شبهة المحقّق الحائری فی المقام وجوابها
ثمّ إنّ هنا شبهـة لبعض المحقّقین من المعاصرین ، وهی أنّـه لا إشکال فی أنّ الحلّیـة مترتّبـة علی الطهارة ، بمعنی أنّ الشکّ فی الاُولی مسبّب عن الشکّ فی الثانیـة ، کما أنّ الشکّ فی طهارة الملاقی مسبّب عن الشکّ فی طهارة الملاقی ، فالشکّ فی طهارة الملاقی یکون فی مرتبـة الشکّ فی حلّیـة الملاقی ، بمعنی أنّ کلیهما مسبّبان عن الشکّ فی طهارتـه .
وحینئذٍ نقول : هنا ستـة اُصول فی الأطراف الثلاثـة ، ثلاثـة منها أصالـة الطهارة وثلاثـة أصالـة الحلّیـة ، والاثنان منها وهی أصالـة الطهارة فی الملاقی وأصالـة الطهارة فی الطرف یسقطان أوّلاً ، لأنّهما فی رتبـة واحدة ، وثلاث منها وهی أصالـة الحلّیـة فیهما وأصالـة الطهارة فی الملاقی فی رتبـة ثانیـة ، فمع سقوط أصالتی الحلّیـة ، کما هو المفروض یسقط أصالـة طهارة الملاقی أیضاً ، ولم یبق فی البین إلاّ أصالـة الحلّیـة فی الملاقی ، وهی واقعـة فی رتبـة ثالثـة ، ولا وجـه لسقوطها ، لسلامتها عن المعارض ، والمفروض أنّـه لا یکون أصل حاکم علیها ، لأنّ الأصل الحاکم غیر جارٍ ، لأجل المعارضـة .
وحینئذٍ فلا یجب الاجتناب عن الملاقی بالنسبـة إلی الأکل ونظائره ، ولا یکون محکوماً بالطهارة شرعاً ، فلا یجوز التوضّی بـه ، هذا .
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 157
ویمکن الجواب عن الشبهـة مضافاً إلی ما عرفت سابقاً بأنّ أصالـة الحلّیـة فی مطلق الشبهات ممّا لم یدلّ علیها دلیل ، لأنّ ما یتوهّم أن یکون مستنداً لها هی روایـة مسعدة بن صدقـة المتقدّمـة وقد عرفت الإشکال فیها بحیث لا یجوز الاعتماد علیها ، وأمّا مثل قولـه علیه السلام : « کلّ شیء فیـه حلال وحرام . . . » إلی آخره ، کما فی صحیحـة عبداللّٰه بن سنان فقد ظهر لک أنّ ذلک یختصّ بالشبهات المقرونـة بالعلم الإجمالی ، ومقتضی عمومها وإن کان الشمول للشبهـة المحصورة أیضاً ، إلاّ أنّ الدلیل العقلی أو العقلائی قد خصّصـه ، فانحصر مورده بالشبهـة الغیر المحصورة .
وأمّا التمسّک فی نفی الحرمـة المجهولـة بأدلّـة البراءة فهو وإن کان صحیحاً ، إلاّ أنّک عرفت عدم شمول أدلّـة البراءة لأطراف العلم الإجمالی . وبالجملـة : فلیس هنا ما یحکم بالحلّیـة وعدم الحرمـة أصلاً .
وکیف کان : فلو سلّم ذلک فیمکن الجـواب بما عرفت مـن أنّ الأصل الجاری فی السبب إنّما یکون حاکماً علی الأصل الجاری فی المسبّب إذا کان المسبّب من الآثار الشرعیّـة المترتّبـة علی السبب ، والمقام لا یکون کذلک ، فإنّ حلّیـة کلّ واحد من الأطراف لا تکون من الآثار الشرعیّـة لطهارتـه ؛ لأنّـه لم یدلّ دلیل علی أنّ کلّ طاهرٍ حلال ، بل الحلّیـة الواقعیـة إنّما تکون موضوعها الأشیاء التی هی حلال بعناوینها الواقعیّـة ، کما هـو واضح .
