تصویر الأمر بالأهمّ و المهمّ بلا تشبث بالترتب

تصویر الأمر بالأهمّ والمهمّ بلا تشبث بالترتب

‏ ‏

الثالث :‏ ما حقّقناه فی هذا الباب وبنینا علیه واستفدنا منه فی أبواب اُخر ،‏‎ ‎‏سیوافیک ـ بإذن الله ـ وملخّصه : هو تصویر الأمر بالأهمّ والمهمّ فی عرض واحد ،‏‎ ‎‏بلا تقیید واحد منهما بالعصیان ، کما علیه القوم فی تصویر الأمر بالمهمّ ؛ حیث‏

کتابت‍ه‍ذی‍ب الاص‍ول (ج.۱): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 429
‏یقولون : إنّ الأمر به مترتّب علی عصیان أمر الأهمّ ، علی تفصیل سیمرّ بک بیانه‏‎ ‎‏وبیان بطلانه‏‎[1]‎‏ . ثمّ إنّ توضیح المختار یستدعی رسم مقدّمات :‏

‏ ‏

المقدّمة الاُولی :

‏ ‏

‏التحقیق ـ کما سیأتی‏‎[2]‎‏ ـ أنّ الأوامر متعلّقة بالطبائع ؛ لأنّ الغرض قائم بنفس‏‎ ‎‏الطبیعة ؛ بأیّ خصوصیة تشخّصت وفی ضمن أیّ فرد تحقّقت ، فلا معنی لإدخال‏‎ ‎‏أ یّة خصوصیة تحت الأمر بعد عدم دخالتها فی الغرض . علی أنّ الهیئة تدلّ علی‏‎ ‎‏البعث والمادّة علی الماهیة اللابشرط ، فلا دالّ علی الخصوصیات .‏

‏ ‏

المقدّمة الثانیة :

‏ ‏

‏أنّ الإطلاق ـ بعد فرض تمامیة مقدّماته ـ لیس معناه إلاّ کون الطبیعة تمام‏‎ ‎‏الموضوع للحکم بلا دخالة شیء آخر ، أو لیس إلاّ أنّ ما وقع تحت دائرة الطلب‏‎ ‎‏تمام الموضوع له ؛ هذا لیشمل ما إذا کان الموضوع جزئیاً .‏

‏وأمّا جعل الطبیعة مرآة لمصادیقها أو جعل الموضوع مرآة لحالاته فخارج‏‎ ‎‏من معنی الإطلاق وداخل تحت العموم ؛ أفرادیاً أو أحوالیاً .‏

‏وبالجملة : فرق بین قولنا «اعتق رقبة» وبین قولنا «اعتق کلّ رقبة» ؛ إذ الأوّل‏‎ ‎‏مطلق ؛ بمعنی أنّ تمام الموضوع هو الرقبة لیس غیر ، والثانی عموم ویدلّ علی‏‎ ‎‏وضع الحکم علی الأفراد بتوسیط العنوان الإجمالی الذی لوحظ مرآة إلیها .‏


کتابت‍ه‍ذی‍ب الاص‍ول (ج.۱): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 430
‏وسیجـیء فـی بابـه : أنّ العمـوم لایستغنی بـه عـن الإطـلاق الأحـوالی‏‎ ‎‏للأفراد ؛ لأنّ غایة ما یدلّ علیه العموم هو کون الأفراد محکوماً بالحکم ، وأمّا‏‎ ‎‏أنّ کلّ فرد تمام الموضوع للحکم بلا دخالة وصف آخر فلابدّ فیه من التمسّک‏‎ ‎‏بالإطلاق .‏

‏وبه یظهر : أنّ الغایة من الإطلاق غیر الغایة من العموم ، وأنّ تقسیم الإطلاق‏‎ ‎‏إلی الشمولی والبدلی وغیرهما فاسد جدّاً ؛ إذ لیس للإطلاق تعرّض لحیثیة سوی‏‎ ‎‏کون ما اُخذ موضوعاً تمام الموضوع ، وأمّا کون الحکم متعلّقاً بالفرد علی البدل أو‏‎ ‎‏لکلّ فرد أو للمجموع فلابدّ فی استفادة کلّ من ذلک من التمسّک بدوالّ لفظیة ؛ من‏‎ ‎‏لفظ «کلّ» أو «اللام» أو «بعض» أو غیرها .‏

‏والسرّ فی ذلک : أنّ الطبیعة لایمکن أن تکون حاکیة عن الأفراد ؛ وإن کانت‏‎ ‎‏متّحدة معها خارجاً ، بخلاف العموم ؛ فإنّ أداته وضعت لاستغراق أفراد المدخول ،‏‎ ‎‏فیتعلّق الحکم فیه بالأفراد المحکیة بعنوانی الکلّ والجمیع .‏

‏وأمّا ما عن بعضهم فی تصویر کون الوضع عامّاً والموضوع له خاصّاً من أنّ‏‎ ‎‏الطبیعة إذا لوحظت ساریة فی أفرادها تتّحد معها وتحکی عنها‏‎[3]‎‏ ، مخدوش بأنّ‏‎ ‎‏الاتّحاد غیر الحکایة التی تدور مدار الوضع والاعتبار ، والمفروض أنّ الملحوظ‏‎ ‎‏عند وضع الإنسان ـ مثلاً ـ نفس الماهیة اللابشرطیة ، فکیف یحکی هذا اللفظ عن‏‎ ‎‏الخصوصیات مع عدم وضع لها ؟‏

‏ولو کان الاتّحاد العینی کافیاً فی الحکایة لزم أن یحکی الجسم عن أعراضه .‏‎ ‎‏نعم الاتّحاد وجوداً یوجب الانتقال إلی الخصوصیة وهو غیر الحکایة ، کما ینتقل‏

