الکلام فی الموافقة القطعیّة

الکلام فی الموافقة القطعیّة

‏ ‏

‏فنقول : لابدّ أوّلاً من بیان أنّ العلم الإجمالی هل یکون علّـة تامّـة بالنسبـة‏‎ ‎‏إلی وجوب الموافقـة القطعیـة أم لا ، بل لا یکون فیـه إلاّ مجرّد الاقتضاء ، ثمّ علی‏‎ ‎‏فرض الاقتضاء لابدّ من ملاحظـة الأدلّـة العامّـة المرخّصـة وأنّـه هل یستفاد‏‎ ‎‏منها الترخیص بالنسبـة إلی بعض الأطراف أم لا ؟ وأمّا علی القول بالعلیّـة‏‎ ‎‏فلا مجال لهذا البحث ، لأنّـه لو فرض دلالتها علی الترخیص فیـه فلابدّ من رفع‏‎ ‎‏الید عنها ، للحکم العقلی القطعی بخلافها .‏

‏إذا ظهر لک ذلک نقول : قد عرفت أنّ العلم الإجمالی قد یکون متعلّقـه هو‏‎ ‎‏التکلیف الفعلی الواقعی الذی لا یرضی المولی بمخالفتـه أصلاً ، وقد یکون هو‏‎ ‎‏التکلیف الثابت بإطلاق الدلیل أو عمومـه أو بقیام أمارة معتبرة وحجّـة شرعیّـة .‏‎ ‎‏ففی الأوّل لا مجال للترخیص ولو کان بالنسبـة إلی بعض الأطراف من غیر فرق‏‎ ‎‏بین الشبهـة المحصورة وغیرها . وفی الثانی لا محذور فی الترخیص أصلاً ولو‏‎ ‎‏بالنسبـة إلی جمیع الأطراف ولا تلزم مناقضتـه أصلاً .‏

‏أمّا علی تقدیر عدم مصادفـة الأمارة وعدم کون الإطلاق أو العموم مراداً‏‎ ‎


کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 99
‏جدّاً فواضح ، وأمّا علی تقدیر المطابقـة وتعلّق الإرادة الجدّیـة بالإطلاق أو‏‎ ‎‏العموم فلا بأس أیضاً ؛ لأنّ مرجع الترخیص إلی رفع الید عن الحکم الواقعی‏‎ ‎‏لمصلحـة أهمّ من مصلحـة درک الواقع ، کما أنّـه لابدّ من الالتزام بذلک فی الترخیص فی‏‎ ‎‏مطلق الشبهات البدویّـة مع ثبوت الحکم الواقعی فی بعض‏‎ ‎‏مواردها . ‏هذا بحسب نظر العقل‏ .‏

وأمّا العقلاء‏ الذین هم المرجع والمتّبع فی فهم الکلمات الصادرة عن‏‎ ‎‏الشارع فقد عرفت أنّ الترخیص فی جمیع الأطراف عندهم یکون ترخیصاً فی‏‎ ‎‏المعصیـة وإذناً فیها ، وهو مع قبحـه غیر معقول ، فلذا لا یعتمدون علی ما ظاهره‏‎ ‎‏الترخیص فی الجمیع ویرفعون الید عنـه . وأمّا الترخیص فی البعض فالظاهر أنّـه‏‎ ‎‏لا بأس بـه عندهم ولا یعدّونـه ترخیصاً فی المعصیـة وإذناً فی ارتکاب الخمر فیما‏‎ ‎‏إذا تردّد بین المایعین ، ولا یکون عندهم المنافاة بین تحریم الخمر مطلقاً‏‎ ‎‏والترخیص فی محتمل الخمریّـة ؛ لاختلاف متعلّق الحکمین ؛ لأنّ أحدهما الخمر‏‎ ‎‏والآخر مشتبـه الخمریّـة .‏

‏وحینئذٍ : فلا یکون عندهم مانع من شمول أدلّـة الحلّ وأصالـة البراءة‏‎ ‎‏والاستصحاب وغیرهما لبعض الأطراف لو قیل بعدم خروج أطراف العلم‏‎ ‎‏الإجمالی عن مورد أدلّتها ؛ نظراً إلی أنّ موضوعها صورة الشکّ وعدم العلم ، وهو‏‎ ‎‏یغایر صورة العلم وتردّد المعلوم بین هذا وذاک .‏