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 158
کما أنّک عرفت أنّ طهارة الملاقی أیضاً لا تکون من الآثار الشرعیّـة المترتّبـة علی طهارة الملاقی .
وحینئذٍ : فلابـدّ من ملاحظـة طرفی العلم الإجمالی الحادث أوّلاً المؤثّر فـی التنجیز ، والحکم بعدم جریان الاُصول فی طرفیـه ؛ للزوم المخالفـة العملیّـة .
وأمّا مـا هـو خارج عنهما فلا مانـع مـن جریان أصالتی الطهارة والحلّیـة فیـه أصلاً . وحینئذٍ فیصیر مقتضی الأصل الشرعی موافقاً مع حکم العقل الحاکم بالتفصیل بین الصور الثلاثـة المتقدّمـة فی کـلام المحقّق الخـراسانی قدس سره فتأمّل جیّداً .
هذا کلّـه بناءً علی ما هو مقتضی التحقیق .
وأمّا بناءً علی مسلک القوم من اعتبار أصالـة الحلّیـة فی مطلق الشبهات وترتّب الحلّیـة علی الطهارة ، وکذا ترتّب طهارة الملاقی ـ بالکسر ـ علی طهارة الملاقی ـ بالفتح ـ وکون الشکّ فی الأوّل مسبّباً عن الشکّ فی الثانی بحیث لم یکن مجال لجریان الأصل فیـه بعد جریانـه فی السبب ، فلابدّ من التفصیل بین الصور الثلاثـة من حیث ورود الشبهـة وعدمـه .
فنقول فی توضیح ذلک : إنّ عدم جریان الاُصول فی أطراف العلم الإجمالی إنّما هو فیما إذا لزم من جریانها مخالفـة عملیّـة للتکلیف المنجّز ، وأمّا إذا لم یلزم من ذلک مخالفـة عملیّـة أصلاً أو لزم ولکن لم یکن مخالفـة عملیّـة للتکلیف المنجّز فلا مانع من جریان الاُصول ؛ لأنّ التعارض بینهما تعارض عرضی حاصل
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 159
بسبب العلم الإجمالی بکذب أحدها ، لا ذاتی ناشٍ عن عدم إمکان اجتماع مؤدّاها ، ضرورة عدم المنافاة حقیقـة بین حلّیـة هذا الإناء وحلّیـة ذاک الإناء ولو علم إجمالاً بحرمـة واحد منهما ، کما لایخفی .
وحینئذٍ : فلو علم إجمالاً بنجاسـة هذا الإناء أو ذاک الإناء ، ثمّ علم إجمالاً بنجاسـة الإناء الثانی أو إناء ثالث فقد عرفت أنّ العلم الإجمالی الحادث ثانیاً لا یعقل أن یکون منجّزاً بعد اشتراکـه مع العلم الإجمالی الأوّل فی بعض الأطراف ، وحینئذٍ فلا مانع من جریان أصالـة الطهارة فی طرفی العلم الثانی ؛ لأنّـه وإن یلزم من جریانها مخالفـة عملیّـة للمعلوم الإجمالی ، إلاّ أنّ المحذور فی المخالفـة العملیّـة للتکلیف المنجّز ، لا فی مطلق المخالفـة العملیّـة ، والمفروض أنّ العلم الثانی لم یؤثّر فی التنجیز أصلاً .
إذا عرفت ذلک فاعلم : أنّ فی الصورة الاُولی من الصور الثلاثـة المفروضـة فی کلام المحقّق الخراسانی قدس سره لابدّ من الالتزام بجریان أصالتی الطهارة والحلّیـة معاً فی الملاقی ـ بالکسر ـ لأنّ طهارتـه وإن کانت مترتّبـة علی طهارة الملاقی ـ بالفتح ـ وواقعـة فی عرض أصالتی الحلّیـة الجاریتین فی الملاقی والطرف ، إلاّ أنّ الملاقی خارج من طرفی العلم الإجمالی الأوّل ، والعلم الإجمالی الثانی لا یکون مؤثّراً فی التنجیز حتّی یلزم من جریان الأصل فیـه أیضاً مخالفـة عملیّـة للتکلیف المنجّز ، کما هو واضح .
