الکلام فی الموافقة القطعیّة
فنقول : لابدّ أوّلاً من بیان أنّ العلم الإجمالی هل یکون علّـة تامّـة بالنسبـة إلی وجوب الموافقـة القطعیـة أم لا ، بل لا یکون فیـه إلاّ مجرّد الاقتضاء ، ثمّ علی فرض الاقتضاء لابدّ من ملاحظـة الأدلّـة العامّـة المرخّصـة وأنّـه هل یستفاد منها الترخیص بالنسبـة إلی بعض الأطراف أم لا ؟ وأمّا علی القول بالعلیّـة فلا مجال لهذا البحث ، لأنّـه لو فرض دلالتها علی الترخیص فیـه فلابدّ من رفع الید عنها ، للحکم العقلی القطعی بخلافها .
إذا ظهر لک ذلک نقول : قد عرفت أنّ العلم الإجمالی قد یکون متعلّقـه هو التکلیف الفعلی الواقعی الذی لا یرضی المولی بمخالفتـه أصلاً ، وقد یکون هو التکلیف الثابت بإطلاق الدلیل أو عمومـه أو بقیام أمارة معتبرة وحجّـة شرعیّـة . ففی الأوّل لا مجال للترخیص ولو کان بالنسبـة إلی بعض الأطراف من غیر فرق بین الشبهـة المحصورة وغیرها . وفی الثانی لا محذور فی الترخیص أصلاً ولو بالنسبـة إلی جمیع الأطراف ولا تلزم مناقضتـه أصلاً .
أمّا علی تقدیر عدم مصادفـة الأمارة وعدم کون الإطلاق أو العموم مراداً
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 99
جدّاً فواضح ، وأمّا علی تقدیر المطابقـة وتعلّق الإرادة الجدّیـة بالإطلاق أو العموم فلا بأس أیضاً ؛ لأنّ مرجع الترخیص إلی رفع الید عن الحکم الواقعی لمصلحـة أهمّ من مصلحـة درک الواقع ، کما أنّـه لابدّ من الالتزام بذلک فی الترخیص فی مطلق الشبهات البدویّـة مع ثبوت الحکم الواقعی فی بعض مواردها . هذا بحسب نظر العقل .
وأمّا العقلاء الذین هم المرجع والمتّبع فی فهم الکلمات الصادرة عن الشارع فقد عرفت أنّ الترخیص فی جمیع الأطراف عندهم یکون ترخیصاً فی المعصیـة وإذناً فیها ، وهو مع قبحـه غیر معقول ، فلذا لا یعتمدون علی ما ظاهره الترخیص فی الجمیع ویرفعون الید عنـه . وأمّا الترخیص فی البعض فالظاهر أنّـه لا بأس بـه عندهم ولا یعدّونـه ترخیصاً فی المعصیـة وإذناً فی ارتکاب الخمر فیما إذا تردّد بین المایعین ، ولا یکون عندهم المنافاة بین تحریم الخمر مطلقاً والترخیص فی محتمل الخمریّـة ؛ لاختلاف متعلّق الحکمین ؛ لأنّ أحدهما الخمر والآخر مشتبـه الخمریّـة .
وحینئذٍ : فلا یکون عندهم مانع من شمول أدلّـة الحلّ وأصالـة البراءة والاستصحاب وغیرهما لبعض الأطراف لو قیل بعدم خروج أطراف العلم الإجمالی عن مورد أدلّتها ؛ نظراً إلی أنّ موضوعها صورة الشکّ وعدم العلم ، وهو یغایر صورة العلم وتردّد المعلوم بین هذا وذاک .
وبالجملـة : فرق بین ما إذا لـم یعلم بالخمریّـة واحتمل عـدمها ، وبین مـا إذا علم بها وتـردّد موصوفها بین شیئین ، فالصورة الاُولی یکون مـورداً لتلک الأدلّـة قطعاً ، وأمّا الصورة الثانیـة فلا تکون عند العرف من موارد الشکّ وعـدم العلم حتّی تشملها تلک الأدلّـة وإن کانت منها بنظر العقل ، لأنّ کلّ واحد من
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 100
المایعین مشکوک الخمریّـة حقیقـة ، کما هو واضح .