‏وبالجملـة : فرق بین ما إذا لـم یعلم بالخمریّـة واحتمل عـدمها ، وبین مـا‏‎ ‎‏إذا علم بها وتـردّد موصوفها بین شیئین ، فالصورة الاُولی یکون مـورداً لتلک‏‎ ‎‏الأدلّـة قطعاً ، وأمّا الصورة الثانیـة فلا تکون عند العرف من موارد الشکّ وعـدم‏‎ ‎‏العلم حتّی تشملها تلک الأدلّـة وإن کانت منها بنظر العقل ، لأنّ کلّ واحد من‏‎ ‎


کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 100
‏المایعین مشکوک الخمریّـة حقیقـة ، کما هو واضح .‏

‏وحینئذٍ فلو قلنا بخروج العلم الإجمالی عن مورد تلک الأدلّـة لم یبق‏‎ ‎‏مجال للبحث فی دلالتها علی الترخیص بالنسبـة إلی بعض الأطراف ، وأمّا لو قلنا‏‎ ‎‏بعدم خروجـه ، کما هو الظاهر فیقع الکلام فی دلالتها علی ذلک وعدمها .‏

فنقول‏ : قد عرفت أنّ ما یمکن الاستدلال بـه للترخیص هی خصوص‏‎ ‎‏صحیحـة عبداللّٰه بن سنان المتقدّمـة‏‎[1]‎‏ ، وأمّا غیرها من الروایات فلا یجوز‏‎ ‎‏الاعتماد علیها بعد وجود الخلل فی متنها أو فی سندها ، وأمّا صحیحـة عبداللّٰه بن‏‎ ‎‏سنان فهی صحیحـة من حیث السند ، تامّـة من حیث الدلالـة ، وقد عرفت أنّها‏‎ ‎‏تشمل صورة العلم الإجمالی قطعاً ، وأنّ شمولها مبنی علی أن یکون المراد من‏‎ ‎‏الشیء المأخوذ فیها هو مجموع الشیئین اللذین أحدهما حلال والآخر حرام ، فهی‏‎ ‎‏تدلّ علی حلّیـة ذلک الشیء ؛ أی المجموع . وحیث إنّـه غیر قابل للأخذ‏‎ ‎‏بمضمونـه ، لدلالتـه علی الإذن فی المعصیـة بحسب متفاهم العرف والعقلاء فلابدّ‏‎ ‎‏من رفع الید عنـه ، ولیس هنا شیء آخر یدلّ علی حلّیـة بعض الأطراف .‏

‏نعم لو کان الدلیل دالاًّ علی حلّیـة کلّ مشتبـه لکان للبحث فی دلالتـه علی‏‎ ‎‏الترخیص فی بعض الأطراف مجال ، ولکنّـه لم یدلّ دلیل معتبر علی ذلک عدا‏‎ ‎‏روایـة مسعدة بن صدقـة المتقدّمـة‏‎[2]‎‏ التی عرفت عدم جواز الاعتماد علیها ،‏‎ ‎‏لاغتشاشها وعدم تطابق القاعدة مع الأمثلـة المذکورة فیها .‏

‏ثمّ إنّـه لو فرض دلالـة الدلیل علی حلّیـة کلّ مشتبـه لکان الظاهر منها هو‏‎ ‎


کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 101
‏حلّیـة کلّ مشتبـه معیّن ، ولا یمکن الأخذ بـه فی المقام ، لأنّ إجراء هذه القاعدة‏‎ ‎‏فی المجموع مستلزم للإذن فی المعصیـة ، وفی البعض المعیّن ترجیح من غیر‏‎ ‎‏مرجّح ، وفی البعض الغیر المعیّن موجب للخروج عن الدلیل الدالّ علی اعتبارها ،‏‎ ‎‏لأنّـه لم یدلّ إلاّ علی حلّیـة کلّ مشتبـه معیّن . وإن شئت قلت : إنّ البعض الغیر‏‎ ‎‏المعیّن لا یکون من أفراد العامّ أصلاً ، والدلیل یتضمّن حلّیـة جمیع أفراد العامِّ.‏

