین المردّد بین الأقلّ‏‎ ‎‏والأکثر .‏

ودعوی‏ : أنّ طبیعـة الوجوب بالنسبـة إلی الأقلّ معلومـة بالتفصیل ، فلا‏‎ ‎‏تجری أصالـة البراءة بالنسبـة إلیـه ، وأمّا الأکثر فأصل تعلّق الوجوب بـه‏‎ ‎‏مشکوک ، فلا مانع من جریان الأصل فیـه .‏


کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 196
مدفوعـة‏ : بأنّ الأمر المشترک بین الوجوب النفسی والغیری أمر انتزاعی‏‎ ‎‏لا یکون قابلاً للجعل ، ضرورة أنّ المجعول إمّا هو الوجوب النفسی ، وإمّا هو‏‎ ‎‏الوجوب الغیری ، غایـة الأمر أنّ العقل بعد ملاحظتهما ینتزع منهما أمراً واحداً‏‎ ‎‏وهو أصل الوجوب والإلزام .‏

‏کما أنّ دعوی عدم جریان الأصل فی الأقلّ بالنسبـة إلی وجوبـه النفسی ،‏‎ ‎‏لعدم ترتّب أثر علیـه بعد لزوم الإتیان بـه علی أیّ تقدیر کان واجباً نفسیّاً أو غیریّاً‏‎ ‎‏فلا معارض للأصل الجاری فی الأکثر .‏

‏تندفع بأنّـه یکفی فی جریان الأصل ترتّب الأثر علیـه ولو فی بعض‏‎ ‎‏الموارد ، وهنا یکون کذلک ، فإنّ جریان أصل البراءة عن الوجوب النفسی‏‎ ‎‏المجهول المتعلّق بالأقلّ یترتّب علیـه الأثر فیما لو سقط الجزء المشکوک عن‏‎ ‎‏الجزئیـة لتعذّر وغیره ، فإنّ مقتضی أصالـة البراءة عن وجوب الأقلّ عدم لزوم‏‎ ‎‏الإتیان بـه أصلاً .‏

‏وبالجملـة : فلو کان مجری البراءة هو الوجوب النفسی المتعلّق بالأکثر‏‎ ‎‏لکان الأصل الجاری فیـه معارضاً بالأصل الجاری فی الأقلِّ. وأمّا لو کان‏‎ ‎‏مجراها هی جزئیّـة الجزء المشکوک فعلی مختار الأعاظم من عدم کون الجزئیّـة‏‎ ‎‏قابلـة للوضع ولا للرفع ، بل کلّ واحد منهما یتعلّق بمنشأ انتزاعـه وهو الوجوب‏‎ ‎‏النفسی المتعلّق بالمرکّب من الجزء المشکوک وسائر الأجزاء فیقع التعارض‏‎ ‎‏حینئذٍ بین الأصل الجاری فی منشأ انتزاعـه وبین الأصل الجاری فی الأقلّ کما‏‎ ‎‏فی الصورة السابقـة .‏

‏ومن هنا ینقدح الخلل فیما أفاده المحقّق العراقی بعد تسلیم ثبوت التعارض‏‎ ‎‏بین الأصل الجاری فی الأکثر فی وجوبـه النفسی والأصل الجاری فی الأقلِّ، من‏‎ ‎


کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 197
‏أنّـه یکفی فی جریان الأصل فی جزئیّـة المشکوک مجرّد کونها ممّا أمر رفعـه‏‎ ‎‏ووضعـه بید الشارع ولو بتوسّط منشائـه وهو التکلیف ، فإنّ للشارع رفع الجزئیّـة‏‎ ‎‏عن المشکوک برفع الید عن فعلیّـة التکلیف المتعلّق بالأکثر‏‎[4]‎‏ .‏

‏وجـه الخلل ما عرفت من أنّ منشأ انتزاع الجزئیّـة هو الوجوب النفسی‏‎ ‎‏المتعلّق بالمرکّب ، والأصل الجاری فی المرکّب من الجزء المشکوک معارض‏‎ ‎‏بالأصل الجاری فی المرکّب من غیره ، کما اعترف بـه .‏

