فی جریان ا‏لأصل ا‏لشرعی

‏ ‏

فی جریان الأصل الشرعی

‏ ‏

‏وأمّا البراءة الشرعیّـة : فالظاهر بملاحظـة ما ذکرنا فی وجـه جریان البراءة‏‎ ‎‏العقلیّـة جریانها أیضاً ، لأنّ التکلیف بنوعـه مجهول ، فیشملـه مثل حدیث الرفع .‏

ولکن المحقّق النائینی نفی جریانها‏ ، نظراً إلی أنّ مدرکها قولـه ‏‏صلی الله علیه و آله وسلم‏‏ :‏‎ ‎‏« ‏رفع ما لا یعلمون‏ »‏‎[1]‎‏ . والرفع فرع إمکان الوضع ، وفی المقام لا یمکن وضع‏‎ ‎


کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 71
‏الوجوب‏‎ ‎‏والحرمة کلیهما لا علی سبیل التعیـین ولا علی سبیل التخیـیر ، ومع عدم‏‎ ‎‏إمکان‏‎ ‎‏الوضع لا یعقل الرفع ، فأدلّـة البراءة الشرعیّـة لا تعمّ المقام أیضاً‏‎[2]‎‏ ، هذا .‏

‏ویرد علیـه : أنّ فی مورد دوران الأمر بین المحذورین یتمسّک بحدیث الرفع‏‎ ‎‏مرّتین ، تارة لرفع الوجوب المجهول ، واُخری لرفع الحرمـة المجهولـة ، ومن‏‎ ‎‏الواضح أنّ وضع الوجوب بنفسـه ممّا یمکن ، کما أنّ وضع الحرمـة لا استحالـة‏‎ ‎‏فیـه . نعم ما لا یمکن وضعـه هو مجموع الوجوب والحرمـة ، وهو لا یکون مفاد‏‎ ‎‏حدیث الرفع ، فما یمکن وضعـه یشملـه الحدیث ، وما لا یشملـه لا یمکن‏‎ ‎‏وضعـه .‏

وأمّا أصالـة الإباحـة‏ فمحصّل ما أفاده فی وجـه عدم جریانها اُمور :‏

‏الأوّل : عدم شمول دلیلها لصورة دوران الأمر بین المحذورین ، فإنّـه‏‎ ‎‏یختصّ بما إذا کان طرف الحرمـة الحلِّ، کما هو الظاهر من قولـه ‏‏علیه السلام‏‏ : « ‏کلّ شیء‎ ‎فیـه حلال وحرام فهو لک حلال‏ »‏‎[3]‎‏ . ولیس فی هذا الباب احتمال الإباحـة‏‎ ‎‏والحلِّ، بل الطرف هو الوجوب .‏

‏الثانی : أنّ دلیل أصالـة الحلّ یختصّ بالشبهات الموضوعیـة ولا یعمّ‏‎ ‎‏الشبهات الحکمیّـة .‏

‏الثالث : أنّ جعل الإباحـة الظاهریّـة مع العلم بجنس الإلزام لا یمکن ، فإنّ‏‎ ‎‏أصالـة الإباحـة بمدلولها المطابقی تنافی المعلوم بالإجمال ، لأنّ مفاد أصالـة‏‎ ‎


کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 72
‏الإباحـة الرخصـة فی الفعل والترک ، وهذا یناقض العلم بالإلزام وإن لم یکن لهذا‏‎ ‎‏العلم أثر عملی وکان وجوده کعدمـه لا یقتضی التنجیز ، إلاّ أنّـه حاصل بالوجدان‏‎ ‎‏ولا یجتمع مع جعل الإباحـة ولو ظاهراً‏‎[4]‎‏ ، انتهی .‏

‏ویرد علیـه اُمور :‏

‏الأوّل : منع ما ذکره فی الأمر الثانی من اختصاص دلیل أصالـة الحلّ‏‎ ‎‏بالشبهات الموضوعیـة ، فإنّـه قد مرّ عدم الاختصاص .‏

‏الثانی : أنّ ظاهر کلامـه هو کون أصالـة الحلّ متّحداً مع أصالـة الإباحـة ،‏‎ ‎‏مع أنّ معنی الإباحـة هو تساوی الفعل والترک ، ومعنی الحلّیـة هو عدم کون فعلـه‏‎ ‎‏محرّماً وممنوعاً ، فالحلّیـة تغایر الإباحـة ، وما دلّ علیـه النصوص والروایات‏‎[5]‎‏ ‏‎ ‎‏هی أصالـة الحلّیـة لا الإباحـة ، فإنّـه لم یرد فی شیء منها الحکم بإباحـة‏‎ ‎‏مشکوک الحرمـة أصلاً کما لایخفی .‏