‏ویمکن الذبّ عنـه بوجوه :‏

منها‏ : أن یقال : إنّ الدلیل اللفظی وإن لم یدلّ علی الترخیص فی البعض‏‎ ‎‏الغیر المعیّن ، إلاّ أنّـه یمکن استکشاف هذا الترخیص من الدلیل اللفظی بضمیمـة‏‎ ‎‏حکم العقل ، لأنّ القضیـة المشتملـة علی حکم متعلّق بعنوان علی سبیل الإطلاق‏‎ ‎‏أو العموم یفهم منها أمران :‏

‏أحدهما : ثبوت ذلک الحکم لتمام أفراد عنوان الموضوع .‏

‏ثانیهما : وجود الملاک فی کلّ فرد منها ، ثمّ إن ثبت قید یرجع إلی مادّة‏‎ ‎‏القضیـة فمقتضاه التضیـیق فی ناحیـة الحکم والملاک معاً ، فإذا ورد أکـرم‏‎ ‎‏العلماء ، ثمّ ورد قولـه : لا تکرم الفسّاق من العلماء ، یفهم من ذلک التقیـید‏‎ ‎‏والتخصیص اختصاص الحکم والملاک بما عدا مورد المخصّص ، وإن ثبت قید‏‎ ‎‏یرجع إلی الإطلاق الهیئـة دون المادّة فلابدّ من رفع الید عن إطلاق الطلب‏‎ ‎‏دون المادّة .‏

‏کما إذا ورد خطاب دالّ علی وجوب إنقاذ الغریق ، ثمّ وجد الغریقان ، فإنّ‏‎ ‎‏ذلک الخطاب وإن کان غیر شامل لهما بحکم العقل ؛ لقبح التکلیف بما لا یطاق ، إلاّ‏‎ ‎‏أنّـه یحکم بإطلاق المادّة بوجود ملاک الوجوب فی کلیهما ، ولهذا یستکشف العقل‏‎ ‎‏وجوباً تخیـیریّاً مع عدم وجود الأهمّ فی البین .‏


کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 102
‏وفی المقام نقول : إنّ الأدلّـة المرخّصـة وإن اختصّ حکمها بغیر صورة‏‎ ‎‏العلم الإجمالی بحکم العقل الحاکم بقبح الإذن فی المعصیـة ، إلاّ أنّ وجود ملاک‏‎ ‎‏الإباحـة فی کلّ مشتبـه یستکشف من إطلاق المادّة ، وبعد تعذّر الجری علی طبق‏‎ ‎‏الملاک فی کلّ من الأطراف یستکشف أنّ البعض علی سبیل التخیـیر مرخّص فیـه‏‎ ‎‏حیث لا ترجیح للبعض المعیّن‏‎[3]‎‏ ، انتهی .‏

‏ویرد علیـه ما أورد علیـه المحقّق المعاصر فی کتاب الدرر من أنّ حکم‏‎ ‎‏العقل بذلک إنّما یکون فیما یقطع بأنّ الجری علی طبق أحد الاقتضائین لا مانع‏‎ ‎‏منـه ، کما فی مثال الغریقین ، وأمّا فیما نحن فیـه فکما أنّ الشکّ یقتضی الترخیص‏‎ ‎‏کذلک العلم الإجمالی یوجب مراعاة الواقع ویقتضی الاحتیاط ، ولعلّ اقتضاء العلم‏‎ ‎‏یکون أقوی فی نظر الشارع ، فلا یقطع العقل بالترخیص ، کما هو واضح‏‎[4]‎‏ .‏

ومنها‏ : ما أورده علی نفسـه المحقّق النائینی بعد الحکم بسقوط الاُصول‏‎ ‎‏بالنسبـة إلی جمیع الأطراف بقولـه : « إن قلت » وملخّصـه : أنّ نسبـة الاُصول إلی کلّ‏‎ ‎‏واحد من الأطراف وإن کانت علی حدّ سواء إلاّ أنّ ذلک لا یقتضی سقوطها‏‎ ‎‏جمیعاً ، بل غایـة ما یقتضیـه هو التخیـیر فی إجراء أحد الأصلین المتعارضین ،‏‎ ‎‏لأنّـه بناءً علی شمول أدلّـة الاُصول لأطراف العلم الإجمالی یکون حال الاُصول‏‎ ‎‏العملیـة حال الأمارات علی القول بالسببیّـة ، والتخیـیر فی باب الأمارات‏‎ ‎‏المتعارضـة إنّما هو کالتخیـیر فی باب المتزاحمین .‏

