مفاد أخبار من بلغ

مفاد أخبار من بلغ

‏ ‏

‏وإذا انتهی الکلام إلی ذکر أخبار من بلغ فینبغی التعرّض لبیان مفادها ،‏‎ ‎‏فنقول :‏‎ ‎‏ذکر المحقّق الخراسانی ‏‏قدس سره‏‏ فی الکفایـة : أنّـه لا یبعد أن یقال بدلالـة بعض‏‎ ‎‏تلک‏‎ ‎‏الأخبار علی استحباب ما بلغ علیـه الثواب ، فإنّ صحیحـة هشام بن سالم‏‎ ‎‏المحکیّـة عن المحاسن عن أبی عبداللّٰه ‏‏علیه السلام‏‏ قال : « ‏من بلغـه عن النبی ‏صلی الله علیه و آله وسلم‏‎ ‎‏شیء من ‏الثواب فعملـه کان أجر ذلک لـه وإن کان رسول‏ ال‏لّٰه ‏صلی الله علیه و آله وسلم‏‏ لم یقلـه »‏‎[1]‎‏ ‏‎ ‎‏ظاهرة فی أنّ الأجر کان مترتّباً علی نفس العمل الذی بلغـه عنـه ‏‏صلی الله علیه و آله وسلم‏‏ أنّـه ذو‏‎ ‎‏ثواب ، وکون العمل متفرّعاً علی البلوغ وکونـه الداعی إلی العمل غیر موجب لأن‏‎ ‎‏یکون الثواب مترتّباً علیـه فیما إذا أتی برجاء أنّـه مأمور بـه وبعنوان الاحتیاط‏‎ ‎‏بداهـة أنّ الداعی إلی العمل لا یوجب لـه وجهاً وعنواناً یؤتی بـه بذلک الوجـه‏‎ ‎‏والعنوان ، وإتیان العمل بداعی طلب قول النبی ‏‏صلی الله علیه و آله وسلم‏‏ کما قیّد بـه فی بعض‏‎ ‎‏الأخبار وإن کان انقیاداً ، إلاّ أنّ الثواب فی الصحیحـة إنّما رتّب علی نفس العمل ،‏‎ ‎‏ولا موجب لتقیـیدها بـه ، لعدم المنافاة بینهما‏‎[2]‎‏ ، انتهی .‏

‏وأفاد المحقّق النائینی علی ما فی تقریرات بحثـه ما ملخّصـه : إنّ الوجوه‏‎ ‎‏المحتملـة فی هذه الأخبار من حیث الدلالـة ثلاثـة :‏

أحدها‏ : أن یکون مفادها مجرّد الإخبار عن فضل اللّٰه سبحانـه من غیر نظر‏‎ ‎


کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 27
‏إلی حال العمل وأنّـه علی أیّ وجـه یقع . وبعبارة اُخری : أنّها ناظرة إلی العمل بعد‏‎ ‎‏وقوعـه وأنّ اللّٰه تعالی حسب فضلـه ورحمتـه یعطی الثواب الذی بلغ العامل وإن‏‎ ‎‏تخلّف قول المبلّغ عن الواقع .‏

ثانیها‏ : أن تکون الجملـة الخبریّـة بمعنی الإنشاء ، ویکون مفاد قولـه ‏‏علیه السلام‏‏ :‏‎ ‎‏« ‏فعملـه‏ » أو « ‏ففعلـه‏ » الأمر بالفعل والعمل ، کما هو الشأن فی غالب الجمل‏‎ ‎‏الخبریّـة الواردة فی بیان الأحکام ، سواء کانت بصیغـة الماضی کقولـه ‏‏علیه السلام‏‏ : « من‏‎ ‎‏سرّح لحیتـه فلـه کذا »‏‎[3]‎‏ ، أو بصیغـة المضارع کقولـه : « ‏یسجد سجدتی‎ ‎السهو‏ »‏‎[4]‎‏ ، وعلیـه فمقتضی إطلاق البلوغ القول باستحباب العمل مطلقاً ، سواء‏‎ ‎‏کان قول المبلّغ واجداً لشرائط الحجّیـة أو لم یکن ، وهذا ـ أی کون الجملـة‏‎ ‎‏الخبریّـة بمعنی الإنشاء وأنّها فی مقام بیان استحباب العمل ـ یمکن أن یکون علی‏‎ ‎‏أحد وجهین :‏

