فی جریان ا‏لأصل ا‏لعقلی

فی جریان الأصل العقلی

‏ ‏

‏الظاهر نعم ؛ لأنّ معنی حکم العقل بذلک عبارة عن مجرّد إدراکه هذا المعنی‏‎ ‎‏لا جعلـه التخیـیر . ومن الواضح ثبوت حکمه فی المقام ، فإنّـه بعد ملاحظة استواء‏‎ ‎‏العلم الإجمالی بالنسبـة إلی الطرفین ، وعدم کون المکلّف قادراً علی الامتثال‏‎ ‎‏بالنسبـة إلی کلا التکلیفین ، وعدم ثبوت مزیّـة محقّقـة أو محتملة لأحد الطرفین ،‏‎ ‎‏یدرک أنّ المکلّف مخیّر فی الفعل والترک ، وهذا هو معنی التخیـیر العقلی ، ولا‏‎ ‎‏ینافی ذلک عدم خلوّ المکلّف بحسب الخلقـة من الفعل أو الترک ، کما لا یخفی .‏

وأمّا ما أفاده المحقّق النائینی ‏قدس سره‏‏ ـ علی ما فی التقریرات ـ من عدم ثبوت‏‎ ‎‏الوظیفـة العقلیّـة هنا ، لأنّ التخیـیر العقلی إنّما هو فیما إذا کان فی طرفی التخیـیر‏‎ ‎‏ملاک یلزم استیفائـه ، ولم یتمکّن المکلّف من الجمع بین الطرفین کالتخیـیر الذی‏‎ ‎‏یحکم بـه فی باب التزاحم ، وفی دوران الأمر بین المحذورین لیس کذلک ، لعدم‏‎ ‎‏ثبوت الملاک فی کلّ من طرفی الفعل والترک‏‎[1]‎‏ .‏

‏ففیـه ـ مضافاً إلی أنّ ذلک مجرّد دعوی لا یساعده بیّنـة ولا برهان ، لعدم‏‎ ‎

کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 68
‏نهوض دلیل علی اختصاص مورد التخیـیر العقلی بذلک ـ أنّ هذا منقوض بما إذا‏‎ ‎‏اضطرّ المکلّف إلی طرف غیر معیّن من أطراف العلم الإجمالی بخمریّـة هذا‏‎ ‎‏المائع‏‎ ‎‏أو مائع آخر مورد للابتلاء مثلاً ، فإنّـه لا خفاء فی أنّ العقل یحکم بالتخیـیر‏‎ ‎‏لرفع‏‎ ‎‏الاضطرار مع عدم ثبوت الملاک فی جمیع الأطراف ، فتدبّر .‏

‏وممّا ذکرنا یظهر الخلل فیما أفاده المحقّق العراقی ـ علی ما فی التقریرات ـ‏‎ ‎‏من أنّ الحکم التخیـیری شرعیّاً کان کما فی باب الخصال ، أو عقلیّاً کما فی‏‎ ‎‏المتزاحمین إنّما یکون فی مورد یکون المکلّف قادراً علی المخالفـة بترک کلا‏‎ ‎‏طرفی التخیـیر فکان الأمر التخیـیری باعثاً علی الإتیان بأحدهما وعدم ترکهما‏‎ ‎‏معاً ، لا فی مثل المقام الذی هو من التخیـیر بین النقیضین‏‎[2]‎‏ .‏

‏وجـه ذلک : أنّ مرجع هذا الکلام إلی دعوی کون مورد التخیـیر هو غیر‏‎ ‎‏مورد ‏‏دوران الأمر بین المحذورین ، وهو مصادرة واضحـة ، کما لایخفی .‏

‏هذا کلّـه بالنسبـة إلی ‏أصالـة التخیـیر‏ ، وقد عرفت جریانها فی المقام .‏

وأمّا البراءة العقلیّـة‏ : فالظاهر أیضاً جریانها ، لأنّ جنس التکلیف وهو‏‎ ‎‏الإلزام وإن کان معلوماً تفصیلاً ، إلاّ أنّ خصوصیّـة الوجوب والتحریم مجهولـة ،‏‎ ‎‏فیقبح العقاب علیها بعد عدم ثبوت حجّـة علی الخصوصیـة من قبل المولی ،‏‎ ‎‏فالعقاب علی نوع التکلیف قبیح ؛ لحکم العقل بقبح العقاب بلا بیان ، وعلی جنسـه‏‎ ‎‏أیضاً قبیح ؛ لعدم القدرة علی الامتثال ، هذا .‏

