الروایات الدالّة علی الترخیص فی أطراف العلم الإجمالی
إذا عرفت ذلک فاعلم : أنّ ما یدلّ بظاهره من الروایات علی الترخیص فی أطراف العلم الإجمالی کثیر .
منها : مرسلـة معاویـة بن عمّار عن رجل من أصحابنا قال : کنت عند أبی جعفر علیه السلام فسألـه رجل عن الجبن ، فقال أبو جعفر علیه السلام : « إنّـه لطعام یعجبنی ، سأخبرک عن الجبن وغیره ، کلّ شیء فیـه الحلال والحرام فهو لک حلال حتّی تعرف الحرام فتدعـه بعینـه » .
وقد وردت هذه الکلّیـة فی روایـة عبداللّٰه بن سنان عن أبی عبداللّٰهعلیه السلام قال : « کلّ شیء فیـه حلال وحرام فهو لک حلال أبداً حتّی تعرف الحرام منـه بعینـه فتدعـه » .
والاحتمالات الجاریـة فی صدر الروایتین مع قطع النظر عن الغایـة المذکورة فیهما ثلاثـة :
أحدها : أن یکون المراد بالشیء هی الطبیعـة الواحدة التی یوجد فیها
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 88
الحلال باعتبار بعض أنواعـه والحرام باعتبار بعضها الآخر ، وحینئذٍ فیصیر المراد أنّ هذه الطبیعـة الواحدة لک حلال حتّی تعرف نوعها الحرام بعینـه ، وحینئذٍ فیختصّ بالشبهات البدویّـة ، ولا یشمل صورة العلم الإجمالی والشبهات المحصورة .
ثانیها : أن یکون المراد بالشیء مجموع الشیئین أو الأشیاء التی یعلم بوجود الحرام بینهما أو بینها إجمالاً ، وحینئذٍ فینحصر موردها بأطراف العلم الإجمالی .
ثالثها : أن یکون المراد بـه أعمّ من القسم الأوّل والثانی ، فتشمل الروایتان الشبهات البدویّـة والمحصورة جمیعاً ، هذا .
وأمّا ذیل الروایتین : فإن کان المراد بالشیء هو الاحتمال الأوّل فیمکن أن یکون المراد بالمعرفـة أعمّ من المعرفـة التفصیلیـة والإجمالیّـة ، لکن هذا الاحتمال أبعد الاحتمالات الثلاثـة .
ولو کان المراد بـه هو الاحتمال الثانی فاللازم أن یکون المراد بالمعرفـة ، المعرفـة التفصیلیـة .
کما أنّـه بناء علی الاحتمال الثالث لابدّ أن یکون المراد بها هذه المعرفـة ، لاستهجان جعل الغایـة للشبهـة البدویّـة أعمّ من المعرفـة الإجمالیّـة ، مع أنّ المغیّی شامل لصورة العلم الإجمالی أیضاً التی لابدّ أن یکون المراد من الغایـة بالنسبـة إلیها المعرفـة التفصیلیـة ، کما هو واضح .
وکیف کان : فالروایتان بناءً علی الاحتمالین الأخیرین تدلاّن علی جعل الحلّیـة فی أطراف الشبهـة المحصورة .
ومثـلهمـا فـی الـدلالـة علـی ذلـک روایـة مسعـدة بـن صـدقـة عـن أبی عبداللّٰه علیه السلامقال : سمعتـه یقول : « کلّ شیء هو لک حلال حتّی تعلم أنّـه حرام
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 89
بعینـه فتدعـه من قبل نفسک ، وذلک مثل الثوب یکون علیک قد اشتریتـه وهو سرقـة ، والمملوک عندک ولعلّـه حرّ قد باع نفسـه أو خدع فبیع قهراً ، أو امرأة تحتک وهی اُختک أو رضیعتک ، والأشیاء کلّها علی هذا حتّی یستبین لک غیر ذلک أو تقوم بـه البیّنـة » .