‏وحینئذٍ : لابدّ إمّا من تقیـید إطلاق الأمر بالعمل بمؤدّی کلّ من الأمارتین‏‎ ‎


کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 103
‏بحال عدم العمل بالاُخری إن لم یکن أحد المؤدّیـین أهمِّ، وإمّا من سقوط الأمرین‏‎ ‎‏واستکشاف العقل حکماً تخیـیریّاً لأجل وجود الملاک التامّ فی متعلّق کلّ من‏‎ ‎‏الأمارتین علی المسلکین فی باب التزاحم ، والظاهر هو المسلک الأوّل ، لأنّ منشأ‏‎ ‎‏التزاحم إنّما هو عدم القدرة علی الجمع بینهما ، والمقتضی لإیجاب الجمع إنّما هو‏‎ ‎‏إطلاق کلّ من الخطابین ، فلابدّ من رفع الید عنـه ، لأنّـه الذی أوجب التزاحم ،‏‎ ‎‏والضرورات تـتقدّر بقدرها .‏

‏ونقول فی المقام : إنّ حجّیـة کلّ أصل عملی إنّما تکون مطلقـة بالنسبـة إلی‏‎ ‎‏ما عداه من سائر الاُصول ، لإطلاق دلیل اعتباره ، وهذا الإطلاق محفوظ فی‏‎ ‎‏الشبهات البدویّـة والمقرونـة بالعلم الإجمالی إذا لم یلزم من جریان الاُصول فی‏‎ ‎‏الأطراف مخالفـة عملیـة .‏

‏وأمّا إذا لزم فلا یمکن بقاء إطلاق الحجّیـة لکلّ من الاُصول الجاریـة فی‏‎ ‎‏جمیع الأطراف ، لأنّ بقاء الإطلاق یقتضی صحّـة جریانها فی جمیع الأطراف‏‎ ‎‏والمفروض أنّـه یستلزم المخالفـة العملیّـة فلابدّ من رفع الید عن إطلاق‏‎ ‎‏الحجّیـة ، ولا یلزم أن تسقط الحجّیـة ، ونتیجـة التقیـید هو التخیـیر فی إجراء‏‎ ‎‏أحد الأصلین لا سقوطهما رأساً کما لایخفی‏‎[5]‎‏ .‏

أقول‏ : قد عرفت أنّ ما یمکن الاستدلال بـه للترخیص فی الشبهات‏‎ ‎‏المقرونـة بالعلم الإجمالی هی صحیحـة عبداللّٰه بن سنان المتقدّمـة‏‎[6]‎‏ الدالّـة علی‏‎ ‎‏أنّ « ‏کلّ شیء فیـه حلال وحرام فهو لک حلال أبداً حتّی تعرف الحرام منـه‎ ‎


کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 104
بعینـه‏ ‏»‏ وعرفت أنّ التمسّک بها للمقام مبنی علی أن یکون المراد من الشیء هو‏‎ ‎‏المجموع من الحلال والحرام والمختلط منهما ، إذ لیس کلّ واحد من الأطراف‏‎ ‎‏فیـه الحلال والحرام ، بل ما فیـه الحلال والحرام هو مجموع المشتبهین أو‏‎ ‎‏المشتبهات والمختلط منهما أو منها ، فأصالـة الحلّیـة الجاریـة بمقتضی هذه‏‎ ‎‏الصحیحـة إنّما تجری فی مجموع الأطراف ، لا فی کلّ واحد منها ، لعدم کون کلّ‏‎ ‎‏واحد منها مصداقاً ومورداً لها ، کما لایخفی .‏

‏وحینئذٍ فلا دلیل علی جریانها فی کلّ واحد من الأطراف حتّی یقیّد إطلاق‏‎ ‎‏حجّیتها بما إذا لم تجر فی الطرف الآخر ، لاستلزام بقاء الإطلاق المحذور‏‎ ‎‏المتقدّم .‏

‏وإن شئت قلت : إنّ المحذور ـ وهو لزوم المخالفـة العملیـة ـ إنّما یلزم من‏‎ ‎‏جریانها مطلقاً ، سواء کان إطلاقها بالنسبـة إلی الأفراد الاُخر التی هی عبارة عن‏‎ ‎‏الشبهات الاُخر المقرونـة بالعلم الإجمالی محفوظاً أم غیر محفوظ ، ضرورة أنّ‏‎ ‎‏جریانها ولو فی شبهـة واحدة مقرونـة بالعلم الإجمالی یوجب المخالفـة العملیـة‏‎ ‎‏والإذن فی المعصیـة ، کما هو واضح .‏