‏ویظهر من جماعـة من المحقّقین عدم جریان البراءة العقلیّـة لوجوه :‏

منها‏ : ما أفادة المحقّق الخراسانی فی الکفایـة من أنّـه لا مجال هاهنا‏‎ ‎


کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 69
‏لقاعدة‏‎ ‎‏قبح العقاب بلا بیان ، فإنّـه لا قصور فیـه هاهنا ، وإنّما یکون عدم تنجّز‏‎ ‎‏التکلیف لعدم‏‎ ‎‏التمکّن من الموافقـة القطعیـة کمخالفتها ، والموافقـة الاحتمالیـة‏‎ ‎‏حاصلـة لا‏‎ ‎‏محالـة ، کما لایخفی‏‎[3]‎‏ .‏

ومنها‏ : ما فی التقریرات المنسوبـة إلی المحقّق النائینی ‏‏قدس سره‏‏ من أنّ مدرک‏‎ ‎‏البراءة العقلیّـة قبح العقاب بلا بیان ، وفی باب دوران الأمر بین المحذورین یقطع‏‎ ‎‏بعدم العقاب لأنّ وجود العلم الإجمالی کعدمـه لا یقتضی التنجیز والتأثیر ، فالقطع‏‎ ‎‏بالمؤمّن حاصل بنفسـه بلا حاجـة إلی حکم العقل بقبح العقاب بلا بیان‏‎[4]‎‏ .‏

ومنها‏ : ما أفاده المحقّق العراقی علی ما فی تقریراتـه ممّا ملخّصـه : أنّ مع‏‎ ‎‏حصول الترخیص فی الرتبـة السابقـة عن جریان البراءة بحکم العقل بالتخیـیر‏‎ ‎‏بین الفعل والترک لا یبقی مجال لجریان أدلّـة البراءة العقلیّـة والشرعیّـة ، هذا‏‎[5]‎‏ .‏

‏ولا یخفی ما فی جمیع هذه الوجوه من الخلل والضعف .‏

‏أمّا الوجـه الأوّل : فلأنّ المراد بعدم قصور فی البیان إن کان هو عدم‏‎ ‎‏القصور بالنسبـة إلی جنس التکلیف فواضح ، ونحن أیضاً نقول بـه ، ولکن ذلک لا‏‎ ‎‏ینافی قصوره بالنسبـة إلی نوع التکلیف . وإن کان المراد بـه هو عدم القصور‏‎ ‎‏بملاحظـة النوع أیضاً فنحن نمنع ذلک ، کیف وخصوصیّـة الوجوب والحرمـة‏‎ ‎‏مجهولـة ، فالحکم بنفی العقاب علیها متوقّف علی إجراء قاعدة قبح العقاب بلا‏‎ ‎‏بیان ، وبدونها لا مجال لهذا الحکم أصلاً ، کما لایخفی .‏


کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 70
‏وأمّا الوجـه الثانی : فلأنّ القطع بعدم العقاب وبوجود المؤمّن ممّا لا یحصل‏‎ ‎‏لو‏‎ ‎‏اُغمض النظر عن حکم العقل بقبح العقاب بلا بیان ، ومجرّد سقوط العلم‏‎ ‎‏الإجمالی‏‎ ‎‏عن التنجیز والتأثیر وصیرورة وجوده کعدمـه لا یجدی ما لم ینضمّ إلیـه‏‎ ‎‏القاعدة ،‏‎ ‎‏کیف ولو فرض جواز العقوبـة علی خصوصیّـة الوجوب مثلاً ولو کانت‏‎ ‎‏مجهولـة‏‎ ‎‏فمن أین یقطع بعدم العقاب ووجود المؤمّن حینئذٍ ، فهذا القطع إنّما هو‏‎ ‎‏بملاحظـة‏‎ ‎‏هذه القاعدة .‏

‏وأمّا الوجـه الثالث : فلأنّ الحکم بتأخّر رتبـة أدلّـة البراءة عن حکم العقل‏‎ ‎‏بالتخیـیر بین الفعل والترک ممنوع جدّاً ، فإنّ الحکم بالتخیـیر إنّما هو بعد ثبوت‏‎ ‎‏قبح العقاب علی خصوصیّـة الوجوب والحرمـة ، لأنّـه لو فرض إمکان العقوبـة‏‎ ‎‏علی التکلیف الوجوبی مثلاً وإن کان مجهولاً لا یحکم العقل بالتخیـیر ، فحکمـه‏‎ ‎‏بـه إنّما هو بعد ملاحظـة عدم ثبوت البیان علی الخصوصیـة وعدم جواز العقوبـة‏‎ ‎‏علیها کما عرفت ، هذا .‏

‎ ‎

کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 71

  • )) فوائد الاُصول ( تقریرات المحقّق النائینی ) الکاظمی 3 : 444 .
  • )) نهایـة الأفکار 3 : 293 .
  • )) کفایـة الاُصول : 405 .
  • )) فوائد الاُصول ( تقریرات المحقّق النائینی ) الکاظمی 3 : 448 .
  • )) نهایـة الأفکار 3 : 293 .