ا‏لروایات ا‏لدالّة علی الترخیص فی أطراف العلم ا‏لإجما‏لی

الروایات الدالّة علی الترخیص فی أطراف العلم الإجمالی

‏ ‏

‏إذا عرفت ذلک فاعلم : أنّ ما یدلّ بظاهره من الروایات علی الترخیص فی‏‎ ‎‏أطراف العلم الإجمالی کثیر .‏

منها‏ : مرسلـة معاویـة بن عمّار عن رجل من أصحابنا قال : کنت عند‏‎ ‎‏أبی جعفر ‏‏علیه السلام‏‏ فسألـه رجل عن الجبن ، فقال أبو جعفر ‏‏علیه السلام‏‏ : « ‏إنّـه لطعام یعجبنی‏ ‏،‎ ‎سأخبرک عن الجبن وغیره‏ ‏، کلّ شیء فیـه الحلال والحرام فهو لک حلال حتّی‎ ‎تعرف الحرام فتدعـه بعینـه‏ »‏‎[1]‎‏ .‏

‏وقد وردت هذه الکلّیـة فی روایـة عبداللّٰه بن سنان عن أبی عبداللّٰه‏‏علیه السلام‏‎ ‎‏قال : « ‏کلّ شیء فیـه حلال وحرام فهو لک حلال أبداً حتّی تعرف الحرام منـه‎ ‎بعینـه فتدعـه‏ »‏‎[2]‎‏ .‏

‏والاحتمالات الجاریـة فی صدر الروایتین مع قطع النظر عن الغایـة‏‎ ‎‏المذکورة فیهما ثلاثـة :‏

‏أحدها : أن یکون المراد بالشیء هی الطبیعـة الواحدة التی یوجد فیها‏‎ ‎


کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 88
‏الحلال باعتبار بعض أنواعـه والحرام باعتبار بعضها الآخر ، وحینئذٍ فیصیر المراد‏‎ ‎‏أنّ هذه الطبیعـة الواحدة لک حلال حتّی تعرف نوعها الحرام بعینـه ، وحینئذٍ‏‎ ‎‏فیختصّ بالشبهات البدویّـة ، ولا یشمل صورة العلم الإجمالی والشبهات‏‎ ‎‏المحصورة .‏

‏ثانیها : أن یکون المراد بالشیء مجموع الشیئین أو الأشیاء التی یعلم بوجود‏‎ ‎‏الحرام بینهما أو بینها إجمالاً ، وحینئذٍ فینحصر موردها بأطراف العلم الإجمالی .‏

‏ثالثها : أن یکون المراد بـه أعمّ من القسم الأوّل والثانی ، فتشمل الروایتان‏‎ ‎‏الشبهات البدویّـة والمحصورة جمیعاً ، هذا .‏

‏وأمّا ذیل الروایتین : فإن کان المراد بالشیء هو الاحتمال الأوّل فیمکن أن‏‎ ‎‏یکون المراد بالمعرفـة أعمّ من المعرفـة التفصیلیـة والإجمالیّـة ، لکن هذا‏‎ ‎‏الاحتمال أبعد الاحتمالات الثلاثـة .‏

‏ولو کان المراد بـه هو الاحتمال الثانی فاللازم أن یکون المراد بالمعرفـة ،‏‎ ‎‏المعرفـة التفصیلیـة .‏

‏کما أنّـه بناء علی الاحتمال الثالث لابدّ أن یکون المراد بها هذه المعرفـة ،‏‎ ‎‏لاستهجان جعل الغایـة للشبهـة البدویّـة أعمّ من المعرفـة الإجمالیّـة ، مع أنّ‏‎ ‎‏المغیّی شامل لصورة العلم الإجمالی أیضاً التی لابدّ أن یکون المراد من الغایـة‏‎ ‎‏بالنسبـة إلیها المعرفـة التفصیلیـة ، کما هو واضح .‏

‏وکیف کان : فالروایتان بناءً علی الاحتمالین الأخیرین تدلاّن علی جعل‏‎ ‎‏الحلّیـة فی أطراف الشبهـة المحصورة .‏

‏ومثـلهمـا فـی الـدلالـة علـی ذلـک روایـة مسعـدة بـن صـدقـة عـن‏‎ ‎‏أبی عبداللّٰه ‏‏علیه السلام‏‏قال : سمعتـه یقول : « ‏کلّ شیء هو لک حلال حتّی تعلم أنّـه حرام‎ ‎


کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 89
بعینـه فتدعـه من قبل نفسک‏ ‏، وذلک مثل الثوب یکون علیک قد اشتریتـه وهو‎ ‎سرقـة‏ ‏، والمملوک عندک ولعلّـه حرّ قد باع نفسـه أو خدع فبیع قهراً‏ ‏، أو امرأة‎ ‎تحتک وهی اُختک أو رضیعتک‏ ‏، والأشیاء کلّها علی هذا حتّی یستبین لک غیر ذلک‎ ‎أو تقوم بـه البیّنـة‏ »‏‎[3]‎‏ .‏

‏فإنّ المراد بالشیء هـو کلّ ما شکّ فـی حلّیتـه وحرمتـه ، والغایـة هـو‏‎ ‎‏العلم ‏‏بحرمـة نفس ذلک الشیء المشکوک ، فتشمل الشبهـة المحصورة ، کما‏‎ ‎‏هـو واضح ، هذا .‏