‏الثالث : أنّ مقتضی ما ذکره أوّلاً من عدم شمول دلیل أصالـة الإباحـة‏‎ ‎‏لصورة‏‎ ‎‏دوران الأمر بین المحذورین ینافی ما ذکره أخیراً من أنّ مفاد أصالـة‏‎ ‎‏الإباحـة هو‏‎ ‎‏الترخیص فی الفعل والترک . بیان ذلک : أنّ الترخیص فی الفعل لا‏‎ ‎‏یعقل بعد کون‏‎ ‎‏الترخیص فیـه معلوماً ، فإذا شکّ فی وجوب الدعاء عند رؤیـة‏‎ ‎‏الهلال ـ مثلاً ـ فما‏‎ ‎‏یمکن أن یدلّ علیـه أدلّـة البراءة بالنسبـة إلی الدعاء عندها هو‏‎ ‎‏الترخیص فی‏‎ ‎‏ترکـه ، وأمّا الترخیص فی الفعل فلا یدلّ علیـه أدلّـة البراءة ؛ لکونـه‏‎ ‎


کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 73
‏معلوماً ،‏‎ ‎‏فالترخیص فی الفعل إنّما یعقل إذا کان الفعل مشکوک الحرمـة ، کما أنّ‏‎ ‎‏الترخیص فی‏‎ ‎‏الترک إنّما یمکن إذا کان الفعل مشکوک الوجوب ، ولا یعقل‏‎ ‎‏الترخیص فی الترک فی‏‎ ‎‏الأوّل وفی الفعل فی الثانی . وحینئذٍ : فمقتضی ما ذکره‏‎ ‎‏أخیراً من أنّ مفاد أصالـة‏‎ ‎‏الإباحـة هو الترخیص فی الفعل والترک هو أن یکون‏‎ ‎‏الفعل مشکوک الحرمـة‏‎ ‎‏والوجوب ، إذ لا یعقل الترخیص فی الفعل مع العلم بعدم‏‎ ‎‏الحرمـة ولا فی الترک مع‏‎ ‎‏العلم بعدم الوجوب ، فالترخیص فیهما معاً إنّما هو إذا لم‏‎ ‎‏یعلم عدم الحرمـة ولا عدم‏‎ ‎‏الوجوب ، بل دار الأمر بینهما ، کما فی المقام ، فمفاد‏‎ ‎‏کلامـه الأخیر هو اختصاص‏‎ ‎‏مورد أصالـة الإباحـة التی مرجعها إلی الترخیص‏‎ ‎‏فی الفعل والترک بصورة دوران‏‎ ‎‏الأمر بین المحذورین ، إذ لا یعقل الترخیص فیهما‏‎ ‎‏معاً فی غیرها ، ومقتضی کلامـه‏‎ ‎‏الأوّل هو اختصاص موردها بغیر صورة الدوران‏‎ ‎‏بین المحذورین ، وهذا تهافت‏‎ ‎‏فاحش ، فتدبّر .‏

‏الرابع : أنّ ما ذکره من منافاة أصالـة الإباحـة بمدلولها المطابقی مع المعلوم‏‎ ‎‏بالإجمال محلّ نظر ، بل منع ؛ لأنّ ذلک مبنی علی أن یکون مفاده هو الرخصـة فی‏‎ ‎‏الفعل والترک معاً ، مع أنّ مثل قولـه : « کلّ شیء حلال حتّی تعرف أنّـه حرام » إنّما‏‎ ‎‏یدلّ علی مجرّد الترخیص فی الفعل فی مقابل الحرمـة ، ولا یدلّ علی الترخیص‏‎ ‎‏فی‏‎ ‎‏الفعل والترک معاً حتّی ینافی المعلوم بالإجمال . فمفاد أصالـة الإباحـة‏‎ ‎‏بمقتضی‏‎ ‎‏دلیلها هو مجرّد نفی الحرمـة وجعل الترخیص الظاهری بالنسبـة إلی‏‎ ‎‏الفعل ، وهذا لا‏‎ ‎‏ینافی الوجوب ، کما هو واضح .‏

