تحریر محلّ النزاع

تحریر محلّ النزاع

‏ ‏

لا یخفی :‏ أنّ کلماتهم فی تحریر محلّ النزاع مختلفة جدّاً :‏

‏فیظهر من بعضها أنّ النزاع فی تعلّقها بالفرد الخارجی الذی هو منشأ انتزاع‏‎ ‎‏الصور الذهنیة أو بالطبائع بما هی هی ، مع قطع النظر عن الوجودین‏‎[1]‎‏ .‏

‏ویردّه : أنّ الضرورة تقضی بامتناع کون الفرد الخارجی معروضاً للوجوب ؛‏‎ ‎‏لأنّه ظرف السقوط بوجه لا العروض ، فبعید جدّاً أن یقع النزاع فی شیء أحد شقّیه‏‎ ‎‏باطل بالضرورة .‏

‏کما یظهر من بعض آخر : أنّ المسألة لغویة ، والنزاع فی مفاد مادّة الأمر‏‎ ‎‏والنهی ، وأنّها وضعت للعناوین الکلّیة أو لأفرادها ، وتشبّث فی ذلک بالتبادر‏‎[2]‎‏ .‏


کتابت‍ه‍ذی‍ب الاص‍ول (ج.۱): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 487
‏وفیه : أنّ ذلک إعادة بلا عائدة ؛ إذ البحث عنه قد تقدّم مستوفی فی فصل‏‎ ‎‏المشتقّ‏‎[3]‎‏ ، علی أنّه نقل عن السکّاکی الإجماع علی أنّ المصادر الخالیة عن اللام‏‎ ‎‏والتنوین موضوعة للطبیعة اللابشرط‏‎[4]‎‏ .‏

‏والعجب من بعضهم ؛ حیث أبدی قولاً ثالثاً فقال : إنّ النزاع مبنی علی النزاع‏‎ ‎‏المعروف فی الفلسفة بأنّ الأصیل هو الوجود أو الماهیة ، أو علی نزاع آخر ؛ وهو‏‎ ‎‏أنّ الطبیعی هل له وجود فی الخارج أو لا ، فالمسألة عقلیة محضة أو مبتنیة‏‎ ‎‏علیها‏‎[5]‎‏ .‏

‏وفیه : أنّ البحث فی المقام إنّما هو فی الأوامر المتوجّهة إلی العرف ،‏‎ ‎‏المستبعدین عن المعارف والتحقیقات العلمیة ، فابتناء البحث العرفی علی المسائل‏‎ ‎‏الدقیقة بمراحل عن الواقع .‏

‏وهناک رأی رابع ؛ وهو أنّ البحث فی سرایة الإرادة إلی الخصوصیات‏‎ ‎‏اللاحقة بالطبیعة فی الخارج وعدمها ؛ معلّلاً بأنّ الطبیعة فی الخارج تلحقه قیود‏‎ ‎‏وتتعیّن بحدود لا مناص لها عنها ، فالبحث إنّما هو فی أنّ الواجب هل هو نفس‏‎ ‎‏الطبیعة ، أو هی مع کلّیات القیود ؛ من الزمان والمکان‏‎[6]‎‏ .‏

‏وفیه : أنّ هناک لیس میزاناً یعیّن ذلک ؛ إذ لو کان الغرض قائماً بنفس الطبیعة‏‎ ‎‏فلا وجه لتعلّق الأمر بقیودها ، وإن کان قائماً بإضافتها إلی الحدود الفردیة فلا محالة‏‎ ‎‏تسرّی الإرادة إلیها ، ویتعلّق الأمر بها .‏