کتابت‍ه‍ذی‍ب الاص‍ول (ج.۱): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 431
‏من تصوّر أحد الضدّین إلی الآخر ، بل هو من باب تداعی المعانی الذی منشؤه غالباً‏‎ ‎‏الموافاة الوجودیة أو المطاردة فی الموضوع . هذا قلیل من کثیر ، وغیض من غدیر ،‏‎ ‎‏وسیجیء تفصیل الکلام فی محلّه .‏

‏ ‏

المقدّمة الثالثة :

‏ ‏

‏أنّک قد عرفت‏‎[4]‎‏ أنّ الأوامـر المتعلّقة بالطبائع لاتعرّض لها علی أحوال‏‎ ‎‏الطبیعـة وأفرادها ، ومنه یظهر : أنّ التزاحمات الواقعة فی الخارج بین أفراد الطبائع‏‎ ‎‏بالعرض غیر ملحوظة فی تلک الأدلّة ؛ لأنّ الحکم مجعول علی العناوین الکلّیة ،‏‎ ‎‏وهو مقدّم علی التزاحم الواقع بین الأفراد برتبتین : رتبة تعلّق الحکم بالعناوین ،‏‎ ‎‏ورتبة فرض ابتلاء المکلّف بالواقعة ، وما له هذا الشأن من التقدّم لایتعرّض لحال ما‏‎ ‎‏یتأخّر عنه برتبتین .‏

والحاصل :‏ أنّ التزاحم بین وجوب إزالة النجاسة عن المسجد ووجوب‏‎ ‎‏الصلاة ـ حیث یتحقّق ـ متأخّر عن تعلّق الحکم بموضوعاتها وعن ابتلاء المکلّف‏‎ ‎‏بالواقعة المتزاحم فیها ، ولایکون الأدلّة متعرّضة لحاله ؛ فضلاً عن التعرّض‏‎ ‎‏لعلاجـه ؛ إذ قد تقدّم أنّ المطلق لایکون ناظراً إلی حالات الموضوع فی نفسه ؛‏‎ ‎‏فضلاً عن حالاته مع غیره ، وعن طروّ المزاحمة بینهما ؛ فضلاً عن أن یکون ناظراً‏‎ ‎‏إلی علاج المزاحمة .‏

‏هب أنّا أغمضنا عن أنّ علاج المزاحمة متأخّر رتبة عن جعل القانون‏‎ ‎‏بمراتب ، إلاّ أنّه لایمکن الإغماض عن أنّ الأمر له مادّة وهیئة ، ولا دلالة لشیء‏

کتابت‍ه‍ذی‍ب الاص‍ول (ج.۱): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 432
‏منهما علی الأفراد الخارجیة ـ علی ما حرّر فی محلّه ـ فإذن بأیّ دالّ استفید الفرد‏‎ ‎‏المزاحم بغیره ؟ أم بأیّ شیء عولج ذلک التزاحم ؟ مع أنّ کلّها خارجة من مدلول‏‎ ‎‏الأمر ، ولایمکنه أن یتکفّلها بعد کون معناه محدوداً فی البعث إلی الطبیعة .‏

فاتّضح :‏ بطلان اشتراط المهمّ بعصیان الأهمّ الذی یبتنی علیه أساس الترتّب ؛‏‎ ‎‏لأنّ المراد من الشرطیة إن کان أنّه شرط شرعاً فقد عرفت أنّه لایمکن أن یکون‏‎ ‎‏مفاد الأدلّة ؛ لأنّ الحاکم فی مقام إلقاء الحکم لایتوجّه إلاّ إلی إنشائه لا إلی تصحیح‏‎ ‎‏علاج المزاحمة ؛ لأنّه متأخّر عنه ، کما تقدّم . علی أنّک قد عرفت انحصار مفاد‏‎ ‎‏الأمر فیما مرّ .‏

‏وأمّا کـون العقل کاشفاً عـن اشتراطـه شرعاً أو کونـه حاکماً بذلک‏‎ ‎‏فسیجیء الکلام فیه .‏

‏ ‏

المقدّمة الرابعة :

‏ ‏

‏أنّک إذا تتبّعت کلمات الأعلام فی تقسیم الحکم إلی مراتبه الأربعة‏‎[5]‎‏ تجد‏‎ ‎‏فیها ما لا یمکن الموافقة معه ؛ إذ قد عدّوا منها ما هو من مبادئ الحکم وملاکاته ،‏‎ ‎‏کالمصالح والمفاسد التی یعبّر عنها بمرتبة الاقتضاء ، کما قد عدّوا منها ما هو من‏‎ ‎‏أحکام العقل بعد تمامیة الحکم ـ أعنی التنجیز ـ لأنّه حکم عقلی غیر مربوط‏‎ ‎‏بمراتب الأحکام المجعولة ، ومعنی تنجّزه قطع عذر المکلّف فی المخالفة وعدم‏‎ ‎‏کونه معذوراً ، من غیر تبدیل وتغییر فی الحکم ولا الإرادة .‏

‏وأعجب منه : کون حکم فعلیاً فی ساعة وإنشائیاً فی اُخری ، وفعلیاً فی‏

کتابت‍ه‍ذی‍ب الاص‍ول (ج.۱): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 433
‏حـقّ شخص وإنشائیاً فی حـقّ آخـر ، إلی غیر ذلک ممّا یدمغه البرهان وحکم‏‎ ‎‏العقل بامتناع تغیّر الإرادة فی حـقّ الشارع ، بل ولایناسبه القوانین العقلائیة ؛‏‎ ‎‏عالمیـة کانت أو غیرها .‏

‏فإذا انحصر مراتب الحکم فی الإنشائیة والفعلیة فلابدّ من توضیحهما ،‏‎ ‎‏فنقول : الناموس المطّرد فی قوانین العالم هو أنّ الحاکم بعد ما تصوّر صلاح شیء‏‎ ‎‏وفساده وجزم أنّ فی جعل حکم له صلاحاً لحال أتباعه یتعلّق الإرادة علی إنشائه‏‎ ‎‏بصورة قانون کلّی لعامّة البشر أو لجماعة منهم ، فینشئه حکماً عمومیاً جاعلاً له فی‏‎ ‎‏مظانّه التی یطلبه فیها المراجعون ، ویرجع إلیها فی استعلام الوظیفة المکلّفون .‏