‏أحدهما : أن تکون القضیّـة مسوقـة لبیان اعتبار قـول المبلغ وحجّیتـه ،‏‎ ‎‏سواء‏‎ ‎‏کان واجداً لشرائط الحجّیـة أو لم یکن ، کما هو ظاهـر الإطلاق ، فیکون‏‎ ‎‏مفاد‏‎ ‎‏الأخبار مسألـة اُصولیّـة مرجعها إلی حجّیـة الخبر الضعیف فی باب‏‎ ‎‏المستحبّات .‏‎ ‎‏ففی الحقیقـة تکون أخبار مـن بلغ مخصّصـة لما دلّ علی اعتبار‏‎ ‎‏الوثاقـة أو‏‎ ‎‏العدالـة فی الخبر وأنّها تختص بالخبر القائم علی وجوب الشیء ،‏‎ ‎


کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 28
‏ولا یعمّ الخبر‏‎ ‎‏القائم علی الاستحباب .‏

فإن قلت‏ : کیف تکون أخبار من بلغ مخصّصـة لما دلّ علی اعتبار الشرائط‏‎ ‎‏فی حجّیـة الخبر ، مع أنّ النسبـة بینهما العموم من وجـه ، حیث إنّ ما دلّ علی‏‎ ‎‏اعتبار‏‎ ‎‏الشرائط یعمّ الخبر القائم علی الوجوب وعلی الاستحباب ، وأخبار من بلغ‏‎ ‎‏وإن‏‎ ‎‏کانت تختصّ بالخبر القائم علی الاستحباب ، إلاّ أنّـه أعمّ من أن یکون واجداً‏‎ ‎‏للشرائط وفاقداً لها ، ففی الخبر القائم علی الاستحباب الفاقد للشرائط یقع‏‎ ‎‏التعارض ، ولا وجـه لتقدیم أخبار من بلغ .‏

قلت‏ : ـ مع أنّـه یمکن أن یقال : إنّ أخبار من بلغ ناظرة إلی إلغاء الشرائط‏‎ ‎‏فی الأخبار القائمـة علی المستحبّات فتکون حاکمـة علی ما دلّ علی اعتبار‏‎ ‎‏الشرائط فی أخبار الآحاد ، وفی الحکومـة لا تلاحظ النسبـة ـ إنّ الترجیح‏‎ ‎‏لأخبار من بلغ ؛ لعمل المشهور بها ، مع أنّـه لو قدّم ما دلّ علی اعتبار الشرائط فی‏‎ ‎‏مطلق الأخبار لم یبق لأخبار من بلغ مورد ، بخلاف ما لو قدّمت أخبار من بلغ ،‏‎ ‎‏وهذا الوجـه ـ أی الوجـه الثانی ـ أقرب کما علیـه المشهور‏‎[5]‎‏ ، انتهی ملخّص‏‎ ‎‏موضع الحاجـة من کلامـه ‏‏قدس سره‏‏ .‏

‏وفیـه وجوه من النظر :‏

أمّا أوّلاً‏ : فلأنّ جعل أخبار من بلغ مخصّصـة أو معارضـة لما دلّ علی اعتبار‏‎ ‎‏الشرائط فی أخبار الآحاد ممّا لا وجـه لـه ، بعد کون کلّ منهما مثبتاً ، فإنّ ما دلّ‏‎ ‎‏علی اعتبار خبر الثقـة مطلقاً لا ینفی ما یدلّ علی اعتبار الخبر مطلقاً فی باب‏‎ ‎‏المستحبّات ولا مضادّة بینهما حتّی یجعل الثانی مخصّصاً أو معارضاً . نعم فی بعض‏‎ ‎


کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 29
‏أدلّـة اعتبار خبر الثقـة ما یشعر بعدم حجّیـة قول الفاسق کآیـة النبأ ، ولکنّـه کما‏‎ ‎‏عرفت لا یخلو من المناقشـة .‏

وثانیاً‏ : فإنّـه لو سلّم التعارض فجعل أخبار من بلغ حاکمـة علی ما یدلّ‏‎ ‎‏علی‏‎ ‎‏اعتبار الشرائط فی الخبر الواحد ممّا لا وجـه لـه ، فإنّ ملاک الحکومـة أن‏‎ ‎‏یکون‏‎ ‎‏الدلیل الحاکم ناظراً إلی الدلیل المحکوم ومتعرّضاً لحالـه من حیث السعـة‏‎ ‎‏والضیق‏‎ ‎‏وهذا الملاک مفقود فی المقام ، فإنّ غایـة ما یدلّ علیـه أخبار من بلغ بناءً‏‎ ‎‏علی هذا‏‎ ‎‏القول هو بیان حجّیـة الخبر مطلقاً فی المستحبّات . وأمّا کونها ناظرة إلی‏‎ ‎‏تلک‏‎ ‎‏الطائفـة ومفسّرة لها فلا یظهر منها أصلاً ، کما لایخفی .‏

