تفصیل المحقّق النائینی فی جریان الاُصول
ثمّ إنّ بعض الأعاظم من المعاصرین فصّل علی مـا فی التقریرات بین أصالـة الإباحـة وغیرها فی دوران الأمر بین المحذورین ، وکذا بین الاستصحاب وغیره فی المقام ، فجعل المحذور فی جریان أصالـة الإباحـة هناک غیر ما هو
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 94
المحذور فی جریان غیرها من الاُصول . وقد عرفت ذلک الجواب عنـه سابقاً .
وأمّا هنا فحکم بعدم جریان مثل الاستصحاب من الاُصول التنزیلیـة فی أطراف العلم الإجمالی مطلقاً من غیر فرق بین أن یلزم من جریان الاستصحابین مخالفـة عملیّـة أم لا ، وبعدم جریان غیرها من الاُصول کأصالـة الإباحـة والطهارة وغیرهما إذا لـزم مـن جریانها مخالفـة عملیـة قطعیـة للتکلیف المعلوم فـی البین .
قال فی وجـه ذلک ما ملخّصـه : إنّ المجعول فی الاُصول التنزیلیـة إنّما هو البناء العملی والأخذ بأحد طرفی الشکّ علی أنّـه هو الواقع ، وإلغاء الطرف الآخر ، وجعل الشکّ کالعدم فی عالم التشریع ، فإنّ ظاهر قولـه علیه السلام : « لا تنقض الیقین بالشکِّ» هو البناء العملی علی بقاء المتیقّن وتنزیل حال الشکّ منزلـة حال الیقین ، وهذا المعنی لا یمکن جعلـه بالنسبـة إلی جمیع الأطراف فی العلم الإجمالی ، للعلم بانتقاض الحالـة السابقـة فی بعض الأطراف ، فإنّ الإحراز التعبّدی لا یجتمع مع الإحراز الوجدانی بالخلاف ، وهذا لا فرق فیـه بین أن یلزم من جریان الاستصحابین مخالفـة عملیّـة أم لا ، لعدم إمکان الجعل ثبوتاً ، وأمّا الاُصول الغیر التنزیلیـة فلا مانع من جریانها إلاّ المخالفـة العملیّـة للتکلیف المعلوم فی البین ، فهی لا تجری إن لزم من جریانها ذلک ، وتجری إن لم یلزم . انتهی ملخّصاً .
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 95
ویرد علیـه أوّلاً : أنّ کون الاستصحاب من الاُصول التنزیلیـة بالمعنی الذی أفاده محلّ نظر ، بل منع ؛ فإنّ الکبری المجعولـة فی أدلّتـه لیست إلاّ حرمـة نقض الیقین بالشکِّ، وظاهرها هو وجوب ترتیب آثار المتیقّن فی طرف الشکّ وتطبیق عملـه علی عمل المتیقّن .
وأمّا البناء علی أنّـه هو الواقع وإلغاء الطرف الآخر وجعل الشکّ کالعدم فلا یستفاد من شیء من الأخبار الواردة فی الاستصحاب . کیف واعتبار إلغاء الشکّ وجعلـه کالعدم فی عالم التشریع لا یجتمع مع اعتباره فی الصغری بقولـه علیه السلام : « لأنّک کنت علی یقین من طهارتک فشککت » فتأمّل .
وبالجملـة : فلا یظهر من أخبار الاستصحاب إلاّ مجرّد ترتیب آثار الواقع فی مقام العمل ، لا الأخذ بالطرف الموافق للحالـة السابقـة بما أنّـه هو الواقع ، کما لایخفی .
وثانیاً : لو سلّم کون الاستصحاب من الاُصول التنزیلیـة ، فلا نسلّم عدم جریانها فی أطراف العلم الإجمالی ؛ فإنّ کلاًّ منها مشکوک فیـه مسبوق بالحالـة السابقـة ، فلا مانع من جریان الاستصحاب فیـه .
وما أفاده من أنّ الإحراز التعبّدی لا یجتمع مع الإحراز الوجدانی بالخلاف محلّ منع ؛ لعدم الدلیل علی عدم إمکان الاجتماع ، فإنّ للشارع فی عالم التشریع أن یتعبّدنا بترتیب آثار الوجود علی ما لیس بموجود أو بالعکس ، کما فی المرتدّ الفطری ، وبالتفکیک بین المتلازمین .