‏وبالجملـة : موارد جریان أصل الحلّیـة هو کلّ مشتبـه بالشبهـة المقرونـة‏‎ ‎‏بالعلم الإجمالی ، أی المختلط من الحلال والحرام ، ولابدّ من أن یلاحظ الإطلاق‏‎ ‎‏بالنسبـة إلیـه ، وقـد عرفت أنّ تقیـید الإطـلاق أیضاً لایوجب رفـع المحذور ،‏‎ ‎‏کما لا یخفی ، هذا .‏

‏وأمّا أدلّـة الاستصحاب فهی وإن کانت مقتضاها جریانـه فی کلّ واحد من‏‎ ‎‏الأطراف ، لوجود الیقین السابق والشکّ اللاحق فیـه ، إلاّ أنّ ذلک مبنی علی أن‏‎ ‎‏یکون المراد من الیقین المأخوذ فی أدلّتـه وکذا الشکّ هو الیقین والشکّ‏‎ ‎


کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 105
‏الوجدانیـین ، مع أنّا سنمنع ذلک فی بحث الاستصحاب ونقول : إنّ ظاهرها هو کون‏‎ ‎‏المراد بالیقین هی الحجّـة المعتبرة ، وبالشکّ هو عدم الحجّـة ، ومن الواضح‏‎ ‎‏وجود الحجّـة فی أطراف العلم الإجمالی ، فلا یکون من نقض الحجّـة بغیرها ،‏‎ ‎‏کما لایخفی .‏

ثمّ إنّـه أجاب المحقّق النائینی عن هذا الوجـه‏ الذی أورده علی نفسـه بکلام‏‎ ‎‏طویل ، وملخّصـه : أنّ الموارد التی یحکم فیها بالتخیـیر مع عدم قیام دلیل علیـه‏‎ ‎‏بالخصوص لا تخلو عن أحد أمرین :‏

‏أحدهما : اقتضاء الکاشف والدلیل الدالّ علی الحکم التخیـیر فی العمل .‏

‏وثانیهما : اقتضاء المنکشف والمدلول ذلک وإن کان الدلیل یقتضی‏‎ ‎‏التعیـینیّـة .‏

‏فمن الأوّل : ما إذا ورد عامّ کقولـه : « أکرم العلماء » ، وعلم بخروج زید‏‎ ‎‏وعمرو؟ عن العامِّ، ولکن شکّ فی أنّ خروجهما هل هو علی نحو الإطلاق ، أو أنّ‏‎ ‎‏خروج کلّ منهما مشروط بحال عدم إکرام الآخر .‏

‏وبعبارة اُخری : دار الأمر بین أن یکون التخصیص أفرادیّاً وأحوالیّاً معاً أو‏‎ ‎‏أحوالیّاً فقط ، والوظیفـة فی هذا الفرض هو التخیـیر فی إکرام أحدهما ، لأنّ مرجع‏‎ ‎‏الشکّ إلی الشکّ فی مقدار الخارج عن عموم وجوب إکرام العلماء ، ولابدّ من‏‎ ‎‏الاقتصار علی المتیقّن خروجـه وهو التخصیص الأحوالی فقط ، فلا محیص عن‏‎ ‎‏القول بالتخیـیر ، إلاّ أنّ منشأه هو اجتماع دلیل العامّ وإجمال دلیل الخاصّ‏‎ ‎‏بضمیمـة وجوب الاقتصار علی القدر المتیقّن ، ولیس التخیـیر فیـه لأجل اقتضاء‏‎ ‎‏المجعول لـه ، بل المجعول فی کلّ من العامّ والخاصّ هو الحکم التعیـینی ،‏‎ ‎‏فالتخیـیر إنّما نشأ من ناحیـة الدلیل .‏


کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 106
‏ومن الثانی : المتزاحمان فی مقام الامتثال ؛ فإنّ التخیـیر فیهما إنّما هو‏‎ ‎‏لأجل أنّ المجعول فی باب التکالیف معنی یقتضی التخیـیر فی امتثال أحد‏‎ ‎‏المتزاحمین ، لأنّـه یعتبر عقلاً فیها القدرة علی الامتثال ، وحیث لا تکون القدرة‏‎ ‎‏محفوظـة فی کلیهما فالعقل یستقلّ بالتخیـیر ، والفرق بین التخیـیر فی هذا القسم‏‎ ‎‏والتخیـیر فی القسم الأوّل أنّ التخیـیر هناک ظاهری وهنا واقعی .‏

