تزییف الوجه الأوّل بعدم تمامیة الاُمور المتوقّفة علیها

تزییف الوجه الأوّل بعدم تمامیة الاُمور المتوقّفة علیها

‏ ‏

‏هذا ، واستدلّ القائل علی إثبات المقدّمة الاُولی : بأنّ الضدّین متمانعان ،‏‎ ‎‏وعدم المانع من المقدّمات .‏


کتابت‍ه‍ذی‍ب الاص‍ول (ج.۱): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 409
قلت :‏ قد ناقش فیه القوم وأوردوا علیه وجوهاً ثلاثة :‏

الأوّل : ما عن المحقّق الخراسانی‏ من أنّ المعاندة بین الشیئین لا تقتضی إلاّ‏‎ ‎‏عدم اجتماعهما فی التحقّق ، وحیث لا منافاة بین أحد العینین مع نقیض الآخر ـ بل‏‎ ‎‏بینهما کمال الملائمة ـ کان أحد العینین مع نقیض الآخر فی مرتبة واحدة‏‎[1]‎‏ .‏

‏وأورد علیه المحقّق المحشّی : أنّ کمال الملائمة لاینافی التقدّم والتأخّر ؛ لأنّ‏‎ ‎‏العلّة لها کمال الملائمة مع معلولها ، وهو لایوجب الاتّحاد فی الرتبة‏‎[2]‎‏ .‏

‏ولکـن یمکن أن یقال فی تقریر مقالـة الخراسانی : أنّ الحمل الصناعی‏‎ ‎‏ینقسم إلی حمل بالذات ؛ وهو ما یکون الموضوع فیه مصداقاً للمحمول بذاتـه ، بلا‏‎ ‎‏ضمّ حیثیة زائدة علی ذاته ، کما فی «زید إنسان» ، وإلی حمل بالعرض ، وهو ما‏‎ ‎‏یحتاج إلی حیثیة زائدة حتّی یصیر مصداقاً له بتبعه ، کما فی قولک «الجسم أبیض» ؛‏‎ ‎‏إذ کون الجسم من حیث ذاته لایکفی فی مصداقیته له مالم یتخصّص بخصوصیة‏‎ ‎‏زائدة علی ذاته .‏

‏فحینئذٍ : فالسواد وإن لم یصدق علی البیاض إلاّ أنّ عدم السواد یصدق علیه‏‎ ‎‏حملاً بالعرض لابالذات ؛ إذ حیثیة الوجود الذی هو عین الطاردیة للعدم والمنشئیة‏‎ ‎‏للأثر تمتنع أن تکون عین عدم الآخر بالذات ، لکن یتّحدان بالعرض ، ویکون‏‎ ‎‏وجوده راسم عدمه .‏

‏فحینئذٍ فالحمل بینهما کاشف عن اتّحادهما فی الخارج ؛ اتّحاداً مصداقیاً‏‎ ‎‏بالعرض ، وما یقع فی سلسلة العلل من المقتضیات والمعدّات وعدم الموانع لایعقل‏

کتابت‍ه‍ذی‍ب الاص‍ول (ج.۱): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 410
‏أن تتّحد مع معلوله فی الخارج ـ ولو بالعرض ـ إذ العلّة مقدّمة علی معلولها عقلاً ،‏‎ ‎‏ومعنی هذا التقدّم کون وجود المعلول ناشئاً منه ومفاضاً عنه ، وما هذا شأنه لایعقل‏‎ ‎‏أن یتّحد مع المتأخّر عنه ؛ إذ الاتّحاد ـ کما هو مفاد الحمل ـ یأبی أن یکون أحدهما‏‎ ‎‏مقدّماً والآخر مؤخّراً ؛ وإن کان رتبیاً .‏

‏وبعبارة أوجز : أنّ السواد لایصدق علی البیاض وإلاّ اجتمع الضدّان ، ومع‏‎ ‎‏عدم صدقه لابدّ وأن یصدق علیه نقیضه ، وإلاّ ارتفع النقیضان ، والصدق یقتضی‏‎ ‎‏الاتّحاد وهو ینافی التقدّم والتأخّر رتبة ، فثبت اتّحادهما رتبة .‏

‏هذا ، ولکنّه أیضاً لایخلو من إشکال ؛ لما عرفت أنّ قوام الحمل الصناعی‏‎ ‎‏بالعرض إنّما هو بتخصّص الموضوع بحیثیة زائدة حتّی یصیر مصداقاً عرضیاً‏‎ ‎‏ببرکتها ، والمفروض أنّ وجود الضدّ لیس عین عدم الآخر ، فلا محیص عن القول‏‎ ‎‏بالتخصّص واتّصاف الموضوع بحیثیة زائدة .‏