وحینئذٍ فلو قلنا بخروج العلم الإجمالی عن مورد تلک الأدلّـة لم یبق مجال للبحث فی دلالتها علی الترخیص بالنسبـة إلی بعض الأطراف ، وأمّا لو قلنا بعدم خروجـه ، کما هو الظاهر فیقع الکلام فی دلالتها علی ذلک وعدمها .
فنقول : قد عرفت أنّ ما یمکن الاستدلال بـه للترخیص هی خصوص صحیحـة عبداللّٰه بن سنان المتقدّمـة ، وأمّا غیرها من الروایات فلا یجوز الاعتماد علیها بعد وجود الخلل فی متنها أو فی سندها ، وأمّا صحیحـة عبداللّٰه بن سنان فهی صحیحـة من حیث السند ، تامّـة من حیث الدلالـة ، وقد عرفت أنّها تشمل صورة العلم الإجمالی قطعاً ، وأنّ شمولها مبنی علی أن یکون المراد من الشیء المأخوذ فیها هو مجموع الشیئین اللذین أحدهما حلال والآخر حرام ، فهی تدلّ علی حلّیـة ذلک الشیء ؛ أی المجموع . وحیث إنّـه غیر قابل للأخذ بمضمونـه ، لدلالتـه علی الإذن فی المعصیـة بحسب متفاهم العرف والعقلاء فلابدّ من رفع الید عنـه ، ولیس هنا شیء آخر یدلّ علی حلّیـة بعض الأطراف .
نعم لو کان الدلیل دالاًّ علی حلّیـة کلّ مشتبـه لکان للبحث فی دلالتـه علی الترخیص فی بعض الأطراف مجال ، ولکنّـه لم یدلّ دلیل معتبر علی ذلک عدا روایـة مسعدة بن صدقـة المتقدّمـة التی عرفت عدم جواز الاعتماد علیها ، لاغتشاشها وعدم تطابق القاعدة مع الأمثلـة المذکورة فیها .
ثمّ إنّـه لو فرض دلالـة الدلیل علی حلّیـة کلّ مشتبـه لکان الظاهر منها هو
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 101
حلّیـة کلّ مشتبـه معیّن ، ولا یمکن الأخذ بـه فی المقام ، لأنّ إجراء هذه القاعدة فی المجموع مستلزم للإذن فی المعصیـة ، وفی البعض المعیّن ترجیح من غیر مرجّح ، وفی البعض الغیر المعیّن موجب للخروج عن الدلیل الدالّ علی اعتبارها ، لأنّـه لم یدلّ إلاّ علی حلّیـة کلّ مشتبـه معیّن . وإن شئت قلت : إنّ البعض الغیر المعیّن لا یکون من أفراد العامّ أصلاً ، والدلیل یتضمّن حلّیـة جمیع أفراد العامِّ.
ویمکن الذبّ عنـه بوجوه :
منها : أن یقال : إنّ الدلیل اللفظی وإن لم یدلّ علی الترخیص فی البعض الغیر المعیّن ، إلاّ أنّـه یمکن استکشاف هذا الترخیص من الدلیل اللفظی بضمیمـة حکم العقل ، لأنّ القضیـة المشتملـة علی حکم متعلّق بعنوان علی سبیل الإطلاق أو العموم یفهم منها أمران :
أحدهما : ثبوت ذلک الحکم لتمام أفراد عنوان الموضوع .
ثانیهما : وجود الملاک فی کلّ فرد منها ، ثمّ إن ثبت قید یرجع إلی مادّة القضیـة فمقتضاه التضیـیق فی ناحیـة الحکم والملاک معاً ، فإذا ورد أکـرم العلماء ، ثمّ ورد قولـه : لا تکرم الفسّاق من العلماء ، یفهم من ذلک التقیـید والتخصیص اختصاص الحکم والملاک بما عدا مورد المخصّص ، وإن ثبت قید یرجع إلی الإطلاق الهیئـة دون المادّة فلابدّ من رفع الید عن إطلاق الطلب دون المادّة .