وثالثاً‏ : فما أفاد من أنّـه لو قدّم ما دلّ علی اعتبار الشرائط فی مطلق الخبر‏‎ ‎‏لم یبق لأخبار من بلغ مورد ، محلّ نظر ؛ لأنّ هذه الأخبار کما اعترف  ‏‏قدس سره‏‏ تکون‏‎ ‎‏شاملـة بإطلاقها لخبر الثقـة وغیرها وإخراج الثانی من تحتها لا یوجب أن‏‎ ‎‏لا یکون لها مورد بعد بقاء الأوّل مشمولاً لها ، ولا یلزم أن یکون المورد الباقی‏‎ ‎‏مختصّاً بهذه الأخبار ، مع أنّ جعل ذلک مـن المرجّحات ممّا لا دلیل علیـه ، فإنّـه‏‎ ‎‏لم یذکر فی باب التراجیح أنّ من جملـة المرجّحات خلوّ الدلیل الراجح عن‏‎ ‎‏المورد ، کما لایخفی .‏

‏والأظهر فی بیان مفاد أخبار من بلغ أن یقال : إنّها بصدد جعل الثواب لمن‏‎ ‎‏بلغـه ثواب علی عمل ، فعملـه رجاء إدراک ذلک الثواب ، نظیر الجعل فی باب‏‎ ‎‏الجعالـة والغرض من هذا الجعل التحریص والترغیب علی إتیان مؤدّیات‏‎ ‎‏الأخبار‏‎ ‎‏الواردة فی السنن ، لئلاّ تفوت السنن الواقعیـة والمستحبّات النفس‏‎ ‎‏الأمریّـة ،‏‎ ‎‏فالغرض منـه هو التحفّظ علیها بالإتیان بکلّ ما یحتمل کونـه سنّـة ،‏‎ ‎‏سواء کان بلغ‏‎ ‎‏استحبابـه بسند معتبر أو غیره .‏


کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 30
‏وحینئذٍ : فلا یستفاد من هذه الأخبار استحباب العمل الذی بلغ استحبابـه‏‎ ‎‏مطلقاً ، بحیث کان ترتّب الثواب علیـه لخصوصیـة فی نفس العمل ومزیّـة فیـه‏‎ ‎‏مقتضیـة لـه ، بل مفادها مجرّد جعل الثواب علیـه تفضّلاً لأجل التحفّظ علی‏‎ ‎‏المستحبّات التی تکون فیها خصوصیـة راجحـة ویکون ترتّب الثواب علیها‏‎ ‎‏لأجلها . فهذه الأخبار نظیر الأخبار الدالّـة علی ترتّب الثواب علی المشی إلی‏‎ ‎‏الحجّ‏‎[6]‎‏ أو زیارة قبر أبی عبداللّٰه الحسین ‏‏علیه السلام‏‎[7]‎‏ ؛ فإنّ المشی إنّما یکون مقدّمـة ،‏‎ ‎‏والمقدّمـة لا تکون راجحـة ذاتاً محبوبةً بنفسها ، ولکن جعل الثواب علیها إنّما هو‏‎ ‎‏لأجل الحثّ والتحریک علی ذی المقدّمـة ، کما لایخفی .‏

‏ومن هنا یظهر الخلل فیما أفاده المحقّق الخراسانی ‏‏قدس سره‏‏فی الکفایـة ممّا‏‎ ‎‏تقدّم نقلـه ، فتدبّر جیّداً .‏

‎ ‎

کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 31

  • )) المحاسن : 25 / 2 ، وسائل الشیعـة 1 : 81 ، کتاب الطهارة ، أبواب مقدّمـة العبادات ، الباب 18 ، الحدیث 3 .
  • )) کفایـة الاُصول : 401
  • )) هذا نصّ الروایـة : عن أبی عبداللّٰه علیه السلام ، قال : « من سرّح لحیتـه سبعین مرّة وعدّها مرّة مرّة لم یقربـه الشیطان أربعین یوماً » . الکافی 6 : 489 / 10 ، وسائل الشیعـة 2 : 126 ، کتاب الطهارة ، أبواب آداب الحمام ، الباب 76 ، الحدیث 1 .
  • )) تهذیب الأحکام 2 : 354 / 1466 ، وسائل الشیعـة 8 : 203 ، کتاب الصلاة ، أبواب الخلل الواقع فی الصلاة ، الباب 3 ، الحدیث 14 .
  • )) فوائد الاُصول ( تقریرات المحقّق النائینی ) الکاظمی 3 : 409 ـ 414 .
  • )) راجع وسائل الشیعـة 11 : 78 ، کتاب الحج ، أبواب وجوبـه وشرائطـه ، الباب 32 .
  • )) راجع وسائل الشیعـة 14 : 439 ، کتاب الحج ، أبواب المزار ، الباب 41 .