فإنّ المراد بالشیء هـو کلّ ما شکّ فـی حلّیتـه وحرمتـه ، والغایـة هـو العلم بحرمـة نفس ذلک الشیء المشکوک ، فتشمل الشبهـة المحصورة ، کما هـو واضح ، هذا .
ولکن لا یخفی أنّ روایـة معاویـة بن عمّار مرسلـة لا یجوز الاعتماد علیها . ومثلها فی عدم جواز الاعتماد روایـة عبداللّٰه بن سلیمان الواردة فی الجبن المشتملـة علی هذه القاعدة الکلّیـة ، وذلک لأنّ عبداللّٰه بن سلیمان مجهول ، مضافاً إلی أنّ موردها الجبن ، ومنشأ احتمال التحریم فیـه هو أنّـه قد توضع فیـه الأنفحـة من المیتـة ، وصار ذلک موجباً لتقسیم الجبن إلی قسمین حلال وحرام ، مع أنّ الجبن بحسب مذهب أهل الحقّ حلال کلّـه حتّی الجبن الذی علم تفصیلاً بأنّـه وضعت فیـه الأنفحـة من المیتـة فلا یکون منقسماً علی قسمین .
وحینئذٍ فیقوی فی النظر صدور الروایتین تقیـة ؛ للحکم فیهما بجواز أکل الجبن من جهـة الاشتباه لا فی نفسـه ، مع أنّ الواقع لیس کذلک .
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 90
وأمّا روایـة مسعدة فهی أیضاً غیر قابلـة للاعتماد ، لأنّ الأمثلـة المذکورة فیها لا تکون الحلّیـة فیها مستندة إلی قاعدة الحلّیـة المجعولـة فی الصدر ، بل الحلّیـة فیها لأجل وجود بعض الأمارات أو الاُصول المتقدّمـة علی قاعدة الحلّیـة فی موردها مثل الید وإقرار العقلاء علی أنفسهم واستصحاب عدم کونها رضیعـة لـه وکذا استصحاب عدم کونها اُختاً لـه بناءً علی جریانـه علی خلاف ما هو الحق .
وبالجملـة : فجعل قاعدة کلّیـة ثمّ إیراد أمثلـة لها خارجـة عنها داخلـة فی قواعد اُخر مستهجن لا یصدر من مثل الإمام علیه السلام ، فالروایـة من هذه الجهـة موهونـة جدّاً . فلم یبق فی البین إلاّ روایـة عبداللّٰه بن سنان المتقدّمـة ، وهی صحیحـة من حیث السند تامّـة من حیث الدلالـة ، خالیـة عن احتمال الصدور تقیـة ، لعدم مورد لها .
وقد عرفت : أنّ العقل لا یأبی من الترخیص فی جمیع أطراف الشبهـة المحصورة ، لعدم کون الترخیص فیـه ترخیصاً فی المعصیـة بنظره ، إلاّ أنّـه حیث یکون المتفاهم من مثل هذه الروایـة عند العرف والعقلاء هو الترخیص فی المعصیـة ـ وهو مضافاً إلی قبحـه غیر معقول ؛ لاستلزامـه التناقض کما عرفت سابقاً ـ فلابدّ من رفع الید عنها ولا یجوز الأخذ بمضمونها والحکم بالحلّیـة ، ویؤیّده ما حکی عن صاحب الجواهر من ندور العامل بمثل هذه الروایـة والأخذ بمضمونها .
فانقدح من جمیع ما ذکرنا : أنّ أصالـة الحلّیـة لا تجری فی موارد الشبهـة
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 91
المحصورة ، وکذا أدلّـة أصالـة البراءة ؛ لأنّ مفادها هو جعل التوسعـة للناس وعدم التضیـیق علیهم فی موارد الجعل وعدم العلم ، والحکم فی الشبهـة المحصورة معلوم لا خفاء فیـه . وبعبارة اُخری : لا یجتمع الترخیص فی جمیع الأطراف مع العلم بعدم الرخصـة فی بعضها إجمالاً بعد کون مورد الترخیص هو صورة الجهل وعدم العلم ، هذا .
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 92