‏ولکنّه فی المقام ممتنع ؛ إذ الأعدام ـ سواء کانت مطلقة أم غیرها ـ لیست لها‏‎ ‎‏حیثیة واقعیة حتّی یتخصّص به البیاض ویحمل علیه علی نحو الاتّصاف أنّه عدم‏‎ ‎‏سواد ؛ إذ الأعدام باطلات صرفة وعاطلات محضة ، ولا معنی فیها للاتّحاد‏‎ ‎‏والهوهویة والعینیة علی وجه التوصیف ، کما لایخفی .‏

‏وما ربّما یثبت للأعدام من أحکام الوجود ؛ من التقدّم الزمانی أو کون عدم‏‎ ‎‏العلّة علّة لعدم المعلول کلّ ذلک لغرض التسهیل علی المتعلّمین .‏

‏وما ربّما یقال : من أنّ لأعدام الملکات حظّاً من الوجود‏‎[3]‎‏ توسّع فی العبارة‏‎ ‎‏وإسراء حکم المضاف إلیه إلی المضاف ، وإلاّ فإنّ العمی بما هو أمر عدمی لاحظّ له‏

کتابت‍ه‍ذی‍ب الاص‍ول (ج.۱): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 411
‏من الوجود ، ولم یشمّ ولن یشمّ رائحته .‏

وما ذکرناه بصورة البرهان‏ ؛ من أنّ السواد لو لم یصدق لصدق عدم السواد‏‎ ‎‏مغالطة فی الاستدلال ؛ إذ نقیض قولنا یصدق السواد هو أنّه لایصدق السواد علی‏‎ ‎‏نحو السالبة المحصّلة ، لاصدق عدم السواد علی طریق الموجبة المعدولة أو‏‎ ‎‏الموجبة السالبة المحمول ؛ لأنّ الأعدام لا شؤون لها فی صفحة الوجود ؛ حتّی‏‎ ‎‏قولنا : «لا شؤون لها» لو اُرید به الاتّصاف ، بل المرجع فی محامل الأعدام هو‏‎ ‎‏السالبة المحصّلة التی تفید سلب الاتّحاد ، وأنّ صحیفة الوجود خالیة عن هذا الضدّ‏‎ ‎‏بنحو السلب التحصیلی .‏

‏والحاصل : أنّ نقیض صدق البیاض علی السواد عدم صدقه علیه ، علی‏‎ ‎‏أن یکون السلب تحصیلیاً ، لا صدق عدمه علیه بنحو الإیجاب العدولی أو الموجبة‏‎ ‎‏السالبة المحمول . فالبیاض إذا لم یصدق علیه أنّـه سواد صدق علیه أنّه لیس‏‎ ‎‏بسواد بالسلب التحصیلی ـ وهو نقیض الإیجاب ـ لا صدق عدمه ؛ لأنّ نقیض‏‎ ‎‏صدق الشیء هو عدم صدقه لاصدق عدمه حتّی یلزم اتّحادهما فی الوجود ؛‏‎ ‎‏ولو بالعرض .‏

‏وعدم التمییز بین السلب التحصیلی والإیجاب العدولی والموجبة السالبة‏‎ ‎‏المحمول موجب لکثیر من المغالطات والاشتباهات .‏

‏وأظنّ أنّک لو وقفت علی واقع العدم الذی حقیقته أنّه لا واقع له تعرف أنّ‏‎ ‎‏حیثیة العدم یمتنع أن تکون ذات حظّ من الوجود ، بل الإضافات الواقعة بینها وبین‏‎ ‎‏غیرها إنّما هی فی الذهن ، وفی وعائه تکون الأعدام المطلقة أیضاً موجودة بالحمل‏‎ ‎‏الشائع ؛ وإن کانت أعداماً بالحمل الأوّلی . فلا حقیقة للعدم حتّی یتّصف بوصف‏‎ ‎‏وجودی أو اعتباری أو عدمی .‏


کتابت‍ه‍ذی‍ب الاص‍ول (ج.۱): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 412
‏وما یقال : إنّ ثبوت شیء لشیء فرع ثبوت المثبت له لا الثابت‏‎[4]‎‏ لیس‏‎ ‎‏المراد منه أنّ الجهات العدمیة بما هی کذلک تمکن أن تثبت لشیء ؛ بحیث یکون‏‎ ‎‏التصادق والاتّحاد بینهما کاتّحاد شیء بشیء ، وإلاّ یلزم کذب القاعدة الفرعیة‏‎ ‎‏أیضاً ؛ لأنّ ثبوت الثابت بهذا النحو إثبات صفة ثبوتیة له ، فیلزم صدق قولنا : العدم‏‎ ‎‏ثابت للوجود وصادق علیه ، وهو فرع ثبوت المثبت له .‏