‏وأمّا لو کان مجری البراءة هو الوجوب المتعلّق بالجزء المشکوک فالظاهر‏‎ ‎‏أیضاً عدم جریان الأصل فیـه للمعارضـة ، لأنّ الوجوب المتعلّق بالجزء‏‎ ‎‏المشکوک وإن کان وجوباً شرعیاً بناءً علی القول بوجوب المقدّمـة علی خلاف ما‏‎ ‎‏هو الحقّ والمحقّق فی محلّـه‏‎[5]‎‏ ، إلاّ أنّ الملازمـة بینـه وبین وجوب ذی المقدّمـة‏‎ ‎‏ملازمـة عقلیّـة ، فالشکّ فیـه وإن کان مسبّباً عن الشکّ فی وجوب الأکثر ، إلاّ أنّـه‏‎ ‎‏لا یرتفع بالأصل الجاری فی السبب بعد عدم کون المسبّب من الآثار الشرعیّـة‏‎ ‎‏المترتّبـة علیـه ، فکما أنّـه یجری الأصل فی السبب یجری فی المسبّب أیضاً .‏‎ ‎‏وحینئذٍ فیقع التعارض بین الأصل الجاری فیهما والجاری فی الأقلِّ.‏

‏نعم لو قلنا بکون وجوب المقدّمـة من الآثار الشرعیّـة المترتّبـة علی‏‎ ‎‏وجوب ذیها لکان الأصل الجاری فی السبب معارضاً بالأصل الجاری فی الأقلِّ،‏‎ ‎‏ویبقی الأصل الجاری فی المسبّب سلیماً عن المعارض ، ولکن هذا بمکان من‏‎ ‎‏البطلان ، لأنّ مسألـة وجوب المقدّمـة مسألـة عقلیّـة ، کما هو المسلّم بینهم .‏


کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 198
‏فانقدح من جمیع ما ذکرنا : أنّـه بناءً علی عدم انحلال العلم الإجمالی‏‎ ‎‏لا یجـری أصالـة البراءة بالنسبـة إلی الأکثر لا فـی وجوبـه النفسی المتعلّق بـه ،‏‎ ‎‏ولا فی جزئیـة الجزء المشکوک ، ولا فی الوجوب المتعلّق بـه .‏

‏وهذا لا فرق فیـه بین أن نقول باقتضاء العلم الإجمالی لوجوب الموافقـة‏‎ ‎‏القطعیـة ، وبین أن نقول بکونـه علّـة تامّـة لـه ، فالتفکیک بین البراءة الشرعیّـة‏‎ ‎‏والعقلیّـة ممّا لا وجـه لـه أصلاً .‏

ثمّ إنّ المحقّق العراقی‏ المفصّل بین القـول بالاقتضاء والعلّیـة أفـاد فی‏‎ ‎‏وجـه عدم جریان الأصل النافی ـ بناءً علی العلّیـة ولو فی بعض أطرافـه‏‎ ‎‏بلا معارض ـ أنّـه بعد انتهاء الأمر إلی حکم العقل بوجوب الاحتیاط ولزوم‏‎ ‎‏تحصیل الجـزم بالفراغ ولو جعلیّاً لا مجال لجـریان الاُصول النافیـة ولو فی‏‎ ‎‏فرض کونها بلا معارض ، إلاّ علی فرض اقتضاء جریانها لإثبات أنّ الواجب‏‎ ‎‏الفعلی هو الأقلّ ولو ظاهراً ، کی ببرکـة إثباتـه ذلک یکون الإتیان بـه فراغـاً‏‎ ‎‏جعلیاً عمّا ثبت فی العهدة . وهو أیضاً فی محلّ المنع ؛ لمنع اقتضاء مجرّد نفی‏‎ ‎‏وجوب الأکثر والخصوصیّـة الزائدة لإثبات هذه الجهـة إلاّ علی القول بالمثبت‏‎ ‎‏الذی لا نقول بـه .‏

‏نعم قد یتوهّم تکفّل مثل حدیث الرفع لإثبات ذلک بتقریبات ثلاثـة :‏

‏أحدها : أنّ الحدیث ناظر إلی إطلاقات أدلّـة الجزئیـة واقعاً بتقیـید مفاد‏‎ ‎‏فعلیّتها بحال العلم بها ، وأنّـه برفع فعلیّـة التکلیف عن المشکوک واقعاً مع ضمیمـة‏‎ ‎‏ظهور بقیـة الأجزاء فی الفعلیـة یرتفع الإجمال من البین ویتعیّن کون متعلّق‏‎ ‎‏التکلیف الفعلی هو الأقلِّ، وبالإتیان بـه یتحقّق الفراغ والخروج عن عهدة‏‎ ‎‏التکلیف .‏


کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 199
‏وأجاب عن هذا التقریب بما ملخّصـه : منع صلاحیّـة حدیث الرفع لأن‏‎ ‎‏یکون ناظراً إلی نفی فعلیّـة التکلیف عن المشکوک واقعاً ، إذ مفاد الرفع فیـه إنّما‏‎ ‎‏هو مجرّد الرفع الظاهری الثابت فی المرتبـة المتأخّرة عـن الجهل بالواقـع ،‏‎ ‎‏ومثلـه غیر صالح لتقیـید إطلاق الجزئیّـة الواقعیّـة المحفوظـة حتّی بمرتبـة‏‎ ‎‏فعلیّتها فی المرتبـة السابقـة عن تعلّق الجهل بها ؛ لاستحالـة ورود الرفع فی‏‎ ‎‏ظرف الجهل بشیء علی الشیء الملحوظ کونـه فـی المرتبـة السابقـة علی‏‎ ‎‏الجهل بنفسـه ، ولأنّ رفـع کلّ شیء عبارة عـن نقیضـه وبدیلـه ، فلا یمکن أن‏‎ ‎‏یکون الرفع فی هذه المرتبـة نقیضاً لما هو فی المرتبـة السابقـة ؛ لأنّ وحدة‏‎ ‎‏الرتبـة بین النقیضین من الوحدات الثمان التی تعتبر فی التناقض والتضادِّ.‏‎ ‎‏وحینئذٍ فلو کانت مقتضیات الفعلیّـة فی المرتبـة السابقـة علی الجهل متحقّقـة‏‎ ‎‏لا یکاد یصلح مثل هذا الحـدیث للمانعیّـة عنها ، ومعـه یبقی العلم الإجمالی‏‎ ‎‏علـی حالـه .‏

وتوهّم‏ : أنّ الحکم الظاهری وإن لم یکن فی مرتبـة الحکم الواقعی ، إلاّ أنّ‏‎ ‎‏الحکم الواقعی ولو بنتیجـة الإطلاق یکون فی مرتبـة الحکم الظاهری ، وبذلک‏‎ ‎‏أمکن تعلّق الرفع فی تلک المرتبـة بفعلیّـة الحکم الواقعی .‏

مدفوع‏ ‏‏بأنّـه مع الاعتراف بکون الحکم الظاهری فی طول الحکم الواقعی‏‎ ‎‏کیف یمکن توهّم کون الحکم الواقعی فی عرض الحکم الظاهری وفی مرتبتـه .‏‎ ‎‏نعم الحکم الواقعی یجتمع مع الحکم الظاهری زماناً ، ولکنّـه لا یقتضی اجتماعهما‏‎ ‎‏رتبـة‏‎[6]‎‏ ، انتهی .‏


کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 200
‏وأنت خبیر بعدم تمامیّـة هذا الجواب ، لأنّـه ـ مضافاً إلی منع کون الجهل‏‎ ‎‏بشیء والشکّ فیـه متأخّراً عن نفس ذلک الشیء وإلاّ لزم انقلابـه علماً ، کما هو‏‎ ‎‏واضح ـ یرد علیـه أنّ معنی الإطلاق لیس هو لحاظ السریان والشمول حتّی‏‎ ‎‏یقتصر فیـه علی الحالات التی کانت فی عرض الواقع من حیث الرتبـة ، بل هو‏‎ ‎‏عبارة عن مجرّد عدم أخذ القید فی نفس الحکم أو متعلّقـه مع کونـه بصدد البیان ،‏‎ ‎‏وحینئذٍ فلا مانع من شمول إطلاق الواقع لمرتبـة الجهل بـه ، فلا استحالـة فی‏‎ ‎‏ورود الرفع فی ظرف الجهل علی الواقع الشامل لمرتبـة الجهل أیضاً .‏

‏ومن هنا یظهر : أنّ الحکم الواقعی یکون فی مرتبـة الحکم الظاهری‏‎ ‎‏ومحفوظاً معـه ، کما تقدّم تحقیقـه فی مبحث اجتماع الحکم الظاهری مع الواقعی .‏

‏هذا تمام الکلام فیما لو کان الأقلّ والأکثر من قبیل الأجزاء .‏

‎ ‎

کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 201

  • )) الخصال : 417 / 9 ، وسائل الشیعـة 15 : 369 ، کتاب الجهاد ، أبواب جهاد النفس ، الباب 56 ، الحدیث 1 .
  • )) کفایـة الاُصول : 416 .
  • )) نهایـة الأفکار 3 : 389 .
  • )) نهایـة الأفکار 3 : 390 .
  • )) تقدّم فی الجزء الأوّل : 15 .
  • )) نهایة الأفکار 3 : 390 ـ 392 .