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 96
والعجب أنّـه قدس سره قد تنبّـه لورود هذا الإشکال علیـه ، فذکر فی آخر بحث الاستصحاب فی مسألـة تعارض الاستصحابین مـا ملخّصـه : إنّـه ربّما یناقش فیما ذکرناه ـ من عـدم جـریان الاُصول المحـرزة فی أطـراف العلم الإجمالی مطلقاً وإن لم یلزم منها مخالفـة عملیـة ـ بأنّـه یلزم علی هذا عـدم جـواز التفکیک بین المتلازمین الشرعیـین کطهارة البدن وبقاء الحدث عند الوضوء بمائـع مردّد بین البول والماء ؛ لأنّ استصحاب بقاء الحدث وطهارة البدن ینافی العلم الإجمالی بعدم بقاء الواقع فی أحدهما ، لأنّـه إن کان المائع ماءً فقد ارتفع الحـدث ، وإن کان بولاً فقد تنجّس البدن ، فالتعبّد بالجمع بینهما لا یمکـن . بل یلزم عدم جواز التفکیک بین المتلازمین العقلیـین أو العادیـین ، فإنّ استصحاب حیاة زید وعدم نبات لحیتـه ینافی العلم العادی بعدم الواقع فی أحدهما ، للملازمـة بین الحیاة والنبات ، وکذا التعبّد ببقاء الکلّی وعدم حـدوث الفرد ونحـو ذلک من الأمثلـة .
وأجاب عن هذه الشبهـة بما ملخّصـه : إنّـه تارة یلزم من التعبّد بمؤدّی الأصلین العلم التفصیلی بکذب ما یؤدّیان إلیـه ؛ لأنّهما یتّفقان علی نفی ما یعلم تفصیلاً ثبوتـه ، أو علی ثبوت ما یعلم تفصیلاً نفیـه ، کما فی استصحاب نجاسـة الإنائین أو طهارتهما مع العلم بطهارة أحدهما أو نجاستـه ، فإنّ الاستصحابین یتوافقان فی نفی ما یعلم تفصیلاً من طهارة أحدهما أو نجاستـه .
واُخری لا یلزم من التعبّد بمؤدّی الأصلین العلم التفصیلی بکذب ما یؤدّیان إلیـه ، بل یعلم إجمالاً بعدم مطابقـة أحد الأصلین للواقع من دون أن یتوافقا فی ثبوت ما علم تفصیلاً نفیـه ، أو نفی ما علم تفصیلاً ثبوتـه . بل لا یحصل من التعبّد بمؤدّی الأصلین إلاّ العلم بمخالفـة أحدهما للواقع ، کما فی الاُصول الجاریـة فی
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 97
الموارد التی یلزم منها التفکیک بین المتلازمین الشرعیـین أو العقلیـین أو العادیـین . والفرق بین القسمین ممّا لا یکاد یخفی ، والذی منعنا عن جریانـه فی أطراف العلم الإجمالی هو الأوّل . وأمّا الثانی فلا محذور فیـه أصلاً ؛ لأنّ التلازم بحسب الواقع لا یلازم التلازم بحسب الظاهر ، انتهی .
ولا یخفی عدم وضوح الفرق بین القسمین ؛ لأنّ جریان الاستصحاب فی القسم الأوّل فی کلّ واحد من الإنائین لا ینافی العلم بالطهارة أو النجاسـة ، ولا یکون المجموع من حیث هو مجموع مورداً لجریان الاستصحاب حتّی یکون منافیاً للعلم التفصیلی بالخلاف ، بل مورده هو کلّ واحد منهما بالخصوص ، ولا ینافی شیء من الأصلین للعلم الإجمالی . غایـة الأمـر أنّـه بعد جریانهما یقطع بکذب أحدهما ، للعلم الإجمالی بالطهارة أو النجاسـة ، فلم یظهر فرق بینـه وبین القسم الثانی ، ومجرّد توافق الأصلین فی الأوّل وتخالفهما فی الثانی لا یوجب الفرق بینهما بعد کون الأوّل أیضاً مصداقین لحرمـة النقض بالشکّ لا مصداقاً واحداً .
هذا مضافاً إلی أنّ اللازم من ذلک التفصیل فی جریان الاستصحاب فی أطراف العلم الإجمالی ، لأنّـه قد تکون الأصلان متخالفین کما فیما لو علم بجنس التکلیف ، ودار الأمر بین وجوب شیء وحرمـة شیء آخر ، مع کونهما مسبوقین بالعدم ، فإنّ أصل عدم الوجوب یخالف مع أصالـة عدم الحرمـة ولا یکون بینهما توافق ، کما هو واضح ، وحینئذٍ فیصیر من قبیل القسم الثانی ، مع أنّـه لا یلتزم بالجریان فی هذه الصورة أیضاً .
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 98
فانقدح من جمیع ما ذکرنا أنّ المانع من جریان الاُصول فی أطراف الشبهـة المحصورة لیس إلاّ لزوم المخالفـة العملیّـة للتکلیف المعلوم فی البین ، وحیث إنّ الاستلزام واللزوم إنّما هو فیما لو وقع الترخیص فی جمیع الأطراف ، وأمّا لترخیص فی بعضها فلا محذور فیـه من هذه الجهـة ، فحینئذٍ یقع الکلام فی أنّـه هل هنا شیء یمکن أن یستفاد منـه الترخیص فی بعضها أم لا ؟
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 99