‏ولا یتفاوت فیما ذکرنا کون الحاکم شخصاً واحداً أو أشخاصاً متعدّدین ، غیر‏‎ ‎‏أنّ الحکم فی الثانی یدور مدار غالبیة الآراء وأکثریتها .‏

‏ثمّ إنّ للمحیط وحال المکلّفین دخلاً تامّاً فی إجراء الحکم وإعلانه ؛ فإن‏‎ ‎‏ساعدت الأحوال ووجدت شرائط الإجراء یأمر الحاکم بإعلانه وإیصاله إلی‏‎ ‎‏المکلّفین ، وإلاّ فیترقّب تناسب المحیط واستعداد الناس بقبوله ، ویترک هـو فی‏‎ ‎‏سنبله الإنشائی .‏

‏والذی نسمّیه حکماً إنشائیاً أو شأنیاً هو ما حاز مرتبة الإنشاء والجعل ؛‏‎ ‎‏سواء لم یعلن بینهم أصلاً حتّی یأخذه الناس ویتمّ علیهم الحجّة ؛ لمصالح فی‏‎ ‎‏إخفائها ، کالأحکام التی بقیت مخزونة لدی ولی العصر ـ عجّل الله تعالی فرجه ـ‏‎ ‎‏ویکون وقت إجرائها زمان ظهوره ؛ لمصالح تقتضی العنایة الإلهیة ، کنجاسة بعض‏‎ ‎‏الطوائف المنتحلة بالإسلام وکفرهم ، فهو حکم إنشائی فی زماننا ، وإذا بلغ وقت‏‎ ‎‏إجرائه یصیر فعلیاً .‏

‏أو أعلن بینهم ، ولکن بصورة العموم والإطلاق ؛ لیلحقه التقیید والتخصیص‏

کتابت‍ه‍ذی‍ب الاص‍ول (ج.۱): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 434
‏بعد بدلیل آخر ، کالأحکام الکلّیة التی تنشأ علی الموضوعات ، ولا تبقی علی ما‏‎ ‎‏هی علیها فی مقام الإجراء .‏

‏فالمطلقات والعمومات قبل ورود المقیّدات والمخصّصات أحکام إنشائیة‏‎ ‎‏بالنسبة إلی موارد التقیید والتخصیص ؛ وإن کانت فعلیات فی غیر هذه الموارد .‏‎ ‎‏والذی نسمّیه حکماً فعلیاً هو ما حاز مرتبة الإعلان ، وتمّ بیانه من قبل المولی‏‎ ‎‏بإیراد مخصّصاته ومقیّداته ، وآن وقت إجرائه وحان موقع عمله .‏

‏فحینئذٍ ؛ فقوله تعالی : ‏‏«‏‏ ‏أوفُوا بِالعقُودِ‏ ‏‏»‏‎[6]‎‏ بهذا العموم حکم إنشائی ، وما‏‎ ‎‏بقی بعد التقیید أو التخصیص حکم فعلی . هذا هـو المختار فی معنی إنشائیـة‏‎ ‎‏الحکم وفعلیته .‏

فتلخّص :‏ أنّ الأحکام منقسمة إلی حکم إنشائی ؛ وهو مالم یر الحاکم صلاحاً‏‎ ‎‏فی إجرائه ؛ وإن کان نفس الحکم ذا صلاح ، کالأحکام المودوعة عند صاحب الأمر‏‎ ‎‏الواصلة إلیه من آبائه ‏‏علیهم السلام‏‏ ، أو یری صلاحاً فی إجرائه ، ولکن أنشأ بصورة العموم‏‎ ‎‏والإطلاق ؛ لیلحق به خصوصه وقیده ، هو نفسه أو وصی بعده ، وإلی حکم فعلی قد‏‎ ‎‏بیّن وأوضح بخصوصه وقیوده ، وآن وقت إجرائه وانفاذه .‏

‏وعلیه : إذا فرضنا حصول عائق عن وصول الحکم إلی المکلّف ـ وإن کان‏‎ ‎‏قاصراً عن إزاحة علّته ـ أو عروض مانع ، کالعجز والاضطرار عن القیام بمقتضی‏‎ ‎‏التکلیف لا یوجب ذلک سقوط الحکم عن فعلیته ولایمسّ بکرامتها ولا یسترجعه‏‎ ‎‏إلی ورائه ، فیعود إنشائیاً ؛ لأنّ ذلک أشبه شیء بالقول بانقباض إرادة المولی عند‏‎ ‎‏طروّ العذر وانبساطها عند ارتفاعه .‏


کتابت‍ه‍ذی‍ب الاص‍ول (ج.۱): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 435
‏والسرّ فی ذلک : أنّ غایة ما یحکم به العقل هو أنّ المکلّف إذا طرء علیه العذر‏‎ ‎‏أو دام عذره وجهله لا یکون مستحقّاً للعقاب ، بل یخرج من زمرة الطاغین وعداد‏‎ ‎‏المخالفین ؛ لعدم المخالفة عن عمدٍ ، وأمّا کونه خارجاً من موضوع التکلیف ؛ بحیث‏‎ ‎‏تختصّ فعلیة الحکم بغیر الجهّال وذوی الأعذار فلا وجه له ، وسیأتی أنّ الخطابات‏‎ ‎‏القانونیة لیست مثل الخطابات الشخصیة ؛ فإنّ الثانیة لایجوز توجیهها لغیر القادر ،‏‎ ‎‏بل یقبح خطاب العاجز بشخصه دون الاُولی . فحینئذٍ فلا وقع للسؤال عن أنّ إسراء‏‎ ‎‏الحکم إلی العاجز والجاهل إسراء بلا ملاک ، فارتقب .‏

