مقتضی الأصل العقلی فی صور الملاقاة
الثالث : یعتبر فی تأثیر العلم وکذا غیره من الأمارات المعتبرة أن یکون متّصفاً بالکاشفیّـة الفعلیّـة ومؤثراً فی التنجیز فعلاً وصالحاً للاحتجاج بـه کـذلک ، فلو حصل لـه من طریق أمارة معتبرة الحکم الواقعی ثمّ قامت أمارة
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 149
اُخـری علی وفق الأمارة الاُولی فلا تکون الأمـارة الاُخـری بمؤثّرة أصلاً ، ویکون وجودها بمنزلـة العدم ، لعدم اتّصافها بالکاشفیّـة الفعلیّـة بعد حصول الکشف بسبب الأمارة الاُولی ، وعدم إمکان تحقّق الکشفین بالنسبـة إلی شیء واحد ، وکذا لا تکون مؤثّرة فی التنجیز وقابلـة للاحتجاج بـه فعلاً ، لعدم إمکان التنجّز مرّتین واستحالـة تمامیّـة الحجّـة ثانیاً بعد إتمامها أوّلاً ، وکـذا بالنسبـة إلی العلم .
إذا عرفت ذلک فنقول : إنّ العلم الإجمالی بالنجس المردّد بین الملاقی والطرف قد أثّر فی التنجّز بمجرّد تحقّقـه ، بمعنی أنّـه صار موجباً للاجتناب علی أیّ تقدیر ، فالواقع صار مکشوفاً بهذا النحو من الکشف ، وبعد ذلک نقول : إنّ العلم الإجمالی بنجاسـة الملاقی ـ بالکسر ـ أو الطرف لا یکون کاشفاً فعلیّاً علی تقدیر کون النجس هو الطرف الآخر ؛ لأنّـه صار مکشوفاً بالعلم الإجمالی الأوّل ، وقد عرفت أنّـه لا یعقل عروض الکشف علی الکشف وتحقّقـه مرّتین ، کما أنّـه لا یکون هذا العلم الإجمالی مؤثّراً فی التنجّز فعلاً بعد کونـه مسبوقاً بما أثّر فیـه ، وحینئذٍ فلا أثر لـه أصلاً ، فالشکّ فی نجاسـة الملاقی شکّ بدوی . هذا إذا کان العلم الإجمالی بالنجس متقدّماً علی العلم بالملاقاة .
وأمّا لو علم أوّلاً بنجاسـة الملاقی ـ بالکسر ـ أو الطرف ، ثمّ حصل العلم بالملاقاة والعلم بنجاسـة الملاقی ـ بالفتح ـ أو الطرف فذهب المحقّق الخراسانی فی الکفایـة إلی عدم وجوب الاجتناب حینئذٍ عن الملاقی ـ بالفتح ـ لأنّ حکم الملاقی فی هذه الصورة حکم الملاقی فی الصورة السابقـة بلا فرق بینهما أصلاً ، فکما أنّ الملاقی هناک لم یکن طرفاً للعلم الإجمالی بالنجاسـة ، کذلک الملاقی هنا لا یکون طرفاً لـه ، کما هو المفروض .
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 150
وذهب أیضاً إلی عدم وجوب الاجتناب عـن الملاقی ـ بالفتح ـ فیما إذا علم بالملاقاة ثمّ حدث العلم الإجمالی ، ولکن کان الملاقی خارجاً عـن محلّ الابتلاء فی حال حدوثـه وصار مبتلی بـه بعده ، وإلی وجوب الاجتناب عن الملاقی والملاقی معاً فیما لو حصل العلم الإجمالی بعد العلم بالملاقاة مستدلاًّ بقولـه : ضرورة أنّـه حینئذٍ نعلم إجمالاً إمّا بنجاسـة الملاقی والملاقـی أو بنجاسـة الآخر ، فیتنجّز التکلیف بالاجتناب عن النجس فی البین وهـو الواحـد أو الاثنین ، انتهی .
أقول : والتحقیق أیضاً یوافق هذا التفصیل ، لما مرّ من الوجـه فی الصورة الاولی ، فإنّـه بعد ما علم إجمالاً بنجاسـة الملاقی ـ بالکسر ـ أو الطرف صار مقتضی هذا العلم تنجّز التکلیف بوجوب الاجتناب علی أیّ تقدیر ، فلو کان النجس هو الطرف لکان منکشفاً بهذا العلم وتنجّز التکلیف المتعلّق بـه بسببـه ، وبعد ذلک لا معنی لتأثیر العلم الإجمالی بنجاسـة الملاقی ـ بالفتح ـ أو الطرف ، إذ لا یعقل الانکشاف مرّتین وتنجّز التکلیف مرّة بعد اُخری ، کما لایخفی . فهذا العلم الإجمالی لا یکون واجداً لشرط التأثیر وهو التنجیز علی أیّ تقدیر ، فالشکّ فی نجاسـة الملاقی ـ بالفتح ـ شکّ بدوی کالملاقی فی الصورة السابقـة .