کتابت‍ه‍ذی‍ب الاص‍ول (ج.۱): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 488
‏ثمّ إنّ محطّ البحث لیس فی تعلّقها بالکلّی الطبیعی أو أفراده بما هو‏‎ ‎‏المصطلح فی المنطق ؛ فإنّ الماهیات الاعتباریة ـ کالصلاة والحجّ ـ لیست من‏‎ ‎‏الکلّیات الطبیعیة ولا مصادیقها مصادیق الکلّی الطبیعی ؛ فإنّ الماهیات المخترعة‏‎ ‎‏وکذا أفرادها لیست موجودة فی الخارج ؛ لأنّ المرکّب الاختراعی ـ کالصلاة‏‎ ‎‏والحجّ ـ لم یکن تحت مقولة واحدة ، ولا یکون لمجموع الاُمور وجود حقیقی حتّی‏‎ ‎‏یکون مصداقاً لکلّی طبیعی . بل المراد من الطبیعی هنا هو العنوان الکلّی ؛ سواء کان‏‎ ‎‏من الطبائع الأصیلة أم لا .‏

‏ولا یختصّ البحث بصیغة الأمر والنهی ، بل یعمّ متعلّق مطلق الطلب والزجر‏‎ ‎‏بأیّ دالّ ؛ ولو بالإشارة أو بالجملة الإخباریة فی مقام الإنشاء .‏

‏والذی یصلح لأن یقع محطّ البحث ، ویظهره النظر فی کثیر من مقالاتهم : هو‏‎ ‎‏أنّ الأمر إذا تعلّق بماهیة بالمعنی المتقدّم هل یسری إلی الأفراد والمصادیق‏‎ ‎‏المتصوّرة بنحو الإجمال منها ؛ بحیث تکون الطبیعة وسیلة إلی تعلّقه بالمصادیق‏‎ ‎‏الملحوظة بنحو الإجمال ، لا بقید کون الأفراد ملحوظة ومتصوّرة ، بل نفس ذات‏‎ ‎‏الأفراد ، کما فی الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ .‏

‏فیکون معنی «صلّ» أوجد فرد الصلاة ومصداقها ، لا بمعنی أنّ الواجب هو‏‎ ‎‏الفرد الخارجی أو الذهنی بما هو کذلک ، بل ذات الفرد المتصوّر إجمالاً ؛ فإنّ الأفراد‏‎ ‎‏قابلة للتصوّر إجمالاً قبل وجودها ، کما أنّ الطبیعة قابلة للتصوّر کذلک .‏

إذا عرفت ذلک فنقول :‏ الحقّ أنّ متعلّق الحکم ـ بعثاً کان أو زجراً ـ هو نفس‏‎ ‎‏الکلّی والعنوان بما هو هو ، مع قطع النظر عن الوجودین والنشأتین ، لا مقیّداً‏‎ ‎‏بالوجود الذهنی ـ کما هو واضح ـ ولا بلحاظ اتّحاده مع المعنون فی الخارج ـ کما‏

کتابت‍ه‍ذی‍ب الاص‍ول (ج.۱): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 489
‏جنح إلیه بعض محقّقی العصر ‏‏رحمه الله‏‎[7]‎‏ إذ لحاظ الاتّحاد مرتبة حصول وجود المأمور‏‎ ‎‏به وحصول الغرض ، فلا معنی للحاظه عند البعث ، بل المأمور به هو نفس الکلّی‏‎ ‎‏وذات العنوان الذی إذا وجد فی الخارج یصیر منشأً للآثار .‏

‏والوجه فی ذلک : أنّ البعث الحقیقی لا یمکن أن یتعلّق بما هو أوسع أو‏‎ ‎‏أضیق ممّا هو دخیل فی الغرض ؛ للزوم تعلّق الإرادة والشوق بغیر المقصود أو به‏‎ ‎‏مع الزیادة جزافاً .‏

‏فإذا لم یکن للخصوصیات الفردیة دخالة فی غرض الآمر فلا یعقل البعث‏‎ ‎‏نحوها ـ ولو إلی العنوان الکلّی من الخصوصیات ـ لأنّ البعث تابع للإرادة‏‎ ‎‏التشریعیـة التابعة للمصالح ، وتعلّقها بما لا دخل له فی تحصیلها ممتنع ، کتعلّقها‏‎ ‎‏ابتداءً بأمر بلا غایة .‏