وبذلک یتّضح :‏ أنّ الفعلیة والشأنیة بالمعنی المعروف ـ من إنشائیة الحکم‏‎ ‎‏بالنسبة إلی شخص کالجاهل والغافل والساهی والعاجز ، وفعلیته بالنسبة إلی‏‎ ‎‏مقابلاتها ـ ممّا لا أساس له ؛ لأنّ الاشتراط الشرعی فی بعضها غیر معقول ، مع عدم‏‎ ‎‏الدلیل علیه فی جمیعها . والتصرّف العقلی أیضاً غیر معقول ؛ لعدم إمکان تصرّف‏‎ ‎‏العقل فی إرادة الشارع ولا فی حکمه ، وسیأتی توضیحه .‏

‏وبالجملة : أنّ الأحکام المضبوطة فی الکتاب والسنّة لایعقل فیها هاتان‏‎ ‎‏المرتبتان بالمعنی الدائر بینهم ، فقوله تعالی : ‏‏«‏وَلله ِ عَلَی النَّاسِ حِجُّ البَیْتِ‏ . . . ‏‏»‏‎[7]‎‏ ‏‎ ‎‏إلی آخره لا یختلف بالنسبة إلی الجاهل والعالم ، ولا معنی للفعلیة والشأنیـة فی‏‎ ‎‏هـذا الحکم المجعول المنضبط ، بل جعل الحکم علی العنوان وإجـراؤه بین‏‎ ‎‏المکلّفین عند ذکـر مخصّصاته ومقیّداتـه یوجب فعلیة الحکم علی عامّـة الناس ؛‏‎ ‎‏سواء العالم والجاهل والقادر والعاجز ، وقد عرفت أنّ العقل یرفع حکم العقاب‏‎ ‎‏لانفس التکلیف .‏


کتابت‍ه‍ذی‍ب الاص‍ول (ج.۱): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 436

المقدّمة الخامسة :

‏ ‏

‏کلّ حکم کلّی قانونی فهو خطاب واحد متعلّق لعامّة المکلّفین ، بلا تعدّد‏‎ ‎‏ولا تکثّر فی ناحیة الخطاب ، بل التعدّد والکثرة فی ناحیة المتعلّق .‏

‏ویشهد علیه وجدان الشخص فی خطاباته ؛ فإنّ الشخص إذا دعا قومه‏‎ ‎‏لإنجاز عمل أو رفع بلیة فهو بخطاب واحد یدعو الجمیع إلی ما رامه ، لا أنّه یدعو‏‎ ‎‏کلّ واحد بخطاب مستقلّ ؛ ولو انحلالاً ؛ للغویة ذلک بعد کفایة الخطاب الواحد بلا‏‎ ‎‏تشبّث بالانحلال .‏

‏وما اشتهر من انحلال الخطاب الواحد إلی الخطابات حسب عدد المکلّفین‏‎ ‎‏غیر تامّ ؛ لأنّ ملاک الانحلال فی الإخبار والإنشاء واحد ، فلو قلنا بالانحلال فی‏‎ ‎‏الثانی لزم القول به فی الأوّل أیضاً ، مع أنّهم لایلتزمون به ، وإلاّ یلزم أن یکون الخبر‏‎ ‎‏الواحد الکاذب أکاذیب فی متن الواقع .‏

‏وعلیه : لو قال قائل بأنّ النار باردة فقد کذب بعدّة أفراد النار ، وهو رأی‏‎ ‎‏عازب أو قول کاذب ، لایلتزم به ذو مسکة .‏

فتحصّل ممّا ذکر :‏ أنّه لا ینحلّ الخطاب إلی خطابات ؛ بحیث یکون کلّ واحد‏‎ ‎‏مورداً لخطاب خاصّ .‏

‏وأمّا المیزان فی صحّة الخطاب الکلّی فهو إمکان انبعاث عدّة من المخاطبین‏‎ ‎‏بهذا الخطاب ، لا انبعاث کلّ واحد منهم ؛ لبطلان القول بالانحلال .‏

‏والسرّ فی ذلک : أنّ أمر الآمر إذا کان لداعی الانبعاث ـ وإن کان الانبعاث مستنداً‏‎ ‎‏لمبادئ آخر ؛ من الخوف والطمع أیضاً ـ یصحّ الخطاب به مولویاً عندالعقلاء لو قام‏‎ ‎‏بامتثاله طائفة من المأمورین ، کما یستهجن لو علم الآمر عدم انبعاث واحد منهم .‏


کتابت‍ه‍ذی‍ب الاص‍ول (ج.۱): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 437
‏ثمّ إنّ الخلط بین الأحکام الجزئیة والکلّیة صار منشأً لاشتباهات :‏

منها :‏ حکمهم بعدم منجّزیة العلم الإجمالی إذا کان بعض الأطراف خارجاً‏‎ ‎‏عن محلّ الابتلاء ؛ لأنّ الخطاب بالنسبة إلیه مستهجن‏‎[8]‎‏ .‏

قلت :‏ إنّ ما ذکـروه صحیح لو کان الخطاب شخصیاً قائماً بمخاطب‏‎ ‎‏واحـد ، فیستهجن خطابه بزجـره مثلاً عن ارتکاب ما فی الإناء الموجـود فی بلدة‏‎ ‎‏قاصیـة ، وأمّـا إذا کان بطریق العموم فیصحّ الخطاب لعامّـة المکلّفین لو وجـد‏‎ ‎‏ملاک الخطاب ـ أعنی الابتلاء ـ فی عدّة منهم ـ کما فی المقام ـ ولذا التزمنا‏‎ ‎‏بوجـوب الاجتناب فی محلّه فیما إذا خرج أحد الإنائین من محلّ الابتلاء ؛ سواء‏‎ ‎‏کان قبل العلم أم بعده .‏