وممّا ذکرنا ظهر : أنّ الإشکال إنّما هو من ناحیـة الطرف لا الملاقی والملاقی ، لعدم إمکان انکشافـه مرّتین وتنجّز التکلیف بـه کذلک ، وحینئذٍ فلا وقـع لما أورده المحقّق النائینی علی هذا التفصیل من أنّـه لابدّ مـن
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 151
ملاحظـة حال المعلوم والمنکشف من حیث التقدّم والتأخّر بحسب الرتبـة ، وفـی الصورة الثانیـة یکون رتبـة العلم الإجمالی بنجاسـة الملاقی ـ بالفتح ـ أو الطرف متقدّمـة علی العلم الإجمالی بنجاسـة الملاقی ـ بالکسر ـ أو الطـرف وإن کان حدوثـه متأخّراً عن حدوثـه ، لأنّ التکلیف بالملاقی إنّما جاء من قبل التکلیف بالملاقی . وذلک ـ أی وجـه عدم الورود ـ ما عرفت من أنّ الإشکال إنّما هو من ناحیـة الطرف ، لا من ناحیـة تقدّم أحد العلمین علی الآخر حدوثاً حتّی یورد علیـه بما ذکر .
هذا مضافاً إلی أنّ هـذا الإیراد فاسد مـن أصلـه ، والمثال الـذی ذکـره لا یرتبط بالمقام أصلاً ، حیث قال : لو علم بوقوع قطرة من الدم فی أحد الإنائین ، ثمّ بعد ذلک علم بوقوع قطرة اُخری من الدم فی أحد هذین الإنائین أو فی الإناء الثالث ، ولکن ظرف وقوع القطرة المعلومـة ثانیاً أسبق من ظرف وقوع القطرة المعلومـة أوّلاً ، فلا ینبغی التأمّل فی أنّ العلم الإجمالی الثانی یوجب انحلال الأوّل لسبق معلومـه علیـه ، انتهی .
وجـه عدم الارتباط أنّ فی المثال بعد العلم الإجمالی بوقوع القطرة فی أحدهما أو فی الإناء الثالث یعلم أنّ العلم الإجمالی الحادث أوّلاً لم یکن واجداً لشرط التنجیز ، لأنّـه لم یکن متعلّقاً بالتکلیف ، لثبوتـه قبلـه المنکشف بالعلم الإجمالی الثانی .
وبـالجملـة : فالعلم الإجمالی الأوّل وإن کان حین حدوثـه متعلّقاً بالتکلیف ومؤثّراً فی تنجیزه بنظر العالم ، إلاّ أنّـه بعد استکشاف ثبوتـه قبلـه
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 152
بالعلم الثانی یعلم عدم تعلّقـه بالتکلیف وعدم کونـه مؤثّراً فی تنجیزه ، کمالا یخفی .
وهذا بخلاف المقام ، فإنّ العلمین حیث تعلّق أحدهما بوجوب الاجتناب عن الملاقی أو الطرف ، والآخر بوجوب الاجتناب عن الملاقی أو الطرف لا إشکال فی تأثیرهما فی تنجیز متعلّقهما من حیث هو . نعم قد عرفت الإشکال فی تأثیر العلم الثانی من ناحیـة الطرف لا المتلاقیـین ، فمن حیث التقدّم والتأخّر من جهـة الرتبـة لا إشکال فی تأثیرهما أصلاً ، کما لایخفی .
فانقدح بذلک وضوح الفرق بین المثال والمقام ، فإنّ هنا لا یکون شیء من العلمین فاقداً لشرط التأثیر فی التنجیز ، لأنّ کلاًّ منهما تعلّق بتکلیف فعلی ، والتقدّم والتأخّر من جهـة الرتبـة لا یمنع من ذلک ، وهناک لا یکون العلم الإجمالی الحادث أوّلاً متعلّقاً بتکلیف فعلی بحسب الواقع وإن کان کذلک بنظر العالم ما لم یحدث لـه العلم الإجمالی الثانی .