إذا عرفت ذلک نقول‏ : إنّ القول بالتخیـیر فی باب الاُصول لا شاهد علیـه‏‎ ‎‏لا من ناحیـة الدلیل والکاشف ، ولا من ناحیـة المدلول والمنکشف .‏

‏أمّا انتفاء الأوّل : فواضح ، فإنّ دلیل اعتبار کلّ أصل من الاُصول العملیّـه‏‎ ‎‏إنّما یقتضی جریانـه عیناً ، سواء عارضـه أصل آخر أو لم یعارضـه .‏

‏وأمّا انتفاء الثانی : فلأنّ المجعول فـی باب الاُصول العملیـة لیس إلاّ‏‎ ‎‏الحکم بتطبیق العمل علی مؤدّی الأصل بما أنّـه الواقـع أولا بما أنّـه کـذلک علی‏‎ ‎‏اختلاف الاُصول ، ولکنّ الحکم بذلک لیس علی إطلاقـه ، بل مع انحفاظ رتبـة‏‎ ‎‏الحکم الظاهری باجتماع القیود الثلاثـة ، وهی الجهل بالواقع ، وإمکان الحکم‏‎ ‎‏علی المـؤدّی بما أنّـه الواقـع ، وعـدم لـزوم المخالفـة العملیـة ، وحیث إنّـه یلزم‏‎ ‎‏من جریان الاُصول فی أطراف العلم الإجمالی مخالفـة عملیّـة فلا یمکن جعلها‏‎ ‎‏جمعاً ، وکون المجعول أحدها تخیـیراً وإن کان بمکان من الإمکـان ، إلاّ أنّـه‏‎ ‎‏لا دلیل علیـه لا من ناحیـة أدلّـة الاُصول ولا من ناحیـة المجعول فیها‏‎[7]‎‏ ، انتهی .‏

وفی هذا الکلام وجوه من النظر‏ :‏

منها‏ : أنّ ما ذکره ـ من أنّ التخیـیر فی القسم الأوّل إنّما هو من ناحیـة‏‎ ‎


کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 107
‏الدلیل والکاشف لا المجعول والمنکشف ، لأنّ المجعول فی کلّ من العامّ والخاصّ‏‎ ‎‏هو الحکم التعیـینی ـ محلّ نظر ، بل منع . ضرورة أنّـه لو کان الحکم المجعول فی‏‎ ‎‏الخاصّ حکماً تعیـینیّاً وعلم ذلک لم یکن مجال للتخیـیر ، لأنّـه مساوق للعلم‏‎ ‎‏بکون التخصیص أفرادیّاً وأحوالیّاً معاً ، لوضوح أنّـه لو کان التخصیص أحوالیّاً‏‎ ‎‏فقط وکان خروج کلّ من الفردین مشروطاً بدخول الآخر یکون الحکم المجعول‏‎ ‎‏حکماً تخیـیریّاً .‏

‏وبالجملـة : فالذی أوجب الحکم بالتخیـیر هو تردّد المجعول فی الخاصّ‏‎ ‎‏بین کونـه تعیـینیّاً أو تخیـیریّاً بضمیمـة وجوب الاقتصار فی التخصیص علی‏‎ ‎‏القـدر المتیقّن ، فالتخیـیر إنّما هـو مقتضی تـردّد المجعول بضمیمـة مـا ذکـر ،‏‎ ‎‏کمالا یخفی ، ولا یکون ناشئاً من الدلیل .‏

ومنها‏ : أنّ ما ذکره من أنّ التخیـیر فی القسم الثانی إنّما هو من ناحیـة‏‎ ‎‏المدلول والمنکشف ، محلّ منع ، بل التخیـیر فیـه إنّما هو کالتخیـیر فی القسم‏‎ ‎‏الأوّل ؛ لأنّ التخیـیر فیـه إنّما یکون منشؤه إطلاق مثل قولـه : « انقذ کلّ غریق »‏‎ ‎‏بضمیمـة التخصیص بالنسبـة إلی صورة العجز عن الإنقاذ بالإضافـة إلی‏‎ ‎‏الغریقین ، مع لزوم الاقتصار فی مقام التخصیص علی القدر المتیقّن ، وهو خروج‏‎ ‎‏الأحوالی فقط الذی مرجعـه إلی رفع الید عن الإطلاق ، لا الأفرادی والأحوالی‏‎ ‎‏معاً الذی مرجعـه إلی رفع الید عن العموم .‏