وأمّا الصورة الثالثـة فالظاهر ورود الشبهـة فیها بناءً علی مبنی القوم ، کما هو المفروض ؛ لما ذکروه فی وجهـه ممّا تقدّم .
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 160
بقی الکلام فی أمرین :
الأوّل : أنّک عرفت فی کلام المحقّق الخراسانی أنّـه قدس سره حکم بوجوب الاجتناب عن الملاقی ـ بالکسر ـ دون الملاقی ـ بالفتح ـ فی موردین :
أحدهما : ما لو علم أوّلاً بنجاسـة الملاقی ـ بالکسر ـ أو الطرف ، ثمّ حصل العلم بالملاقاة وبنجاسـة الملاقی ـ بالفتح ـ أو الطرف .
ثانیهمـا : مـا إذا علـم بالمـلاقاة ، ثمّ حـدث العلم الإجمالـی ، ولکـن کـان المـلاقـی ـ بالفتـح ـ خـارجـاً عـن محـلّ الابتـلاء فـی حـال حـدوثـه وصـار مبتلی بـه بعده .
وقد عرفت منّا المتابعـة لـه قدس سره فی المورد الأوّل ، وأمّا المورد الثانی فالظاهر فیـه وجوب الاجتناب عن الملاقی أیضاً .
أمّا بناءً علی ما حقّقناه سابقاً ـ من عدم اشتراط تأثیر العلم الإجمالی فی تنجیز التکلیف بکون أطرافـه مورداً للابتلاء ، لأنّ ذلک مبنی علی انحلال الخطابات إلی الخطابات الشخصیّـة ، وهو ممنوع للمحذورات المتقدّمـة ـ فواضح ؛ لأنّ الخروج عن محلّ الابتلاء لا یؤثّر شیئاً ، فلا موقع لجریان الأصل فی الملاقی ـ بالفتح ـ أصلاً .
وأمّا بناءً علی مسلک المتأخّرین مـن اشتراط تأثیر العلم الإجمالی بعدم خروج شیء من أطرافـه عن محلّ الابتلاء فالظاهر عدم جریان الأصل فی الملاقی هنا وإن خـرج عـن محـلّ الابتلاء ؛ لأنّ الخروج عنـه إنّما یمنع من العدم لو لم یکن للخارج أثر مبتلی بـه ، وإلاّ فمع وجود أثر لـه مورد للابتلاء یجری الأصل فیـه فی غیر أطراف العلم الإجمالی ، ولا یجری فیها ، للزوم المخالفـة
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 161
العملیّـة ، وهنا یکون للملاقی ـ بالفتح ـ الخـارج عـن مورد الابتلاء أثر مبتلی بـه وهو نجاسـة الملاقی ـ بالکسر ـ لو کان نجساً ، کما لایخفی .
الثانی : قد عرفت أنّ نجاسـة الملاقی ـ بالکسر ـ لیست من آثار نجاسـة الأعیان النجسـة بحیث یکون مرجع وجوب الاجتناب عن النجس إلی وجوب الاجتناب عنـه وعن ملاقیـه ، فلا یحتاج جعل النجاسـة لـه إلی تعبّد خاصِّ، بل هو مجعول بتبع جعل النجاسـة للملاقی ـ بالفتح ـ وکذا لا تکون نجاسـة الملاقی ـ بالکسر ـ لأجل حکم العقل بسرایـة النجاسـة منـه إلیـه وتأثیره فیـه خارجاً ، بل هی حکم وضعی مجعول بجعل مستقلّ مرجعـه إلی تأثیر النجس شرعاً فی تنجیس ملاقیـه ، فهو سبب شرعاً لـه ، هذا .