‏فتلخّص : أنّ الأحکام فی الأعدام لابدّ أن ترجع إلی السالبات المحصّلات ؛‏‎ ‎‏وإن کانت بحسب الظاهر موجبات .‏

‏هذا ، وإنّما أطلنا الکلام وعدلنا عن مسلک الاقتصاد لکون المقام من مزالّ‏‎ ‎‏الأقدام ، فاغتنم .‏

الثانی من المناقشات والإیرادات علی المقدّمة الاُولی ‏ـ أعنی مقدّمیة ترک‏‎ ‎‏الضدّ لوجود الآخر ـ هو ما یستفاد أیضاً من کلام المحقّق الخراسانی ؛ حیث قال :‏‎ ‎‏إنّ المنافاة بین النقیضین کما لا تقتضی تقدّم ارتفاع أحدهما فی ثبوت الآخـر‏‎ ‎‏کـذلک فی المتضادّین‏‎[5]‎‏ .‏

وقرّره تلمیذه الجلیل المحقّق القوچانی ‏رحمه الله‏‏ فی حاشیته بقوله : إنّه لاخفاء فی‏‎ ‎‏أنّ النقیض للوجود هو العدم البدلی الکائن فی مرتبته ، وإلاّ لزم ارتفاع النقیضین فی‏‎ ‎‏مرتبة سلب أحدهما مقدّمةً للآخر .‏

‏فظهر : أنّ هذا النحو من التعاند لایقتضی إلاّ تبادلهما فی التحقّق لاارتفاع‏‎ ‎‏أحدهما أوّلاً ثمّ تحقّق الآخر ثانیاً ، وحیث عرفت ذلک فی النقیضین فکذلک‏‎ ‎‏الوجودان المتقابلان‏‎[6]‎‏ ، انتهی .‏


کتابت‍ه‍ذی‍ب الاص‍ول (ج.۱): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 413
ونزید توضیحاً علیه :‏ أنّ ما ذکره مبنی علی مقدّمات ثلاث :‏

الاُولی :‏ أنّ النقیضین فی رتبة واحدة ؛ بمعنی أنّ الوجود فی ظرف معیّن من‏‎ ‎‏الزمان أو فی مرتبة من مراتب الواقع لیس نقیضه إلاّ العدم فی ذلک الظرف أو‏‎ ‎‏المرتبة ؛ إذ لا تعاند فی غیر هذا الوجه ؛ إذ عدم زید فی الغد لایعاند وجوده فی‏‎ ‎‏الیوم ، وعدم المعلول فی رتبة العلّة لایباین وجوده فی مرتبة نفسه .‏

‏وإن شئت فعبّر : أنّ نقیض الشیء بدیله ، فنقیض شیء فی زمان أو رتبة هو‏‎ ‎‏عدمه الذی فی ذلک الزمان وتلک الرتبة ، وإلاّ یلزم اجتماع النقیضین ؛ فالمعلول‏‎ ‎‏معدوم فی رتبة العلّة ، وموجود فی رتبة متأخّرة ، فنقیض الوجود فی رتبة العلّة هو‏‎ ‎‏العدم فی رتبتها .‏

‏وبعبارة أوضح : أنّ مرتبة العلّیة هی مرتبة الإفاضة والإثبات ، فیمتنع أن‏‎ ‎‏یتحقّق فیها وجود المعلول وإلاّ ارتفعت العلّیة والمعلولیة ، فلابدّ أن یتحقّق فیها‏‎ ‎‏عدمه ؛ لئلاّ یرتفع النقیضان .‏

‏فظهر : أنّـه لابـدّ أن یتبادل کلّ مـن وجـود المعلول وعدمـه فی رتبـة‏‎ ‎‏العلّـة مترتّباً .‏

الثانیة :‏ أنّ الضدّین أیضاً فی مرتبة واحدة ؛ لأجل البیان المتقدّم فی‏‎ ‎‏النقیضین ، مثلاً ؛ لو فرضنا تحقّق أحد الضدّین ، کالبیاض فی ظرف من الزمان وفی‏‎ ‎‏موضوع معیّن فضدّه هو السواد فی تلک القطعة وفی هذا الموضوع المتعیّن ؛ لعدم‏‎ ‎‏المنافاة لو تحقّقا فی قطعتین أو موضوعین . فالبینونیة الحقیقیة بین الضدّین لا‏‎ ‎‏تتحقّق إلاّ بالمطاردة ، وهی تتوقّف علی ما ذکرناه .‏

‏وببیان آخر : أنّ مناط امتناع اجتماع الضدّین هو لزوم اجتماع النقیضین‏‎ ‎‏الذی هو اُمّ القضایا ، ومناط الامتناع فیه إنّما یکون مع وحدة الرتبة کما تقدّم ،‏‎ ‎‏فکذلک فی اجتماع الضدّین .‏