والسرّ فیما ذکرنا من عدم مدخلیّـة التقدّم والتأخّر بحسب الرتبـة أنّ المنجزیّـة من آثار العلم بوجوده الخارجی ، لأنّـه ما لم یوجد فی الخارج لا یؤثّر فی التنجیز کما هو واضح ، والتقدّم والتأخّر إنّما هو من أوصاف العلمین عند العقل ، ضرورة أنّ العلّـة والمعلول مقارنان بحسب الوجود الخارجی ، وتقدّمها علیـه وتأخّره عنها إنّما هو بحسب الرتبـة وفی نظر العقل ، ففی ظرف ثبوت وصف التقدّم والتأخّر لا یکون العلم بمنجّز ، وفی وعاء التنجیز لا معنی للتقدّم والتأخّر . والمفروض فی المقام فی الصورة الثانیـة حدوث العلم الإجمالی بنجاسـة الملاقی ـ بالکسر ـ أو الطرف قبل العلم بنجاسـة الملاقی ـ بالفتح ـ أو الطرف . فهو ـ أی الحادث ـ أوّلاً یؤثّـر فی التنجیز بمجرّد حدوثـه ، لأنّ التنجیز من آثـار
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 153
وجوده الخارجی کما عرفت . ومع التأثیر فی التنجیز لا مجال لتأثیر العلم الثانی بعد عدم کونـه واجداً لشرطـه ، لعدم إمکان التأثیر بالنسبـة إلی الطرف ، لأنّـه لو کان التکلیف متعلّقاً بـه لتنجّز بالعلم الأوّل ، ولا معنی للتنجّز مرّتین کما مرِّ.
وممّا ذکرنا یظهر الوجـه فی وجوب الاجتناب عن المتلاقیـین والطرف فی الصورة الثالثـة المفروضـة فی کلام المحقّق الخراسانی قدس سره لأنّـه علم إجمالاً بنجاستهما أو الطرف ، ولم یکن هذا العلم مسبوقاً بالعلم بنجاسـة الملاقی ـ بالفتح أو الطرف حتّی لا یجب الاجتناب عن الملاقی ، ولا بالعلم بنجاسـة الملاقی ـ بالکسر ـ أو الطرف حتّی لا یجب الاجتناب عن الملاقی ، بل حدث من حین حدوثـه هکذا ـ أی مردّداً بین المتلاقیـین والطرف ـ فیؤثّر فی التنجیز علی أیّ تقدیر ، فافهم واغتنم .
إزاحة شبهة
ربما یقال : بأنّـه ما المانع من أن یؤثّر العلمین بجامعهما فی تنجیز التکلیف بالنسبـة إلی الطرف ، ویستقلّ أحدهما بالتأثیر فی التنجیز بالنسبـة إلی الملاقی ـ بالفتح ـ والآخر بالنسبـة إلی الملاقی ـ بالکسر ـ وحینئذٍ فیجب الاجتناب عن الجمیع فی الصورتین الاُولیـین أیضاً ، فإنّ العلم الإجمالی الحادث أوّلاً وإن أثّر فی التنجیز بالنسبـة إلی الطرف ، إلاّ أنّ استقلالـه فی هذا التأثیر ما دام لم یحدث العلم الآخر ، فإذا حدث یؤثّران بجامعهما فی التنجّز بالنسبـة إلی الطرف ، کما هو الشأن فی أمثال ذلک .
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 154
فإنّ الماء الواقع فی محاذاة الشمس تکون العلّـة المؤثّرة فی الحرارة الحادثـة فیـه هی الشمس ، فإذا انضمّ إلیـه النار أیضاً تکون العلّـة حینئذٍ هو الجامع بین العلّتین ، لاستحالـة تأثیر علّتین مستقلّتین فی معلول واحد ، لأنّ الواحد لا یصدر إلاّ من الواحد ، فلا یعقل أن یکون شیء واحد معلولاً لعلّتین مع وصف التعدّد ، هذا .
ولکن لا یخفی أنّ استعمال هذه القاعدة ـ أی قاعدة الواحد لا یصدر إلاّ من الواحد ـ وکذا العکس فی مثل المقام ، استعمال للشیء فی غیر محلّـه ، وقد صدر ممّن لا یکون لـه کثیر اطّلاع من العلوم العقلیّـة والقواعد الحِکَمیـة ، فإنّ مورد هذه القاعدة کما قد حقّق فی محلّـه هو ما إذا کانت العلّـة التی هی المصدر علّـة إلهیّـة ، وکان هناک مصدر وصادر حقیقـة ، فلا تشمل القاعدة الفواعل الطبیعیـة التی لا تکون مصدراً حقیقـة ومؤثّراً واقعاً ، وقد وقع هذا الخلط والاشتباه فی کثیر من الموارد کما یظهر بالتـتبّع .
وحینئذٍ : فالعلم الإجمالی الحادث أوّلاً یؤثّر فی التنجیز مستقلاًّ ، وبعد حدوث الثانی لا مجال لـه للتأثیر فی ذلک ، لعدم معقولیّـة التنجّز مرّتین ، کما عرفت . هذا کلّـه فیما یقتضیـه حکم العقل .
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 155