حکم ما لو تعلّق الأمر أو النهی بالطبیعة علی نحو العامّ الاستغراقی
فإذا تعلّق الأمر أو النهی بالطبیعـة علی نحو العامّ الاستغراقی ، کما لو تعلّق وجوب الإکرام بکلّ فرد من العلماء ، فهل المرجع فی الشبهات الموضوعیّـة هی البراءة أو الاشتغال ؟ قد یقال بالثانی ؛ نظراً إلی أنّ البیان مـن قبل المولی تامّ
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 34
لا نقص فیـه ؛ لأنّـه لیس علیـه إلاّ بیان الکبریات ، والمفروض العلم بها .
ولکنّ الحقّ هو جریان البراءة ؛ لأنّـه وإن لم یکن علی المولی إلاّ بیان الکبریات ، إلاّ أنّ العلم بها لا یکون بمجرّده حجّـة علی العبد بالنسبـة إلی الفرد المشکوک .
وتوضیح جریان البراءة فی مثل المقام ممّا کـان الحکم متعلّقاً بالطبیعـة علی نحـو العامّ الاستغراقی أن یقال : إنّ مثل کلمـة « کـلِّ» المأخـوذ فی الموضوع إنّما یکون عنواناً إجمالیّاً مشیراً إلی جمیع أفراد مدخولـه ، فهو بمنزلـة ما لو تعرّض لذکر جمیعها واحداً بعد واحد ، ولا یکون الغرض تحصیل هـذا العنوان بحیث یکون المطلوب هو إکرام کلّ عالم بهذا العنوان الإجمالی ، بل الغرض إنّما هـو إکرام کلّ فـرد علی سبیل الاستقلال ، وحینئذٍ فلو شکّ فی فرد أنّـه عالم أم لا فمرجعـه إلی الشکّ فی تعلّق الوجوب بإکرامـه ، وهو مجری البراءة . وهذا بخلاف ما لو کان الحکم متعلّقاً بالطبیعـة علی نحو العامّ المجموعی ؛ فإنّ المطلوب فیها هو إکرام المجموع بما هو مجموع ، ولذا لا یکون لـه إلاّ إطاعـة واحدة وعصیان واحد ، فإذا شکّ فی أنّ هذا الفرد عامّ أم لا ، فلا یجوز إجراء البراءة ؛ لأنّ مع إجرائها یشکّ فی حصول غرض المولی وسقوط الأمر ، وسیأتی توضیحـه .
وبالجملـة : بعدما عرفت من أنّ الأمر فی العامّ الاستغراقی ینحلّ إلی أوامر متعدّدة ، لعدم کون عنوان الکلّ المأخوذ فی الموضوع مقصوداً بذاتـه لا یبقی إشکال فی جریان البراءة فی الشبهات الموضوعیـة .
إن قلت : بناء علی ما ذکر ـ من عدم کون العلم بالکبری بمجرّده حجّـة ما لم ینضمّ إلیـه العلم بالصغری ـ لا یبقی مجال للقول بعدم جواز التمسّک بالعامّ فی
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 35
الشبهـة المصداقیّـة للمخصّص ؛ لوضوح أنّـه بعد ما لم یکن المخصّص حجّـة بالنسبـة إلیـه فلم لا یجـوز التمسّک بالعـامّ بعـد کونـه حجّـة بالنسبـة إلـی الأفراد المعلومـة التی تکون الشبهـة المصـداقیّـة للمخصص مـن جملتها قطعـاً ، کما لا یخفی ؟
قلت : الوجـه فی ذلک هو أنّ التمسّک بالعامّ وحجّیتـه یتوقّف علی اُصول عقلائیـة التی من جملتها أصالـة تطابق الإرادة الاستعمالیـة مع الإرادة الجدّیـة .
ومن الواضح أنّ هذا الأصل العقلائی ما لم یکن العامّ مخصّصاً قطعاً أو احتمالاً یکون متّبعاً بالنسبـة إلی جمیع أفراد العامِّ، وأمّا بعد عروض التخصیص قطعاً فلا محالـة یکون مقصوراً بغیر مورد الخاصِّ.