کما إذا ورد خطاب دالّ علی وجوب إنقاذ الغریق ، ثمّ وجد الغریقان ، فإنّ ذلک الخطاب وإن کان غیر شامل لهما بحکم العقل ؛ لقبح التکلیف بما لا یطاق ، إلاّ أنّـه یحکم بإطلاق المادّة بوجود ملاک الوجوب فی کلیهما ، ولهذا یستکشف العقل وجوباً تخیـیریّاً مع عدم وجود الأهمّ فی البین .
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 102
وفی المقام نقول : إنّ الأدلّـة المرخّصـة وإن اختصّ حکمها بغیر صورة العلم الإجمالی بحکم العقل الحاکم بقبح الإذن فی المعصیـة ، إلاّ أنّ وجود ملاک الإباحـة فی کلّ مشتبـه یستکشف من إطلاق المادّة ، وبعد تعذّر الجری علی طبق الملاک فی کلّ من الأطراف یستکشف أنّ البعض علی سبیل التخیـیر مرخّص فیـه حیث لا ترجیح للبعض المعیّن ، انتهی .
ویرد علیـه ما أورد علیـه المحقّق المعاصر فی کتاب الدرر من أنّ حکم العقل بذلک إنّما یکون فیما یقطع بأنّ الجری علی طبق أحد الاقتضائین لا مانع منـه ، کما فی مثال الغریقین ، وأمّا فیما نحن فیـه فکما أنّ الشکّ یقتضی الترخیص کذلک العلم الإجمالی یوجب مراعاة الواقع ویقتضی الاحتیاط ، ولعلّ اقتضاء العلم یکون أقوی فی نظر الشارع ، فلا یقطع العقل بالترخیص ، کما هو واضح .
ومنها : ما أورده علی نفسـه المحقّق النائینی بعد الحکم بسقوط الاُصول بالنسبـة إلی جمیع الأطراف بقولـه : « إن قلت » وملخّصـه : أنّ نسبـة الاُصول إلی کلّ واحد من الأطراف وإن کانت علی حدّ سواء إلاّ أنّ ذلک لا یقتضی سقوطها جمیعاً ، بل غایـة ما یقتضیـه هو التخیـیر فی إجراء أحد الأصلین المتعارضین ، لأنّـه بناءً علی شمول أدلّـة الاُصول لأطراف العلم الإجمالی یکون حال الاُصول العملیـة حال الأمارات علی القول بالسببیّـة ، والتخیـیر فی باب الأمارات المتعارضـة إنّما هو کالتخیـیر فی باب المتزاحمین .
وحینئذٍ : لابدّ إمّا من تقیـید إطلاق الأمر بالعمل بمؤدّی کلّ من الأمارتین
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 103
بحال عدم العمل بالاُخری إن لم یکن أحد المؤدّیـین أهمِّ، وإمّا من سقوط الأمرین واستکشاف العقل حکماً تخیـیریّاً لأجل وجود الملاک التامّ فی متعلّق کلّ من الأمارتین علی المسلکین فی باب التزاحم ، والظاهر هو المسلک الأوّل ، لأنّ منشأ التزاحم إنّما هو عدم القدرة علی الجمع بینهما ، والمقتضی لإیجاب الجمع إنّما هو إطلاق کلّ من الخطابین ، فلابدّ من رفع الید عنـه ، لأنّـه الذی أوجب التزاحم ، والضرورات تـتقدّر بقدرها .
ونقول فی المقام : إنّ حجّیـة کلّ أصل عملی إنّما تکون مطلقـة بالنسبـة إلی ما عداه من سائر الاُصول ، لإطلاق دلیل اعتباره ، وهذا الإطلاق محفوظ فی الشبهات البدویّـة والمقرونـة بالعلم الإجمالی إذا لم یلزم من جریان الاُصول فی الأطراف مخالفـة عملیـة .