‏وبالجملـة : فلا فرق بین القسمین إلاّ فی أنّ الحاکم بالتخصیص فی القسم‏‎ ‎‏الأوّل هو الدلیل اللفظی ، وفی القسم الثانی هو الدلیل العقلی ، وهو لا یوجب‏‎ ‎‏الفرق بین التخیـیرین من حیث المقتضی ، کما لایخفی .‏

ومنها‏ : أنّـه لو سلّم جمیع ما ذکر فنمنع ما ذکره من عدم کون التخیـیر فی‏‎ ‎


کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 108
‏باب الاُصول العملیـة من ناحیـة الدلیل والکاشف ، لأنّ لنا أن نقول بکون التخیـیر‏‎ ‎‏فیها من جهـة الدلیل والکاشف ، لأنّ أدلّـة أصالـة الحلّ تشمل بعمومها لأطراف‏‎ ‎‏العلم الإجمالی أیضاً .‏

‏غایـة الأمر : أنّها خصّصت بالنسبـة إلیها قطعاً ، ولکن أمر المخصّص دائر‏‎ ‎‏بین أن یکون مقتضاه خروج الأطراف مطلقاً حتّی یلزم الخروج الأفرادی‏‎ ‎‏والأحوالی معاً ، وبین أن یکون مقتضیاً لخروج کلّ واحد منها مشروطاً بدخول‏‎ ‎‏الآخر ، فهذا الإجمال بضمیمـة لزوم الاقتصار علی القدر المتیقّن فی مقام‏‎ ‎‏التخصیص أوجب التخیـیر ، کما هو واضح .‏

ومنها‏ : وهو العمدة ، أنّ ما ذکره من عدم کون التخیـیر فی باب الاُصول من‏‎ ‎‏مقتضیات المجعول والمنکشف ممنوع جدّاً ، ضرورة أنّ المقام إنّما هو من قبیل‏‎ ‎‏المتزاحمین ، کما أنّ فیهما یکون الملاک فی کلّ فرد موجوداً ، فکذلک الملاک‏‎ ‎‏لجریان أصل الإباحـة فی کلّ من الأطراف موجود قطعاً ، وکما أنّ المانع العقلی‏‎ ‎‏هناک بضمیمـة اقتضاء کلّ من المتزاحمین صرف القدرة إلی نفسـه یوجب الحکم‏‎ ‎‏بالتخیـیر إمّا لتقیـید الإطلاق ، وإمّا لسقوط الخطابین واستکشاف العقل حکماً‏‎ ‎‏تخیـیریّاً ، کذلک المانع العقلی هنا وهو لزوم المخالفـة القطعیـة بضمیمـة اقتضاء‏‎ ‎‏کلّ من الأصلین لإثبات حکم متعلّقـه یوجب التخیـیر قطعاً .‏

‏فالعمدة فی الجـواب ما ذکرنا مـن أنّـه لیس هنا مـا یدلّ علی جـریان‏‎ ‎‏أصل الحلّیـة فی کلّ واحد من الأطراف ، بل مجراه هو مجموعها الذی هو‏‎ ‎‏المختلـط مـن الحـلال والحـرام ، وجریانـه فیـه مستلزم للمخالفـة القطعیـة‏‎ ‎‏کما مـرِّ، فتأمّل فـی المقام فإنّـه مـن مـزالّ الأقـدام کما یظهر بمراجعـة کلمات‏‎ ‎‏الأعلام .‏


کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 109

تبصرة

‏ ‏

‏وهی أنّ المحقّق النائینی ‏‏قدس سره‏‏ بعد الحکم بعدم جواز الإذن فی جمیع‏‎ ‎‏الأطراف ؛ لأنّـه إذن فی المعصیـة والعقل یستقلّ بقبحها ، قال علی ما فی‏‎ ‎‏التقریرات : وأمّا الإذن فی البعض فهو ممّا لا مانع عنـه ، فإنّ ذلک یرجع فی‏‎ ‎‏الحقیقـة إلی جعل الشارع الطرف الغیر المأذون فیـه بدلاً عن الواقع والاکتفاء‏‎ ‎‏بترکـه عنـه لو فرض أنّـه صادف المأذون فیـه للواقع ، وکان هو الحرام المعلوم‏‎ ‎‏فی البین ، ودعوی أنّـه لیس للشارع الاکتفاء عن الواقع ببدلـه ممّا لا شاهد علیـه ،‏‎ ‎‏وإلی ذلک یرجع ما تکرّر فی کلمات الشیخ ‏‏قدس سره‏‏ من إمکان جعل بعض الأطراف‏‎ ‎‏بدلاً عن الواقع ، فإنّـه لیس المراد تنصیص الشارع بالبدلیّـة ، بل نفس الإذن فی‏‎ ‎‏البعض یستلزم بدلیّـة الآخر قهراً‏‎[8]‎‏ ، انتهی .‏

‏وأنت خبیر بأنّ جعل البدلیّـة یتوقّف علی کون المجعول بدلاً ممّا یصلح لأن‏‎ ‎‏یکون بدلاً ، بأن یکون واجداً لملاک البدلیّـة وصالحاً لأن یقوم مقام المبدل ، وفی‏‎ ‎‏المقام لا یکون کذلک ؛ لأنّ المفروض هنا هو دوران الأمر بین الحرمـة وغیر‏‎ ‎‏الوجوب من الأحکام الثلاثـة الاُخر .‏

‏ومن المعلوم أنّ المستحبّ ـ مثلاً ـ الذی تکون فیـه مصلحـة راجحـة کیف‏‎ ‎‏یعقل أن یکون بدلاً عن المحرّم الذی لا یکون فیـه إلاّ مفسدة تامّـة ، فالإذن فی‏‎ ‎‏ارتکاب المحرّم وجعل المستحبّ ـ مثلاً ـ بدلاً عنـه والاکتفاء بترکـه عن ترک‏‎ ‎‏المحرّم ممّا لا نتصوّره أصلاً بعد کون المستحبّ ذا مصلحـة راجحـة والمحرّم ذا‏‎ ‎


کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 110
‏مفسدة ملزمـة . وکذا الحکم فی المکروه والمباح ، فإنّـه لا یعقل جعل شیء منهما‏‎ ‎‏بدلاً عن الحرام بعد خلوّ المباح عن المفسدة وعدم بلوغ مفسدة المکروه إلی حدّ‏‎ ‎‏التمام الموجب للإلزام . فإذن ینقدح بطلان ما ذکره من أنّ « دعوی أنّـه لیس‏‎ ‎‏للشارع . . . » إلی آخره ؛ لما عرفت من عدم معقولیّـة البدلیّـة المقتضیـة لکون‏‎ ‎‏البدل واجداً لملاکها ، کما لایخفی .‏

‏فلو ثبت الإذن فی بعض الأطراف فاللازم أن یقال بأنّ فی صورة مصادفـة‏‎ ‎‏المأذون فیـه للمحرّم الواقعی أنّ الشارع قد رفع الید عن حکمـه الموجود فی‏‎ ‎‏البین لمصلحـة أهمّ من مصلحـة الواقع ، وهی مصلحـة التسهیل ومفسدة التضیـیق‏‎ ‎‏الموجبـة لأن تکون الشریعـة سمحـة سهلـة حتّی یرغب الناس فیها ، کما هو‏‎ ‎‏الشأن فی الترخیص فی مطلق الشبهات البدویّـة مع ثبوت الحکم الواقعی فی‏‎ ‎‏بعض مواردها کما مرّ مراراً فتدبّر .‏

‎ ‎

کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 111

  • )) تقدّمت فی الصفحة 88 .
  • )) تقدّمت فی الصفحة 89 .
  • )) درر الفوائد ، المحقّق الحائری : 458 ـ 459 .
  • )) نفس المصدر : 459 .
  • )) فوائد الاُصول ( تقریرات المحقّق النائینی ) الکاظمی 4 : 25 ـ 27 .
  • )) تقدّمت فی الصفحة 88 .
  • )) فوائد الاُصول ( تقریرات المحقّق النائینی ) الکاظمی 4 : 28 ـ 31 .
  • )) فوائد الاُصول ( تقریرات المحقّق النائینی ) الکاظمی 4 : 35 .