تصحیح الاحتیاط فی العبادات بالأمر المتعلّق بنفس الاحتیاط
ثمّ إنّـه لو قیل بعدم إمکان الاحتیاط فی العبادات فی الشبهات البدویّـة ؛ لاحتیاج ذلک إلی ثبوت الأمر من ناحیـة المولی ، فهل یمکن تصحیح ذلک بالأمر المتعلّق بنفس الاحتیاط فی مثل قولـه علیه السلام : « أخوک دینک فاحتط لدینک » ؟
قد یقال : نعم . ولکنّ التحقیق العدم ؛ لأنّ شمول مثل ذلک القول للعبادات
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 22
فی الشبهات البدویّـة متفرّع علی إمکان الاحتیاط فیها ؛ لأنّ شمول الحکم فرع تحقّق موضوعـه ، فإثبات إمکان الاحتیاط فیها بمثل ذلک القول دور واضح ، کمالایخفی .
نعم ، قد یقال فی توجیـه ذلک بأنّ الأمر بالاحتیاط قد تعلّق بذات العمل الذی یحتمل وجوبـه ، لا بالعمل بقید أنّـه محتمل الوجوب بحیث یکون احتمال الوجوب قیداً فی المأمور بـه ، بل متعلّق الأمر نفس العمل الذی یحتمل وجوبـه ، فإن کان توصّلیاً ، یکفی الإتیان بـه بلا قصد الأمر المتعلّق بـه ، وإن کان عبادیّاً ـ أی کان بحیث لو تعلّق الأمر بـه لکان أمره عبادیّاً ـ فلابدّ من قصد الأمر الذی تعلّق بـه وهو الأمر بالاحتیاط الذی فرض تعلّقـه بذات العمل ، فینوی التقرّب بـه ویقصد امتثالـه .
هذا ، ولکن لایخفی أنّ الأمر المتعلّق بالاحتیاط إنّما تعلّق بعنوان الاحتیاط ، ولا یعقل أن یتجاوز عنـه ویسری إلی ذات العمل الذی لـه عنوان آخر کالصلاة ونظائرها ، ومجرّد أنّ تحقّق هذا العنوان فی الخارج إنّما هو بإیجاد ذلک العنوان لا یوجب سرایـة الأمر إلیـه بعد وضوح تغایرهما فی عالم المفهومیّـة وعدم کون الخارج ظرفاً لتعلّق الأمر وثبوتـه ، وقد حقّقنا ذلک بما لا مزید علیـه فی مبحث اجتماع الأمر والنهی فراجع .
ثمّ إنّ المحقّق النائینی أجاب عن هذا التوجیـه علی ما فی تقریرات بحثـه بما ملخّصـه : أنّ الأمر بالعمل إمّا أن یکون بنفسـه عبادیّاً ـ أی کان الغرض من الأمر التعبّد والتقرّب بـه ـ کالأمر المتعلّق بالصلاة ، وإمّا أن یکتسب العبادیّـة من أمر آخر لأجل اتّحاد متعلّقهما ، کوجوب الوفاء بالنذر ، فإنّ الأمر بالوفاء بالنذر
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 23
لا یکون عبادیّاً ، بل هو کسائر الأوامر التوصلیّـة ، ولکن لو تعلّق النذر بما یکون عبادة کنذر صلاة اللیل یکتسب الأمر بالوفاء بالنذر العبادیّـة من الأمر بصلاة اللیل ، کما أنّ الأمر بصلاة اللیل یکتسب الوجوب من الأمر بالوفاء .
والسرّ أنّ النذر إنّما یتعلّق بذات صلاة اللیل ، لا بها بما أنّها مستحبّـة ، وإلاّ کان النذر باطلاً ؛ لعدم القدرة علی وفائـه ، فإنّها تصیر بالنذر واجبـة ، فلابدّ وأن یتعلّق النذر بذات صلاة اللیل ، والأمر الاستحبابی أیضاً تعلّق بها لا بوصف کونها مستحبّـة ، کما هو واضح ، فیکون کلّ من الأمر الاستحبابی والأمر بالوفاء بالنذر قـد تعلّق بذات صلاة اللیل ، ولمکان اتحاد متعلّقهما یکتسب کـلّ منهما مـن الآخر ما کان فاقداً لـه ، هذا إذا اتّحد متعلّق الأمرین .