وأمّا إذا لزم فلا یمکن بقاء إطلاق الحجّیـة لکلّ من الاُصول الجاریـة فی جمیع الأطراف ، لأنّ بقاء الإطلاق یقتضی صحّـة جریانها فی جمیع الأطراف والمفروض أنّـه یستلزم المخالفـة العملیّـة فلابدّ من رفع الید عن إطلاق الحجّیـة ، ولا یلزم أن تسقط الحجّیـة ، ونتیجـة التقیـید هو التخیـیر فی إجراء أحد الأصلین لا سقوطهما رأساً کما لایخفی .
أقول : قد عرفت أنّ ما یمکن الاستدلال بـه للترخیص فی الشبهات المقرونـة بالعلم الإجمالی هی صحیحـة عبداللّٰه بن سنان المتقدّمـة الدالّـة علی أنّ « کلّ شیء فیـه حلال وحرام فهو لک حلال أبداً حتّی تعرف الحرام منـه
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 104
بعینـه » وعرفت أنّ التمسّک بها للمقام مبنی علی أن یکون المراد من الشیء هو المجموع من الحلال والحرام والمختلط منهما ، إذ لیس کلّ واحد من الأطراف فیـه الحلال والحرام ، بل ما فیـه الحلال والحرام هو مجموع المشتبهین أو المشتبهات والمختلط منهما أو منها ، فأصالـة الحلّیـة الجاریـة بمقتضی هذه الصحیحـة إنّما تجری فی مجموع الأطراف ، لا فی کلّ واحد منها ، لعدم کون کلّ واحد منها مصداقاً ومورداً لها ، کما لایخفی .
وحینئذٍ فلا دلیل علی جریانها فی کلّ واحد من الأطراف حتّی یقیّد إطلاق حجّیتها بما إذا لم تجر فی الطرف الآخر ، لاستلزام بقاء الإطلاق المحذور المتقدّم .
وإن شئت قلت : إنّ المحذور ـ وهو لزوم المخالفـة العملیـة ـ إنّما یلزم من جریانها مطلقاً ، سواء کان إطلاقها بالنسبـة إلی الأفراد الاُخر التی هی عبارة عن الشبهات الاُخر المقرونـة بالعلم الإجمالی محفوظاً أم غیر محفوظ ، ضرورة أنّ جریانها ولو فی شبهـة واحدة مقرونـة بالعلم الإجمالی یوجب المخالفـة العملیـة والإذن فی المعصیـة ، کما هو واضح .
وبالجملـة : موارد جریان أصل الحلّیـة هو کلّ مشتبـه بالشبهـة المقرونـة بالعلم الإجمالی ، أی المختلط من الحلال والحرام ، ولابدّ من أن یلاحظ الإطلاق بالنسبـة إلیـه ، وقـد عرفت أنّ تقیـید الإطـلاق أیضاً لایوجب رفـع المحذور ، کما لا یخفی ، هذا .
وأمّا أدلّـة الاستصحاب فهی وإن کانت مقتضاها جریانـه فی کلّ واحد من الأطراف ، لوجود الیقین السابق والشکّ اللاحق فیـه ، إلاّ أنّ ذلک مبنی علی أن یکون المراد من الیقین المأخوذ فی أدلّتـه وکذا الشکّ هو الیقین والشکّ
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 105
الوجدانیـین ، مع أنّا سنمنع ذلک فی بحث الاستصحاب ونقول : إنّ ظاهرها هو کون المراد بالیقین هی الحجّـة المعتبرة ، وبالشکّ هو عدم الحجّـة ، ومن الواضح وجود الحجّـة فی أطراف العلم الإجمالی ، فلا یکون من نقض الحجّـة بغیرها ، کما لایخفی .
ثمّ إنّـه أجاب المحقّق النائینی عن هذا الوجـه الذی أورده علی نفسـه بکلام طویل ، وملخّصـه : أنّ الموارد التی یحکم فیها بالتخیـیر مع عدم قیام دلیل علیـه بالخصوص لا تخلو عن أحد أمرین :
أحدهما : اقتضاء الکاشف والدلیل الدالّ علی الحکم التخیـیر فی العمل .