‏وتوهّم تعلّقها بها تبعاً لما هو من ملازمات المراد باطل ؛ لأنّه مع خروجه من‏‎ ‎‏محطّ البحث ـ لأنّ الکلام لیس فی استلزام إرادة لإرادة اُخری کباب المقدّمة ، بل‏‎ ‎‏فی متعلّق الأمر ـ قد فرغنا من بطلانه‏‎[8]‎‏ .‏

‏فإن قلت : إنّ الطبیعة بما هی هی غیر محبوبة ولا مبغوضة ولا متعلّقة للأمر‏‎ ‎‏والنهی ؛ إذ لیست إلاّ هی من حیث إنّها هی ، کما هو المراد من التعبیر المعروف‏‎ ‎‏بتأخیر قید الحیثیة عن السلب ، فکیف یتعلّق به الطلب ویعرض علیها الوجوب ؟ إن‏‎ ‎‏هذا إلاّ شیء عجاب .‏

‏قلت : معنی الکلمة الدارجة بین الأکابر هو أنّ الوجود والعدم والحبّ‏‎ ‎

کتابت‍ه‍ذی‍ب الاص‍ول (ج.۱): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 490
‏والبغض وغیرها لیس عین الطبیعی ولا جزئه ، بل هو فی حدّ الذات خالٍ عن‏‎ ‎‏هاتیک القیود عامّة ، وهذا لا ینافی أن یعرض علیها الوجود والعدم ، ویتعلّق بها‏‎ ‎‏الأمر والنهی .‏

‏وإن شئت قلت : إنّ سلب هذه المفاهیم عنها سلب بالحمل الأوّلی ؛ فإنّ مرتبة‏‎ ‎‏الماهیة مرتبة حدّ الشیء ، ولا یعقل فی هذه المرتبة أن یوجد فیها الوجود والعدم ،‏‎ ‎‏وإلاّ یصیر الوجود أو العدم جزء المفهوم أو عینه ، ویکون واجب الوجود أو ممتنعه‏‎ ‎‏بالذات ؛ إذ البحث عن ذاتیات الشیء وما به الشیء هو هو ، ولا یعقل أن یکون‏‎ ‎‏الوجود جزء ماهیة الممکن أو عینه ، وإلاّ لزم الانقلاب . نعم یعرضها الوجود‏‎ ‎‏والعدم ، وینطبق کلّ واحد علیها انطباقاً بالحمل الشائع العرضی . وقس علیهما‏‎ ‎‏إمکان تعلّق الأمر والنهی .‏

‏ولا یلزم من تعلّقهما علیها أن تکون هی منشأ للآثار ومحبوبة ومبغوضة ، بل‏‎ ‎‏المولی لمّا رأی أنّ الطبیعة فی الوجود الخارجی منشأ للأثر المطلوب فلا محالة‏‎ ‎‏یبعث العبد إلیها حتّی ینبعث ویوجدها خارجاً بالأمر ، فالأمر متعلّق بالطبیعة ؛‏‎ ‎‏لغرض انبعاث العبد وصیرورتها من اللیس إلی الأیس ، فتعلّق الأمر بالطبیعة طریق‏‎ ‎‏إلی حصول المطلوب والمحبوب ، وسیأتی توضیحه .‏