‏وممّا یؤیّد ذلک : أنّ الاستهجان المدّعی لو صحّ فی التکلیفیة لصحّ فی‏‎ ‎‏الوضعیة من الأحکام ؛ خصوصاً علی القول بمجعولیتها ؛ فیلزم أن لایکون الخمر‏‎ ‎‏الواقع فی أقاصی البلاد نجساً ، وأن یکون الأحکام الوضعیة نسبیة ، وهو باطل‏‎ ‎‏بضرورة الفقه .‏

ومنها :‏ توهّم أنّ الخطاب لایعقل أن یتوجّه إلی العاجز والغافل ؛ ضرورة أنّ‏‎ ‎‏الخطاب للانبعاث ، ولایعقل انبعاث العاجز ومثله‏‎[9]‎‏ .‏

وأنت خبیر :‏ أنّ الخطاب الشخصی إلی العاجز ومثله لغو ممتنع صدوره من‏

کتابت‍ه‍ذی‍ب الاص‍ول (ج.۱): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 438
‏الملتفت ، وهذا بخلاف الخطابات الکلّیة المتوجّهة إلی العناوین کـ «الناس»‏‎ ‎‏و«المؤمنین» ؛ فإنّ مثل تلک الخطابات یصحّ من غیر استهجان إذا کان فیهم من‏‎ ‎‏ینبعث عنها ، ولایلزم أن تکون باعثة أو ممکنة البعث بالنسبة إلی جمیعها فی رفع‏‎ ‎‏الاستهجان ، کما تقدّم .‏

أضف إلیه :‏ أنّ الضرورة قائمة بأنّ الأوامر الإلهیة شاملة للعصاة لابعنوانهم ،‏‎ ‎‏والمحقّقون علی أنّها شاملة أیضاً للکفّار ، مع أنّ الخطاب الخصوصی إلی‏‎ ‎‏الکفّار وکذا إلی العصاة المعلوم طغیانهم من أقبح المستهجنات ، بل غیر ممکن‏‎ ‎‏لغرض الانبعاث ، فلو کان حکم الخطاب العامّ کالجزئی لوجب الالتزام بتقیید‏‎ ‎‏الخطابات بغیرهم .‏

‏وکذا الحال فی الجاهل والغافل والساهی ؛ إذ لایعقل تخصیص الخطاب فی‏‎ ‎‏مرتبة الإنشاء بالعالم الملتفت ؛ وإن کان یصحّ فی مرتبة الفعلیة ، کما سیأتی فی‏‎ ‎‏المباحث العقلیة .‏

وبالجملة :‏ لایصحّ إخراجهم ولایمکن توجّه الخطاب الخصوصی إلیهم ، وقد‏‎ ‎‏تقدّم أنّ الجاهل وأمثاله معذورون فی مخالفة الحکم الفعلی .‏

‏والسرّ فیما ذکرنا ـ مضافاً إلی أنّ الخطاب الواحد لاینحلّ إلی خطابات ـ هو‏‎ ‎‏أنّ الإرادة التشریعیة لیست إرادة متعلّقة بإتیان المکلّف وانبعاثه نحو العمل ، وإلاّ‏‎ ‎‏یلزم فی الإرادة الإلهیة عدم تفکیکها عنه وعدم إمکان العصیان ، بل هی عبارة عن‏‎ ‎‏إرادة التقنین والجعل علی نحو العموم ، وفی مثله یراعی الصحّة العقلائیة ، ومعلوم‏‎ ‎‏أنّه لا تتوقّف عندهم علی صحّة الانبعاث من کلّ أحد ، کما یظهر بالتأمّل فی‏‎ ‎‏القوانین العرفیة .‏

‏ ‏


کتابت‍ه‍ذی‍ب الاص‍ول (ج.۱): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 439

المقدّمة السادسة :

‏ ‏

‏أنّ الأحکام الشرعیة غیر مقیّدة بالقدرة ـ لا شرعاً ولا عقلاً ـ وإن کان حکم‏‎ ‎‏العقل بالإطاعة والعصیان فی صورة القدرة .‏

‏توضیحه : أنّ الأحکام الشرعیة الکلّیة عاریة بحکم الإطلاق عن التقیید‏‎ ‎‏بالقدرة ، فتشمل الجاهل والعاجز بإطلاقها .‏

‏وتوهّم : أنّ الإرادة الاستعمالیة وإن تعلّقت بالمطلق إلاّ أنّ الجدّیة متعلّقة‏‎ ‎‏بالمقیّدة بالقدرة ، مدفوع بأنّ التقیید إمّا من جانب الشرع أو من ناحیة العقل ،‏‎ ‎‏وکلاهما فاسدان :‏

‏أمّا الأوّل : فلأنّه لو کانت مقیّدة بها من الشرع لزم القول بجریان البراءة عند‏‎ ‎‏الشکّ فی القدرة ، وهم لایلتزمون به بل قائلون بالاحتیاط مع الشکّ فیها ، ولزم أیضاً‏‎ ‎‏جواز إحداث ما یعذّر به اختیاراً ، ولا أظنّ التزامهم به .‏

‏ومنه یعلم : عدم کشف التقیید الشرعی عقلاً ، علی أنّ ذلک لا یجامع ما‏‎ ‎‏أجمعوا علیه من بطلان اختصاص الأحکام بالعالمین ؛ لأنّ التفکیک بین العلم‏‎ ‎‏والقدرة غیر واضح ؛ إذ لو کشف العقل عن التقیید بالقدرة شرعاً فلابدّ وأن یکشف‏‎ ‎‏عن التقیید بالعلم أیضاً ؛ لأنّ مناط التقیید واحد ؛ وهو قبح خطاب العاجز والجاهل .‏

‏وأمّـا الثانی ـ أعنی تقیید العقل مستقلاًّ ـ فلأنّ تصرّف العقل بالتقیید فی‏‎ ‎‏حکم الغیر وإرادتـه مع کـون المشرّع غیره باطل ؛ إذ لا معنی أن یتصرّف شخص‏‎ ‎‏فی حکم غیره .‏