وثانیهما : اقتضاء المنکشف والمدلول ذلک وإن کان الدلیل یقتضی التعیـینیّـة .
فمن الأوّل : ما إذا ورد عامّ کقولـه : « أکرم العلماء » ، وعلم بخروج زید وعمرو؟ عن العامِّ، ولکن شکّ فی أنّ خروجهما هل هو علی نحو الإطلاق ، أو أنّ خروج کلّ منهما مشروط بحال عدم إکرام الآخر .
وبعبارة اُخری : دار الأمر بین أن یکون التخصیص أفرادیّاً وأحوالیّاً معاً أو أحوالیّاً فقط ، والوظیفـة فی هذا الفرض هو التخیـیر فی إکرام أحدهما ، لأنّ مرجع الشکّ إلی الشکّ فی مقدار الخارج عن عموم وجوب إکرام العلماء ، ولابدّ من الاقتصار علی المتیقّن خروجـه وهو التخصیص الأحوالی فقط ، فلا محیص عن القول بالتخیـیر ، إلاّ أنّ منشأه هو اجتماع دلیل العامّ وإجمال دلیل الخاصّ بضمیمـة وجوب الاقتصار علی القدر المتیقّن ، ولیس التخیـیر فیـه لأجل اقتضاء المجعول لـه ، بل المجعول فی کلّ من العامّ والخاصّ هو الحکم التعیـینی ، فالتخیـیر إنّما نشأ من ناحیـة الدلیل .
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 106
ومن الثانی : المتزاحمان فی مقام الامتثال ؛ فإنّ التخیـیر فیهما إنّما هو لأجل أنّ المجعول فی باب التکالیف معنی یقتضی التخیـیر فی امتثال أحد المتزاحمین ، لأنّـه یعتبر عقلاً فیها القدرة علی الامتثال ، وحیث لا تکون القدرة محفوظـة فی کلیهما فالعقل یستقلّ بالتخیـیر ، والفرق بین التخیـیر فی هذا القسم والتخیـیر فی القسم الأوّل أنّ التخیـیر هناک ظاهری وهنا واقعی .
إذا عرفت ذلک نقول : إنّ القول بالتخیـیر فی باب الاُصول لا شاهد علیـه لا من ناحیـة الدلیل والکاشف ، ولا من ناحیـة المدلول والمنکشف .
أمّا انتفاء الأوّل : فواضح ، فإنّ دلیل اعتبار کلّ أصل من الاُصول العملیّـه إنّما یقتضی جریانـه عیناً ، سواء عارضـه أصل آخر أو لم یعارضـه .
وأمّا انتفاء الثانی : فلأنّ المجعول فـی باب الاُصول العملیـة لیس إلاّ الحکم بتطبیق العمل علی مؤدّی الأصل بما أنّـه الواقـع أولا بما أنّـه کـذلک علی اختلاف الاُصول ، ولکنّ الحکم بذلک لیس علی إطلاقـه ، بل مع انحفاظ رتبـة الحکم الظاهری باجتماع القیود الثلاثـة ، وهی الجهل بالواقع ، وإمکان الحکم علی المـؤدّی بما أنّـه الواقـع ، وعـدم لـزوم المخالفـة العملیـة ، وحیث إنّـه یلزم من جریان الاُصول فی أطراف العلم الإجمالی مخالفـة عملیّـة فلا یمکن جعلها جمعاً ، وکون المجعول أحدها تخیـیراً وإن کان بمکان من الإمکـان ، إلاّ أنّـه لا دلیل علیـه لا من ناحیـة أدلّـة الاُصول ولا من ناحیـة المجعول فیها ، انتهی .