وأمّا إذا لم یتّحد فلا یکاد یمکن أن یکتسب أحـد الأمرین العبادیّـة مع کونـه فاقداً لها من الآخر الواجد لها ، کالأمر بالوفاء بالإجارة إذا کان متعلّق الإجارة أمراً عبادیّاً ، کما لو اُوجر الشخص علی الصلاة الواجبـة أو المستحبّـة علی الغیر ، فإنّ الأجیر إنّما یستأجر لتفریغ ذمّـة الغیر ، فالإجارة إنّما تـتعلّق بما فی ذمّـة المنوب عنـه ، ومـا فی ذمّـة المنوب عنـه إنّما هـی الصلاة الواجبـة أو المستحبّـة بوصف کونها واجبـة أو مستحبّـة ، فمتعلّق الإجارة إنّما تکون الصلاة بقید کونها مستحبّـة علی المنوب عنـه ، لا بذات الصلاة بما هی هی ، ومتعلّق الأمـر الاستحبابی إنّما هـو نفس الصلاة ، فلا یتّحد الأمـر الاستحبابی مع الأمـر الإجاری .
وکیف کـان : فقد عرفت أنّ الأمـر العبادی إمّا أن یکون بنفسـه عبادة ، وإمّا أن یکتسب العبادیّـة من أمر آخر ، والأوامر المتعلّقـة بالاحتیاط فاقدة لکلتا
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 24
الجهتین ، أمّا الجهـة الاُولی فواضح ، وأمّا الجهـة الثانیـة فلأنّ الأمر بالاحتیاط لم یتعلّق بذات العمل مرسلاً عن قید کونـه محتمل الوجوب ، بل التقیـید بذلک مأخوذ فی موضوع أوامر الاحتیاط ، وإلاّ لم یکن من الاحتیاط بشیء ، بخلاف الأمر المتعلّق بالعملالمحتاط فیـه ، فإنّـه علی تقدیر وجوده الواقعی إنّما تعلّق بذات العمل ، فلم یتّحد متعلّق الأمرین حتّی یکتسب الأمر بالاحتیاط العبادیّـة من الأمر المتعلّق بالعمل لو فرض أنّـه کان ممّا تعلّق الأمر العبادی بـه ، وقد عرفت أنّـه ما لم یتّحد متعلّق الأمر الغیر العبادی مع متعلّق الأمر العبادی لا یمکن أن یصیر الأمر الغیر العبادی عبادیاً ، انتهی ملخّصاً .
ولا یخفی ما فیـه ؛ فإنّ اکتساب الأمر الغیر العبادی العبادیّـة من الأمر العبادی نظراً إلی اتّحاد متعلّقهما ممّا لا نتصوّره بعد عدم إمکان اتّحاد متعلّق الأمرین ، فإنّـه کیف یعقل تعلّق إرادتین مستقلّتین بأمر واحد وشیء فارد . ولذا لو تعلّق أمران بطبیعـة واحدة لابدّ من جعل الأمر الثانی تأکیداً للأمر الأوّل لو لم یکن المقصود الإتیان بفردین منها ؛ لوضوح استحالـة أن یکون أمراً تأسیسیّاً ناشئاً من إرادة مستقلّـة ، فاتّحاد متعلّق الأمرین ممّا لا یعقل . وعلی تقدیر الإمکان فاکتساب الأمر الغیر العبادی العبادیّـة من الأمر الآخر العبادی ممّا لا وجـه لـه بعد کون کلّ من الأمرین لـه مبادئ مخصوصـة ومقدّمات خاصّـة بـه ، فإنّ مجرّد اتّحاد المتعلّق لا یوجب سرایـة العبادیّـة بعد عدم کون الأمر الناشئ من مقدّماتـه الخاصّـة بـه أمراً عبادیّاً کان الغرض التعبّد والتقرّب بـه .
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 25
هذا مضافاً إلی أنّ المثال الذی ذکره لاتّحاد متعلّق الأمرین لا یکون من هذا الباب ؛ فإنّ متعلّق الأمر النذری هو الوفاء بالنذر ، ومتعلّق الأمر الاستحبابی الذی تعلّق بالمنذور هی صلاة اللیل ، ولا خفاء فی کونهما متغایرین فی عالم المفهومیـة الذی هو ظرف تعلّق الأمر وثبوتـه ، ومجرّد اجتماعهما فی الخارج بوجود واحد لا یوجب اتّحادهما مفهوماً وصیرورتهما عنواناً واحداً حتّی یصحّ القول باتحاد متعلّقهما ، کما حقّقنا ذلک فی محلّـه .
فالتحقیق : أنّ صلاة اللیل إنّما تکون مستحبّـة ولو بعد تعلّق النذر ، والوفاء بالنذر یکون واجباً مطلقاً ، وبعد تغایر المتعلّقین لا یعقل سرایـة الوجوب من الثانی إلی الأوّل ، وکذا سرایـة العبادیّـة من الأوّل إلی الثانی ، فافهم واغتنم .
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 26