‏والحاصل : أنّ تصرّفـه فی الأدلّـة لا یرجـع إلی محصّل ، بل تصرّف العقل‏

کتابت‍ه‍ذی‍ب الاص‍ول (ج.۱): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 440
‏فی إرادة المولی أو جعله لا معنی معقول له ؛ إذ التقیید والتصـرّف لایمکن إلاّ‏‎ ‎‏للجاعل لا لغیره .‏

‏نعم ، یخصّ للعقل حکم مقام الإطاعة والعصیان ، وتشخیص أنّ مخالفة‏‎ ‎‏الحکم فی أیّ مورد توجب استحقاق العقوبة وفی أیّ مورد لاتوجبه ، ولیس للعقل‏‎ ‎‏إلاّ الحکم بأنّ الجاهل والعاجز ونظیرهما معذورون فی ترک الواجب أو إتیان‏‎ ‎‏الحرام ، من غیر تصرّف فی الدلیل .‏

فظهر :‏ أنّ ما یطلب من العقل لإنقاذ الجهّال والعجزة عن لهیب النار یحصل‏‎ ‎‏بحکمه بأنّ هؤلاء معذورون فی ترک الامتثال ، ولا حاجة معه إلی التقیید ، لو لم نقل‏‎ ‎‏إنّه محال . والذی أوقعهم فیه هو توهّم قبح الخطاب إلیهم ؛ غافلاً عن أنّ الملاک فی‏‎ ‎‏الأحکام الکلّیة غیر الجزئیة والشخصیة ، کما نبّهنا علیه .‏

‏فإن قلت : لا بأس فی خطاب العاصی بشخصه ، لکن لا بداعی الانبعاث عن‏‎ ‎‏البعث ، بل بداعی إتمام الحجّة علیه ؛ لیهلک من هلک عن بیّنة .‏

‏قلت : ما هو موضوع الاحتجاج من الموالی علی العبید هو صدور البعث‏‎ ‎‏عنهم بداعی انبعاثهم ، وأمّا البعث لابهذا الداعی فلیس العقل حاکماً بلزوم امتثاله ،‏‎ ‎‏کما لو فرضنا أنّ العبد اطّلع علی أنّ داعیه هو الامتحان وکشف الحال .‏

‏ ‏

المقدّمة السابعة :

‏ ‏

‏أنّ الأمر بکلّ من الضدّین أمر بالمقدور الممکن ، والذی یکون غیر مقدور هو‏‎ ‎‏جمع المکلّف بین متعلّقیهما فی الإتیان ، وهو غیر متعلّق للتکلیف .‏

‏وتوضیحه : أنّه إذا قامت الحجّة فی أوّل الزوال علی وجوب الصلاة ، وقامت‏

کتابت‍ه‍ذی‍ب الاص‍ول (ج.۱): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 441
‏حجّة اُخری علی وجوب الإزالة عن المسجد فکلّ واحد حجّة فی مفاده مستقلاًّ لا‏‎ ‎‏فی الجمع بینهما ، ولیس قیام الحجّتین علی الضدّین إلاّ کقیامهما علی الأمرین‏‎ ‎‏المتوافقین غیر المتزاحمین فی أنّ کلّ واحد حجّة فی مفاده لا فی الجمع بینهما ،‏‎ ‎‏وکلّ واحد یدعو إلی إتیان متعلّقه لا إلی الجمع .‏

‏والذی صدر من الآمر علی نحو القانون هو الأمر بهذا والبعث إلی آخر ،‏‎ ‎‏ومجموع الأمرین لیس موجوداً علی حدة ، والأمر بالجمیع أو المجموع غیر صادر‏‎ ‎‏من المولی ، وقد تقدّم أنّ الأمر لایتعلّق إلاّ بنفس الطبائع المطلقة ، من غیر نظر إلی‏‎ ‎‏الخصوصیات والحالات الطارئة وجهات التزاحم وعلاجه ، ومعنی إطلاقها أنّ‏‎ ‎‏المتعلّق تمام الموضوع بلا دخالة قید ؛ لا أنّ معناه أنّه المطلوب ؛ سواء اجتمع مع‏‎ ‎‏هذا أم لا ؛ إذ کلّ ذلک خارج من محطّ الإطلاق .‏

‏وقد نبّهنا فلا تنس : أنّ توارد الأمرین علی موضوعین متضادّین ، مع أنّ‏‎ ‎‏الوقت الواحد غیر وافٍ إلاّ بواحد منهما إنّما یقبح لو کان الخطابان شخصیین ، وأمّا‏‎ ‎‏الخطاب القانونی الذی یختلف فیه حالات الأشخاص ؛ فربّ مکلّف لایصادف أوّل‏‎ ‎‏الزوال إلاّ موضوعاً واحداً ؛ وهو الصلاة ، وربّما یصادف موضوعین ، فیصحّ توارد‏‎ ‎‏الأمرین علی عامّة المکلّفین ومنهم الشخص الواقف أمام المتزاحمین ، ولایستهجن .‏

‏والذی یحکم به العقل هو أنّ العبد لابدّ أن یتمحّل لإجابة الأمرین علی نحو‏‎ ‎‏لو خالف واحداً منهما لعدم سعة الوقت لعدّ معذوراً .‏

إذا عرفت هذه المقدّمات فنقول :‏ إنّ متعلّقی التکلیفین قد یکونان متساویین‏‎ ‎‏فی الجهة والمصلحة ، وقد یکون أحدهما أهمّ :‏

فعلی الأوّل :‏ لا إشکال فی حکم العقل بالتخییر ؛ بمعنی أنّ العقل یری أنّ‏‎ ‎‏المکلّف مخیّر فی إتیان أیّهما شاء ، فإذا اشتغل بأحدهما یکون فی مخالفة الأمر‏

کتابت‍ه‍ذی‍ب الاص‍ول (ج.۱): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 442
‏الآخر معذوراً عقلاً ، من غیر أن یکون تقییداً واشتراطاً فی التکلیف والمکلّف به .‏