وفی هذا الکلام وجوه من النظر :
منها : أنّ ما ذکره ـ من أنّ التخیـیر فی القسم الأوّل إنّما هو من ناحیـة
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 107
الدلیل والکاشف لا المجعول والمنکشف ، لأنّ المجعول فی کلّ من العامّ والخاصّ هو الحکم التعیـینی ـ محلّ نظر ، بل منع . ضرورة أنّـه لو کان الحکم المجعول فی الخاصّ حکماً تعیـینیّاً وعلم ذلک لم یکن مجال للتخیـیر ، لأنّـه مساوق للعلم بکون التخصیص أفرادیّاً وأحوالیّاً معاً ، لوضوح أنّـه لو کان التخصیص أحوالیّاً فقط وکان خروج کلّ من الفردین مشروطاً بدخول الآخر یکون الحکم المجعول حکماً تخیـیریّاً .
وبالجملـة : فالذی أوجب الحکم بالتخیـیر هو تردّد المجعول فی الخاصّ بین کونـه تعیـینیّاً أو تخیـیریّاً بضمیمـة وجوب الاقتصار فی التخصیص علی القـدر المتیقّن ، فالتخیـیر إنّما هـو مقتضی تـردّد المجعول بضمیمـة مـا ذکـر ، کمالا یخفی ، ولا یکون ناشئاً من الدلیل .
ومنها : أنّ ما ذکره من أنّ التخیـیر فی القسم الثانی إنّما هو من ناحیـة المدلول والمنکشف ، محلّ منع ، بل التخیـیر فیـه إنّما هو کالتخیـیر فی القسم الأوّل ؛ لأنّ التخیـیر فیـه إنّما یکون منشؤه إطلاق مثل قولـه : « انقذ کلّ غریق » بضمیمـة التخصیص بالنسبـة إلی صورة العجز عن الإنقاذ بالإضافـة إلی الغریقین ، مع لزوم الاقتصار فی مقام التخصیص علی القدر المتیقّن ، وهو خروج الأحوالی فقط الذی مرجعـه إلی رفع الید عن الإطلاق ، لا الأفرادی والأحوالی معاً الذی مرجعـه إلی رفع الید عن العموم .
وبالجملـة : فلا فرق بین القسمین إلاّ فی أنّ الحاکم بالتخصیص فی القسم الأوّل هو الدلیل اللفظی ، وفی القسم الثانی هو الدلیل العقلی ، وهو لا یوجب الفرق بین التخیـیرین من حیث المقتضی ، کما لایخفی .
ومنها : أنّـه لو سلّم جمیع ما ذکر فنمنع ما ذکره من عدم کون التخیـیر فی
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 108
باب الاُصول العملیـة من ناحیـة الدلیل والکاشف ، لأنّ لنا أن نقول بکون التخیـیر فیها من جهـة الدلیل والکاشف ، لأنّ أدلّـة أصالـة الحلّ تشمل بعمومها لأطراف العلم الإجمالی أیضاً .
غایـة الأمر : أنّها خصّصت بالنسبـة إلیها قطعاً ، ولکن أمر المخصّص دائر بین أن یکون مقتضاه خروج الأطراف مطلقاً حتّی یلزم الخروج الأفرادی والأحوالی معاً ، وبین أن یکون مقتضیاً لخروج کلّ واحد منها مشروطاً بدخول الآخر ، فهذا الإجمال بضمیمـة لزوم الاقتصار علی القدر المتیقّن فی مقام التخصیص أوجب التخیـیر ، کما هو واضح .
ومنها : وهو العمدة ، أنّ ما ذکره من عدم کون التخیـیر فی باب الاُصول من مقتضیات المجعول والمنکشف ممنوع جدّاً ، ضرورة أنّ المقام إنّما هو من قبیل المتزاحمین ، کما أنّ فیهما یکون الملاک فی کلّ فرد موجوداً ، فکذلک الملاک لجریان أصل الإباحـة فی کلّ من الأطراف موجود قطعاً ، وکما أنّ المانع العقلی هناک بضمیمـة اقتضاء کلّ من المتزاحمین صرف القدرة إلی نفسـه یوجب الحکم بالتخیـیر إمّا لتقیـید الإطلاق ، وإمّا لسقوط الخطابین واستکشاف العقل حکماً تخیـیریّاً ، کذلک المانع العقلی هنا وهو لزوم المخالفـة القطعیـة بضمیمـة اقتضاء کلّ من الأصلین لإثبات حکم متعلّقـه یوجب التخیـیر قطعاً .