فتحصّل ممّا مرّ :‏ أنّ الطبیعة ـ أ یّة طبیعة کانت ـ لا یعقل أن تکون مرآة لشیء‏‎ ‎‏من الخصوصیات الفردیة اللاحقة لها فی الخارج ، وقد تقدّم أنّ مجرّد اتّحادها معها‏‎ ‎‏لا یوجب الکشف والدلالة ، فلا تکون نفس تصوّر الماهیة کافیة فی تصوّر‏‎ ‎‏الخصوصیات ، فلابدّ للآمر أن یتصوّرها مستقلاًّ بعنوانها أو بعنوان غیر عنوان‏‎ ‎‏الطبیعی ؛ ولو بالانتقال من الطبیعی إلیها ، ثمّ ینقدح إرادة اُخری متعلّقة بها مستقلاًّ غیر‏‎ ‎‏الإرادة المتعلّقة بنفس الطبیعة ، أو یتّسع الإرادة الاُولی من جهة المتعلّق ، وتتعلّق‏

کتابت‍ه‍ذی‍ب الاص‍ول (ج.۱): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 491
‏بوحدتها علی الطبیعة مع الخصوصیات الفردیة . ولکن الإرادة الثانیة أو توسّع‏‎ ‎‏الإرادة الاُولی جزاف محض ؛ لأنّ الغرض قائم بنفس العنوان لا مع قیوده ، فتدبّر .‏

وبتقریب آخر :‏ أنّ تصوّر الأفراد غیر تصوّر الطبیعة ؛ لأنّ القوّة التی تدرک‏‎ ‎‏الأفراد غیر القوّة التی تدرک الطبیعی ؛ لأنّ تصوّر الخاصّ الجزئی من شؤون القوی‏‎ ‎‏النازلة للنفس ، وتعقّل الطبیعة من شؤون القوی العاقلة ، بعد تجرید الخصوصیات .‏‎ ‎‏فربّما یتصوّر الأفراد مع الغفلة عن نفس الطبیعة وبالعکس .‏

‏فالآمر إذا أراد أن یوجّه الأمر إلی الطبیعة فلابدّ من لحاظها فی نفسها ، وإذا‏‎ ‎‏أراد الأمر بالأفراد لابدّ من لحاظها إمّا بعنوان عامّ إجمالی ؛ وهو مباین لعنوان‏‎ ‎‏الطبیعة فی العقل ، وإمّا بلحاظ الأفراد تفصیلاً لو أمکن إحضار الأفراد الکثیرة‏‎ ‎‏تفصیلاً فی الذهن ، ولکن لحاظها تفصیلاً غیر لحاظ الطبیعة أیضاً .‏

‏وحینئذٍ لو فرض أنّ ذات الطبیعة یترتّب علیها الأثر فی الوجود الخارجی‏‎ ‎‏فلابدّ للآمر من تصوّرها وتصوّر البعث إلیها وإرادته ، ففی هذا اللحاظ لا یکون‏‎ ‎‏الأفراد ملحوظة ؛ لا إجمالاً ولا تفصیلاً ولا ملازمة بین اللحاظین ، وصرف اتّحاد‏‎ ‎‏الخصوصیات الخارجیة مع الطبیعة خارجاً لا یوجب الملازمة العقلیة ، فلابدّ فی‏‎ ‎‏تعلّق الأمر بها من لحاظ مستأنف وإرادة مستأنفة ، ولکن مع ذلک یکون کلّ من‏‎ ‎‏البعث والإرادة جزافیاً بلا غایة ، فتدبّر .‏

‎ ‎

کتابت‍ه‍ذی‍ب الاص‍ول (ج.۱): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 492

  • )) الفصول الغرویة : 109 / السطر6 ، اُنظر کفایة الاُصول : 172 .
  • )) قوانین الاُصول 1 : 121 / السطر19 ، الفصول الغرویة : 107 / السطر37 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 173 ـ 176 .
  • )) مفتاح العلوم : 93 .
  • )) نهایة الدرایة 2 : 253 ـ 255 .
  • )) فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 1 : 417 .
  • )) نهایـة الأفکـار 1 : 380 ـ 381 ، بدائـع الأفکـار (تقریـرات المحقّـق العـراقی) الآملـی 1 : 404 و409 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 283 ـ 284 .