‏ومع عدم اشتغاله بذلک لا یکون معذوراً فی ترک واحد منهما ؛ فإنّه قادر‏‎ ‎‏بإتیان کلّ واحد منهما . فترک کلّ واحد یکون بلا عذر ؛ فإنّ العذر عدم القدرة ،‏‎ ‎‏والفرض أنّه قادر بکلّ منهما ، وإنّما یصیر عاجزاً إذا اشتغل بإتیان أحدهما ، ومعه‏‎ ‎‏یعدّ معذوراً فی ترک الآخر . وأمّا مع عدم اشتغاله به فلایکون معذوراً فی ترک شیء‏‎ ‎‏منهما ، ولیس الجمع بمکلّف به حتّی یقال : إنّه غیر قادر علیه .‏

وبعبارة أوضح :‏ أنّ العبد لو سمع دعوة العقل بصرف القدرة فی واحد من‏‎ ‎‏الغریقین وأنقذ واحداً منهما فقد عجز عن إنقاذ الآخر بلا اختیار فیقبح العقاب علی‏‎ ‎‏ترک هذا الأمر الفعلی الجدّی ، فیثاب لأجل إنقاذ الآخر . وإن تخلّف عن حکم العقل‏‎ ‎‏ولم ینقذ واحداً منهما استحقّ عقوبتین ؛ لأنّه ترک کلّ واحد من الأمرین بلا عذر ،‏‎ ‎‏ویقال : لِمَ ترکت هذا بلا عذر ؟ ثمّ لِمَ ترکت الآخر کذلک ؟‏

‏فإن قلت : لیس هنا إلاّ قدرة واحدة وهو یستدعی تکلیفاً واحداً ، وجزاء‏‎ ‎‏مخالفة التکلیف الواحد عقاب فارد .‏

‏قلت : کأنّک نسیت ما حرّرناه فی المقدّمات ؛ لأنّ البحث فی الأحکام‏‎ ‎‏القانونیة والتکلیف فیها لم یتعلّق بالفرد المردّد ولا بالجمع حتّی یستلزم التکلیف‏‎ ‎‏بالمحال ، والمفروض أنّ کلّ واحد من الأمرین تامّ فی الباعثیة ، ولیس ناظراً إلی‏‎ ‎‏حال اجتماعه مع الآخر ؛ لما عرفت أنّ التزاحم وعلاجه متأخّران عن رتبة الجعل‏‎ ‎‏والفعلیة .‏

‏فحینئذٍ : کلّ واحد یقتضی تحقّق متعلّقه وإیجاده فی الخارج ، إلاّ أن یظهر من‏‎ ‎‏العبد عذر فی ترک امتثاله ، فإذا صرف قدرته فی واحد منهما فقد حقّق دعوته‏‎ ‎‏بالامتثال وترک دعوة الآخر عن عذر ، وأمّا إذا لم یصرف قدرته فی شیء منهما فقد‏

کتابت‍ه‍ذی‍ب الاص‍ول (ج.۱): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 443
‏ترک دعوة کلّ واحد بلا عذر ، فیستحقّ عقابین .‏

‏ویترتّب علی ذلک : أنّه لو ترک واشتغل بفعل محرّم لاستحقّ ثلاث عقوبات ؛‏‎ ‎‏لملاک العصیان فی کلّ واحد .‏

‏وأمّا إذا کان أحدهما أهمّ : فإن اشتغل بإتیان الأهمّ فهو معذور فی ترک‏‎ ‎‏المهمّ ؛ لعدم القدرة علیه مع اشتغاله بضدّه بحکم العقل ، وإن اشتغل بالمهمّ فقد أتی‏‎ ‎‏بالمأمور به الفعلی ، لکن لایکون معذوراً فی ترک الأهمّ ، فیثاب بإتیان المهمّ‏‎ ‎‏ویعاقب بترک الأهمّ .‏

وبالجملة :‏ أنّ العقل یحکم بصرف القدرة فی امتثال الأهمّ ؛ کی یکون معذوراً‏‎ ‎‏فی ترک المهمّ ، ولو عکس لاستحقّ عقوبة علی الأهمّ ؛ لأنّه ترکه بلا عذر ، ولکنّه‏‎ ‎‏یثاب علی المهمّ لإتیانه ، ولو ترکهما لاستحقّ عقوبتین ، ولو اشتغل بمحرّم لاستحقّ‏‎ ‎‏ثلاثة عقوبات .‏

فظهر ممّا قدّمنا أمران :

‏الأوّل : أنّ الأهمّ والمهمّ نظیر المتساویین فی أنّ کلّ واحد مأمور به فی‏‎ ‎‏عرض الآخر ، وهذان الأمران العرضیان فعلیان متعلّقان علی عنوانین کلّیین ، من‏‎ ‎‏غیر تعرّض لهما لحال التزاحم وعجز المکلّف ؛ إذ المطاردة التی تحصل فی مقام‏‎ ‎‏الإتیان لاتوجب تقیید الأمرین أو أحدهما أو اشتراطهما أو اشتراط أحدهما بحال‏‎ ‎‏عصیان الآخر ؛ لاشرعاً ولا عقلاً ، بل تلک المطاردة لاتوجب عقلاً إلاّ المعذوریة‏‎ ‎‏العقلیة فی ترک أحد التکلیفین حال الاشتغال بالآخر فی المتساویین ، وفی ترک‏‎ ‎‏المهمّ حال اشتغاله بالأهمّ .‏

‏والثانی : أنّ الأمر بالشیء لایقتضی عدم الأمر بضدّه فی التکالیف القانونیة ،‏‎ ‎‏کما فی ما نحن فیه .‏