فالعمدة فی الجـواب ما ذکرنا مـن أنّـه لیس هنا مـا یدلّ علی جـریان أصل الحلّیـة فی کلّ واحد من الأطراف ، بل مجراه هو مجموعها الذی هو المختلـط مـن الحـلال والحـرام ، وجریانـه فیـه مستلزم للمخالفـة القطعیـة کما مـرِّ، فتأمّل فـی المقام فإنّـه مـن مـزالّ الأقـدام کما یظهر بمراجعـة کلمات الأعلام .
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 109
تبصرة
وهی أنّ المحقّق النائینی قدس سره بعد الحکم بعدم جواز الإذن فی جمیع الأطراف ؛ لأنّـه إذن فی المعصیـة والعقل یستقلّ بقبحها ، قال علی ما فی التقریرات : وأمّا الإذن فی البعض فهو ممّا لا مانع عنـه ، فإنّ ذلک یرجع فی الحقیقـة إلی جعل الشارع الطرف الغیر المأذون فیـه بدلاً عن الواقع والاکتفاء بترکـه عنـه لو فرض أنّـه صادف المأذون فیـه للواقع ، وکان هو الحرام المعلوم فی البین ، ودعوی أنّـه لیس للشارع الاکتفاء عن الواقع ببدلـه ممّا لا شاهد علیـه ، وإلی ذلک یرجع ما تکرّر فی کلمات الشیخ قدس سره من إمکان جعل بعض الأطراف بدلاً عن الواقع ، فإنّـه لیس المراد تنصیص الشارع بالبدلیّـة ، بل نفس الإذن فی البعض یستلزم بدلیّـة الآخر قهراً ، انتهی .
وأنت خبیر بأنّ جعل البدلیّـة یتوقّف علی کون المجعول بدلاً ممّا یصلح لأن یکون بدلاً ، بأن یکون واجداً لملاک البدلیّـة وصالحاً لأن یقوم مقام المبدل ، وفی المقام لا یکون کذلک ؛ لأنّ المفروض هنا هو دوران الأمر بین الحرمـة وغیر الوجوب من الأحکام الثلاثـة الاُخر .
ومن المعلوم أنّ المستحبّ ـ مثلاً ـ الذی تکون فیـه مصلحـة راجحـة کیف یعقل أن یکون بدلاً عن المحرّم الذی لا یکون فیـه إلاّ مفسدة تامّـة ، فالإذن فی ارتکاب المحرّم وجعل المستحبّ ـ مثلاً ـ بدلاً عنـه والاکتفاء بترکـه عن ترک المحرّم ممّا لا نتصوّره أصلاً بعد کون المستحبّ ذا مصلحـة راجحـة والمحرّم ذا
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 110
مفسدة ملزمـة . وکذا الحکم فی المکروه والمباح ، فإنّـه لا یعقل جعل شیء منهما بدلاً عن الحرام بعد خلوّ المباح عن المفسدة وعدم بلوغ مفسدة المکروه إلی حدّ التمام الموجب للإلزام . فإذن ینقدح بطلان ما ذکره من أنّ « دعوی أنّـه لیس للشارع . . . » إلی آخره ؛ لما عرفت من عدم معقولیّـة البدلیّـة المقتضیـة لکون البدل واجداً لملاکها ، کما لایخفی .
فلو ثبت الإذن فی بعض الأطراف فاللازم أن یقال بأنّ فی صورة مصادفـة المأذون فیـه للمحرّم الواقعی أنّ الشارع قد رفع الید عن حکمـه الموجود فی البین لمصلحـة أهمّ من مصلحـة الواقع ، وهی مصلحـة التسهیل ومفسدة التضیـیق الموجبـة لأن تکون الشریعـة سمحـة سهلـة حتّی یرغب الناس فیها ، کما هو الشأن فی الترخیص فی مطلق الشبهات البدویّـة مع ثبوت الحکم الواقعی فی بعض مواردها کما مرّ مراراً فتدبّر .
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 111