‏ولکن لا یخفی أنّ روایـة معاویـة بن عمّار مرسلـة لا یجوز الاعتماد علیها .‏‎ ‎‏ومثلها فی عدم جواز الاعتماد روایـة عبداللّٰه بن سلیمان‏‎[4]‎‏ الواردة فی الجبن‏‎ ‎‏المشتملـة علی هذه القاعدة الکلّیـة ، وذلک لأنّ عبداللّٰه بن سلیمان مجهول ،‏‎ ‎‏مضافاً إلی أنّ موردها الجبن ، ومنشأ احتمال التحریم فیـه هو أنّـه قد توضع فیـه‏‎ ‎‏الأنفحـة من المیتـة ، وصار ذلک موجباً لتقسیم الجبن إلی قسمین حلال وحرام ،‏‎ ‎‏مع أنّ الجبن بحسب مذهب أهل الحقّ حلال کلّـه حتّی الجبن الذی علم تفصیلاً‏‎ ‎‏بأنّـه وضعت فیـه الأنفحـة من المیتـة فلا یکون منقسماً علی قسمین .‏

‏وحینئذٍ فیقوی فی النظر صدور الروایتین تقیـة ؛ للحکم فیهما بجواز أکل‏‎ ‎‏الجبن من جهـة الاشتباه لا فی نفسـه ، مع أنّ الواقع لیس کذلک .‏


کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 90
‏وأمّا روایـة مسعدة فهی أیضاً غیر قابلـة للاعتماد ، لأنّ الأمثلـة المذکورة‏‎ ‎‏فیها لا تکون الحلّیـة فیها مستندة إلی قاعدة الحلّیـة المجعولـة فی الصدر ، بل‏‎ ‎‏الحلّیـة فیها لأجل وجود بعض الأمارات أو الاُصول المتقدّمـة علی قاعدة‏‎ ‎‏الحلّیـة فی موردها مثل الید وإقرار العقلاء علی أنفسهم واستصحاب عدم کونها‏‎ ‎‏رضیعـة لـه وکذا استصحاب عدم کونها اُختاً لـه بناءً علی جریانـه علی خلاف ما‏‎ ‎‏هو الحق .‏

‏وبالجملـة : فجعل قاعدة کلّیـة ثمّ إیراد أمثلـة لها خارجـة عنها داخلـة فی‏‎ ‎‏قواعد اُخر مستهجن لا یصدر من مثل الإمام ‏‏علیه السلام‏‏ ، فالروایـة من هذه الجهـة‏‎ ‎‏موهونـة جدّاً . فلم یبق فی البین إلاّ روایـة عبداللّٰه بن سنان المتقدّمـة ، وهی‏‎ ‎‏صحیحـة من حیث السند تامّـة من حیث الدلالـة ، خالیـة عن احتمال الصدور‏‎ ‎‏تقیـة ، لعدم مورد لها .‏

‏وقد عرفت : أنّ العقل لا یأبی من الترخیص فی جمیع أطراف الشبهـة‏‎ ‎‏المحصورة ، لعدم کون الترخیص فیـه ترخیصاً فی المعصیـة بنظره ، إلاّ أنّـه حیث‏‎ ‎‏یکون المتفاهم من مثل هذه الروایـة عند العرف والعقلاء هو الترخیص فی‏‎ ‎‏المعصیـة ـ وهو مضافاً إلی قبحـه غیر معقول ؛ لاستلزامـه التناقض کما عرفت‏‎ ‎‏سابقاً ـ فلابدّ من رفع الید عنها ولا یجوز الأخذ بمضمونها والحکم بالحلّیـة ،‏‎ ‎‏ویؤیّده ما حکی عن صاحب الجواهر من ندور العامل بمثل هذه الروایـة والأخذ‏‎ ‎‏بمضمونها‏‎[5]‎‏ .‏

‏فانقدح من جمیع ما ذکرنا : أنّ أصالـة الحلّیـة لا تجری فی موارد الشبهـة‏‎ ‎


کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 91
‏المحصورة ، وکذا أدلّـة أصالـة البراءة ؛ لأنّ مفادها هو جعل التوسعـة للناس وعدم‏‎ ‎‏التضیـیق علیهم فی موارد الجعل وعدم العلم ، والحکم فی الشبهـة المحصورة‏‎ ‎‏معلوم لا خفاء فیـه . وبعبارة اُخری : لا یجتمع الترخیص فی جمیع الأطراف مع‏‎ ‎‏العلم بعدم الرخصـة فی بعضها إجمالاً بعد کون مورد الترخیص هو صورة الجهل‏‎ ‎‏وعدم العلم ، هذا .‏

‎ ‎

کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 92

  • )) المحاسن : 496 / 601 ، وسائل الشیعـة 25 : 119 ، کتاب الأطعمـة والأشربـة ، أبواب الأطعمـة المباحـة ، الباب 61 ، الحدیث 7 .
  • )) الفقیـه 3 : 216 / 1002 ، وسائل الشیعـة 17 : 87 ، کتاب التجارة ، أبواب ما یکتسب بـه ، الباب 4 ، الحدیث 1 .
  • )) الکافی 5 : 313 / 40 ، وسائل الشیعـة 17 : 89 ، کتاب التجارة ، أبواب ما یکتسب بـه ، الباب 4 ، الحدیث 4 .
  • )) الکافی 6 : 339 / 1 ، وسائل الشیعـة 25 : 117 ، کتاب الأطعمـة والأشربـة ، أبواب الأطعمـة المباحـة ، الباب 61 ، الحدیث 1 .
  • )) جواهر الکلام 1 : 294 ـ 298 .