کتابت‍ه‍ذی‍ب الاص‍ول (ج.۱): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 444
وأظـنّ :‏ أنّ الـذی أوقـع الأساتذة فیما أوقـع ـ حیث زعموا أنّ لازم‏‎ ‎‏ذلک هـو الأمر بالضدّین ـ هو أنّ کلّ مکلّف لـه خطاب خاصّ وإرادة مستقلّة‏‎ ‎‏مـن المولی لامتثاله ، فجعلوا الخطاب شخصیاً ورتّبوا علیه مـا رتّبوا ؛ ذهولاً عـن‏‎ ‎‏أنّ وضـع التکالیف القانونیـة غیر هـذا ، بل لیس هنا إلاّ خطاب واحـد متوجّـه‏‎ ‎‏إلـی العنوان .‏

‏والخطاب الواحد بوحدانیته إذا وضع الحکم فیه علی العنوان یکون حجّة‏‎ ‎‏علی المکلّفین ما دامت الشریعة قائمة ، ویحتجّ به الموالی علی العبید إذا دخلوا‏‎ ‎‏تحت العنوان واجتمع سائر الشرائط ؛ من العقل والبلوغ وغیرهما ، من دون أن‏‎ ‎‏یکون لکلّ واحد خطاباً وإرادة .‏

فإن قلت :‏ إنّ الإهمال فی عالم الثبوت غیر معقول ، فحینئذٍ عجز المکلّف‏‎ ‎‏والمطاردة والتزاحم وإن کانت بوجودها متأخّرة عن رتبة الجعل والتشریع إلاّ أنّ‏‎ ‎‏الحاکم یمکن أن یتصوّر حین إرادة التشریع تزاحم هذا الحکم الکلّی مع الکلّی‏‎ ‎‏الآخر إذا أراد المکلّف إیجادهما فی الخارج .‏

وبالجملة :‏ یمکن أن یتصوّر تزاحم الحکمین الکلّیین فی مقام الامتثال ،‏‎ ‎‏فحینئذٍ نسأل : أنّ الإرادة المتعلّقة علی  هذا العنوان هل هی باقیة علی سعتها‏‎ ‎‏وعمومها بالنسبة إلی حال التزاحم التی فرضنا أنّ المولی توجّه إلیها حین تعلّق‏‎ ‎‏الإرادة أولا ؟‏

‏فعلی الأوّل یلزم تعلّق الإرادة التشریعیة بشیء محال ، وعلی الثانی یلزم‏‎ ‎‏التقیید فی جانب الإرادة ، ولازمه التقیید فی جانب الخطاب . ولیس الکلام فی مفاد‏‎ ‎‏اللفظ حتّی یقال : إنّ الإطلاق لیس معناه التسویة فی جمیع الحالات ، بل فی الإرادة‏‎ ‎‏المولویة التی لا تقبل الإجمال والإهمال .‏


کتابت‍ه‍ذی‍ب الاص‍ول (ج.۱): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 445
قلت :‏ لیس معنی عدم الإهمال الثبوتی أنّ الحاکم حین الحکم یلاحظ جمیع‏‎ ‎‏الحالات الطارئة علی التکلیف والمکلّف ، ویقایس التکلیف مع سائر تکالیفه جمعاً‏‎ ‎‏ومزاحمة ؛ ضرورة بطلان ذلک ، بل المراد من عدم الإهمال هو أنّ الآمر بحسب‏‎ ‎‏اللبّ : إمّا أن تتعلّق إرادته وحکمه بنفس الطبیعة بلا قید ، فتکون الطبیعة بنفسها تمام‏‎ ‎‏الموضوع ، وإمّا أن تتعلّق بها مع قید أو قیود ، فتکون موضوعها هو المقیّد والإهمال‏‎ ‎‏إنّما هو فی مقام البیان لا فی مقام الواقع .‏

‏وأمّا الحالات الطارئة للمکلّف أو للتکلیف بعد جعله فهی لیست دخیلة فی‏‎ ‎‏الموضوع حتّی یتقیّد بها أو یکون الحاکم ناظراً إلیها . فالحاکم فی مقام الحکم‏‎ ‎‏لاینظر إلاّ إلی موضوع حکمه وکلّ ما هو دخیل فیه لا غیر .‏

ثمّ إنّ ما ذکرناه :‏ من النقض والإبرام حول الأحکام القانونیة أو الإرادة‏‎ ‎‏المولویة إنّما هو بالنظر إلی القوانین العرفیة المرسومة بین الموالی والعبید والرعایا‏‎ ‎‏والسلاطین ، وأمّا الأحکام الشرعیة فهی بما أنّها مشتملة علی زجر وبعث ، وأنّ‏‎ ‎‏الاحتجاج مطلقاً أمر عقلائی فلابدّ أن یسلک فیها فی قضیة الاحتجاج ما سلکناه‏‎ ‎‏فی العرفیات .‏

‏وأمّا الإرادة المولویة فیه سبحانه وکیفیة تعلّقها بالأشیاء ـ تکویناً کان أو‏‎ ‎‏تشریعاً ـ فلا یصل إلیه أفهامنا ، فلابدّ من الاستمداد منه ـ عزّ وجلّ ـ وقد حقّق عند‏‎ ‎‏أهله أنّ التشریع داخل فی النظام الإلهی الکلّی ، وتعلّق الإرادة الأزلیة به نحو تعلّقها‏‎ ‎‏بالنظام التکوینی ، والتفصیل یطلب من مظانّه .‏

‎ ‎

کتابت‍ه‍ذی‍ب الاص‍ول (ج.۱): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 446

  • )) یأتی فی الصفحة 447 .
  • )) یأتی فی الصفحة 487 .
  • )) بدائع الأفکار (تقریرات المحقّق العراقی) الآملی 1 : 37 ـ 39 .
  • )) تقدّم  فی الصفحة 430 .
  • )) راجع درر الفوائد ، المحقّق الخراسانی : 70 .
  • )) المائدة (5) : 1 .
  • )) آل عمران (3) : 97 .
  • )) فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشیخ الأعظم 25 : 233 ، کفایة الاُصول : 410 ، فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 4 : 50 ـ 51 .
  • )) فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشیخ الأعظم 25 : 363 و 437 ، فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 1 : 314 .