‏هذا مضافاً إلی أنّـه علی فرض التنافی والمناقضـة لا بأس بذلک ، لأنّـه‏‎ ‎‏کالمناقضـة بین الأحکام الظاهریّـة والأحکام الواقعیـة ، فما قیل فی الجمع بینهما‏‎ ‎‏یقال هنا أیضاً . هذا کلّـه فی أصالـة الإباحـة .‏


کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 74
وأمّا الاستصحاب‏ : فمحصّل ما أفاده ‏‏قدس سره‏‏ فی وجـه عدم جریانـه أیضاً أنّـه‏‎ ‎‏لمّا‏‎ ‎‏کان الاستصحاب من الاُصول التنزیلیـة فلا یمکن الجمع بین مؤدّاه والعلم‏‎ ‎‏الإجمالی ، فإنّ البناء علی عدم وجوب الفعل وعدم حرمتـه واقعاً ـ کما هو مفاد‏‎ ‎‏الاستصحابین ـ لا یجتمع مع العلم بوجوب الفعل أو حرمتـه .‏

‏وإن شئت قلت : إنّ البناء علی مؤدّی الاستصحابین ینافی الموافقـة‏‎ ‎‏الإلتزامیـة فإنّ التصدیق بأنّ للّٰه تعالی فی هذه الواقعـة حکماً إلزامیاً لا یجتمع مع‏‎ ‎‏البناء علی عدم الوجوب والحرمـة واقعاً‏‎[6]‎‏ ، انتهی .‏

‏وفیـه : منع کون الاستصحاب من الاُصول التنزیلیـة بهذا المعنی ، فإنّـه‏‎ ‎‏لیس ‏‏فی شیء من أدلّتـه ما یدلّ أو یشعر بذلک إلاّ ما فی صحیحـة زرارة الثالثـة‏‎ ‎‏من قولـه ‏‏علیه السلام‏‏ : « ‏فیبنی علیـه‏ »‏‎[7]‎‏ ولکن لا یخفی أنّ المراد بالبناء علی المتیقّن هو‏‎ ‎‏البناء العملی لا البناء القلبی علی أنّ الواقع أیضاً کذلک حتّی ینافی الموافقـة‏‎ ‎‏الالتزامیـة علی تقدیر تسلیم لزومها فلا بأس بجریان الاستصحابین والبناء العملی‏‎ ‎‏علی طبقهما ، ولا منافاة بینهما وبین العلم الإجمالی بالوجوب أو الحرمـة أصلاً ،‏‎ ‎‏لما مرّ فی أصالـة الإباحـة فراجع . إلاّ أن یکون الوجـه فی عدم جریان الاُصول‏‎ ‎‏فی أطراف العلم الإجمالی هو التناقض فی أدلّـة الاُصول ، فإنّـه حینئذٍ لا مجال‏‎ ‎‏لجریان الاستصحابین ، کما لایخفی .‏

‏هذا کلّـه مع کون الطرفین مساویـین من حیث المزیّـة والترجیح .‏

‎ ‎

کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 75

  • )) التوحید : 353 / 24 ، الخصال : 417 / 9 ، وسائل الشیعـة 5 : 369 ، کتاب الجهاد ، أبواب جهاد النفس ، الباب 56 ، الحدیث 1 .
  • )) فوائد الاُصول ( تقریرات المحقّق النائینی ) الکاظمی 3 : 448 .
  • )) الفقیـه 3 : 216 / 1002 ، وسائل الشیعـة 17 : 87 ، کتاب التجارة ، أبواب ما یکتسب بـه ، الباب 4 ، الحدیث 1 .
  • )) فوائد الاُصول ( تقریرات المحقّق النائینی ) الکاظمی 3 : 445 .
  • )) وسائل الشیعـة 17 : 87 ، کتاب التجارة ، أبواب ما یکتسب بـه ، الباب 4 ، الحدیث 1 و3 ، و25 : 117 ، کتاب الأطعمة والأشربة ، أبواب الأطعمة المباحة ، الباب 61 ، الحدیث 1 و7 .
  • )) فوائد الاُصول ( تقریرات المحقّق النائینی ) الکاظمی 3 : 449 .
  • )) الکافی 3 : 351 / 3 ، وسائل الشیعـة 8 : 216 ، کتاب الصلاة ، أبواب الخلل الواقع فی الصلاة ، الباب 10 ، الحدیث 3 .