ولو اُغمض عمّا ذکرنا وفرض کون نجاستـه بنحو الأوّل أو الثانی فالظاهر وجوب الاجتناب عن المتلاقیـین والطرف فی جمیع الصور الثلاثـة المتقدّمـة ؛ لأنّ المفروض أنّـه لیس هنا حکم آخر یتعلّق بـه العلم الإجمالی الآخر حتّی یکون اشتراکـه مع العلم الإجمالی الأوّل فی بعض الأطراف مانعاً عن تأثیره فی التنجیز ، فلم یکن مانع من جریان الأصل فی الطرف الآخر . بل هنا لیس إلاّ حکم واحد متعلّق بالطرف أو بالمتلاقیـین ؛ لأنّ المفروض أنّـه لو کان النجس هو الملاقی ـ بالفتح ـ لا یتحقّق الاجتناب عنـه إلاّ بالاجتناب عن الملاقی ـ بالکسر أیضاً ، فمع تنجّز التکلیف بتعلّق العلم الإجمالی بـه یکون مقتضی سحکم العقل الاجتناب عن الجمیع ، کما هو واضح .
هـذا کلّـه مع إحـراز کون نجاسـة الملاقی مـن قبیل أحـد الأوّلین أو مـن قبیل الثالث .
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 162
وأمّا لو شکّ فی ذلک واحتمل أن یکون علی نحو أحد الأوّلین ، أو علی نحو الثالث فقد یقال : بأنّ مقتضی القاعدة فی المقام وجوب الاجتناب عن الملاقی لأحد أطراف العلم الإجمالی أیضاً .
ولکنّ التحقیق یقتضی البراءة ؛ لأنّ مرجع الشکّ فی ذلک إلی أنّ نجاسـة الملاقی هل تکون مجعولـة بالنحو الأوّل أو الثانی حتّی تکون مقتضاه وجوب الاجتناب عنـه فی المقام ؛ لتأثیر العلم الإجمالی فی تنجیز التکلیف بوجوب الاجتناب علی أیّ تقدیر ، ولا یحصل القطع بموافقتـه إلاّ مع الاجتناب عن الجمیع ؛ لأنّـه لو لم یجتنب عن الملاقی ـ بالکسر ـ لم یجتنب عن النجس لو کان هو الملاقی ـ بالفتح ـ أو أنّها مجعولـة علی النحو الثالث الذی مرجعـه إلی کونها حکماً وضعیّاً مستقلاًّ فی قبال النجاسـة المجعولـة للأعیان النجسـة حتّی یکون مقتضاه عدم وجوب الاجتناب عنـه فی بعض الصور ؛ لعدم قابلیّـة العلم الإجمالی الثانی للتنجیز .
وبعبارة اُخری : مرجع الشکّ فی ذلک إلی الشکّ فی أنّ العلم الإجمالی الثانی هل یکون قابلاً للتأثیر فی التنجیز ، لأجل عدم تعلّقـه بحکم آخر ، أو لا یکون قابلاً لـه ، لأجل کون معلومـه حکماً آخر ، ومع الشکّ فی ذلک لا یعلم بوجوب الاجتناب عن الملاقی ، وهو مورد لجریان البراءة العقلیّـة والنقلیـة . ففی الحقیقـة یصیر المقام من قبیل دوران الأمر بین الأقلّ والأکثر الارتباطیـین الذی یکون الأصل الجاری فیـه هو البراءة کما سنحقّقـه ؛ لأنّ وجوب الاجتناب عن الملاقی ـ بالفتح ـ معلوم ، إمّا لکونـه هو النجس ، وإمّا لوقوعـه طرفاً للعلم الإجمالی بالنجس ، ووجوب الاجتناب عن الملاقی ـ بالکسر ـ مشکوک ، لأنّـه
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 163
یحتمل أن یکون حکماً مستقلاًّ ، ومعـه لا یکون العلم الإجمالی الثانی قابلاً للمنجّزیّـة أصلاً ، فیجری فیـه الأصل .
وبالتأمّل فیما ذکرناه تعرف الخلل فیما أفاده العَلمان النائینی والعراقی فی هذا المقام ، ولعلّ مرجع کلامهما إلی أمر واحد وإن کان الأوّل قد أتعب نفسـه الشریفـة بإیراد مقدّمـة لیس لها کثیر ارتباط بالمقام ، مضافاً إلی عدم خلوّها من المناقشـة ، بل المناقشات ، فتأمّل جیّداً .
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 164