وبعبارة اُخری : التخصیص وإن لم یکن موجباً لتعنون العامّ بعنوان غیر الخاصّ حتّی تکون الشبهـة المصداقیّـة للمخصّص شبهـة مصداقیّـة للعامّ أیضاً ، إلاّ أنّـه یوجب قصر مورد قاعدة التطابق علی غیر مورد الخاصِّ. وحینئذٍ فبعد عدم جواز التمسّک بالخاصّ لا یجوز التمسّک بالعامّ أیضاً ، لأنّـه وإن کان بعمومـه یشمل الفرد المشکوک ، إلاّ أنّـه بالمقدار الذی یجوز التمسّک بـه ویکون حجّـة ، لا یعلم شمولـه فلا یکون حجّـة .
ولبعض المحقّقین من المعاصرین وجـه آخر فی تقریب جریان البراءة فیها ، قال علی ما فی تقریرات بحثـه ما حاصلـه : إنّ الخطاب کما لا یمکن أن یکون فعلیّاً إلاّ بعد وجود المکلّف ، کذلک لا یمکن أن یکون فعلیّاً إلاّ بعد وجود الموضوع ، والسرّ فی ذلک أنّ التکالیف الشرعیّـة إنّما تکون علی نهج القضایا الحقیقیـة التی تنحلّ إلی قضیـة شرطیّـة مقدّمها وجود الموضوع وتالیها عنوان المحمول ، فلابدّ من فرض وجود الموضوع فی ترتّب المحمول ، فمع الشکّ فی
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 36
وجوده یشکّ فی فعلیّتـه ، ومع الشکّ فیها یکون المرجع هی البراءة .
هذا ، ولکن ما أفاده من أنّ القضایا الحقیقیـة تنحلّ إلی القضایا الشرطیـة فی غیر محلّـه ، لأنّ القضایا الحقیقیـة قضایا بتیّـة ، کالقضایا الخارجیـة ، بلا فرق بینهما من هذه الجهـة أصلاً .
غایـة الأمر أنّ الحکم فی القضایا الحقیقیـة إنّما یکون علی الطبیعـة بوجودها الساری أعمّ من الأفراد المحقّقـة والمقدّرة ، وفی القضایا الخارجیّـة یکون مقصوراً علی خصوص الأفراد الموجودة .
وبالجملـة فقولنا : کلّ نار حارّة ، یکون الحکم بالحرارة فیـه حکماً بتّیاً ثابتاً لجمیع أفراد طبیعـة النار ، ولا یکون حکماً مشروطاً بوجوده ، کیف ولو کان الحکم فی مثلـه مشروطاً بوجود الموضوع لکان اللازم فی مثل ما إذا کان المحمول من لوازم ماهیّـة الموضوع ، کقولنا : الأربعـة زوج أن یکون ترتّب الزوجیـة علی الأربعـة مشروطاً بوجودها ، مع أنّ المفروض کونها من لوازم الماهیّـة التی مرجعها إلی ثبوتها لنفس الماهیّـة مع قطع النظر عن الوجودین ، بحیث لو فرض لها تقرّر وثبوت فی غیر عالم الوجودین لکانت تلزمها .
وبالجملـة : فمعنی القضیّـة الشرطیـة هو کون الشرط فیها دخیلاً فی ثبوت المحمول وترتّبـه علی الموضوع ، مـع أنّ القضایا الحقیقیـة لا یکون کلّها کـذلک کما عرفت .
فالحقّ أنّ القضایا الحقیقیـة قضایا بتّیـة غیر مشروطـة ، ولذا جعلها المنطقیون من الحملیّات التی تکون قسیماً للشرطیّات .
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 37
نعم لا شبهـة فی أنّ الحکم ما لم یتحقّق موضوعـه لا یثبت ، ولیس ذلک لاشتراطـه بوجود الموضوع ، بل لأنّ الموضوع ما لم یوجد لا یکون موضوعاً ، فإنّ النار ما لم تـتحقّق فی الخارج لا تکون ناراً ، والحکم بالحرارة معلّق علی النار وحینئذٍ فمع الشکّ فی وجود الموضوع لا یکون الحکم مترتّباً ولا یکون حجّـة علی العبد ، لأنّ العلم بالکبری بمجرّده لا یکون حجّـة ما لم ینضمّ إلیـه العلم بالصغری کما عرفت ، لا لأجل الشکّ فی وجود الشرط المستلزم للشکّ فی المشروط وهو فعلیّـة الحکم .
وکیف کان : فالتحقیق فی تقریب جریان البراءة فی الشبهات الموضوعیـة ما ذکرنا .
هذا کلّـه فیما لو کان متعلّق الحکم مأخوذاً بنحو العامّ الاستغراقی .
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 38