کتابت‍ه‍ذی‍ب الاص‍ول (ج.۱): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 414
الثالثة :‏ وإن شئت فسمّها نتیجة المقدّمتین ، هو کون أحد الضدّین مع نقیض‏‎ ‎‏الآخر فی رتبة واحدة .‏

‏والحاصل : أنّه علم أنّ البیاض مع نقیضه فی رتبة واحدة ، کما علم أنّ‏‎ ‎‏البیاض مع السواد واقعان فی مرتبة واحدة أیضاً ـ کما تقدّم ـ فیستنتج : أنّ نقیض‏‎ ‎‏البیاض ـ أعنی عدم البیاض ـ متّحد مع السواد رتبة ؛ إذ السواد مساوٍ رتبةً مع‏‎ ‎‏البیاض ، والبیاض مساوٍ مع عدم البیاض ، فالسواد مساوٍ مع عدم البیاض ؛ لأنّ‏‎ ‎‏مساوی المساوی للشیء مساوٍ له ، هذا غایة توضیح له .‏

وأنت خبیر بما فیه من الخلل :

‏أمّا فی أوّلها :‏‏ فلأنّا نمنع کون النقیضین فی رتبة واحدة ؛ لأنّ وجود المعلول‏‎ ‎‏فی رتبة علّتها لیس نقیضه کون عدمه فی رتبتها ؛ إذ لا واقعیة للأعدام حتّی تشغل‏‎ ‎‏مرتبة من مراتب الواقع ، بل نقیضه سلب وجود المعلول فی هذه المرتبة ، علی‏‎ ‎‏أن تکون الرتبة قیداً للمسلوب لا للسلب .‏

‏وبالجملة : أنّ نقیض کلّ موجود فی أیّ مرتبة أو زمان هو عدم الموجود‏‎ ‎‏الواقع فی هذه الرتبة أو ذاک الزمان ، فإذا کذب کون المعلول فی رتبة علّته صدق‏‎ ‎‏عدم کونه فی رتبتها ، لا کون عدمه فی رتبتها ؛ فإنّه أیضاً غیر صادق .‏

‏وبعبارة أخصر : أنّ نقیض کلّ شیء رفعه ، فنقیض البیاض فی المرتبة رفعه ،‏‎ ‎‏علی أن یکون القید للمسلوب لا للسلب ، فإذا لم یصدق کون المعلول فی رتبة علّته‏‎ ‎‏صدق عدم کونه فی رتبتها بنحو السلب التحصیلی أو بنحو السلب المحمولی‏‎ ‎‏للمقیّد ، علی أن یکون القید للمسلوب .‏

‏فتلخّص : أنّ نقیض کون المعلول فی رتبة العلّة عدم کونه فی رتبتها ، لا کون‏‎ ‎‏العدم فی رتبتها حتّی یقال : إنّ النقیضین فی رتبة واحدة .‏


کتابت‍ه‍ذی‍ب الاص‍ول (ج.۱): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 415
وأمّا ثانیتها :‏ فهو أوضح فساداً ممّا تقدّم ؛ إذ الرتب العقلیة لا ربط لها‏‎ ‎‏بالخارج الذی هو ظرف الضدّیة ، والمترتّبان عقلاً مجتمعان خارجاً ومتّحدان‏‎ ‎‏زماناً ، والضدّان یمتنع اجتماعهما فی الوجود الخارجی ، فأین هو من الرتب‏‎ ‎‏العقلیة ؟ حتّی لو فرضنا أنّ البیاض والسواد مختلفا الرتبة عقلاً یکون اجتماعهما‏‎ ‎‏الوجودی فی موضوع واحد محالاً أیضاً .‏

‏وبما عرفت من عدم وحدة الرتبة فی النقیضین سقط ما ذکر من إثبات وحدة‏‎ ‎‏الرتبة فی الضدّین من وحدتها فی النقیضین لأجل کون مناط الامتناع فی اجتماع‏‎ ‎‏الضدّین هو لزوم اجتماع النقیضین .‏

‏هـذا ، مضافاً إلی أنّ فی هـذه الدعوی أیضاً کلاماً بل خلطاً ، والتفصیل‏‎ ‎‏مـوکول إلی مظانّه .‏

‏وبما ذکر یظهر الحال فی النتیجة ، بل لو سلّمنا کون النقیضین والضدّین فی‏‎ ‎‏رتبة واحدة فلإنکار لزوم کون أحد العینین فی رتبة نقیض الآخر مجال واسع ؛ لعدم‏‎ ‎‏البرهان علی أنّ الرتب العقلیة حکمها حکم الزمان فی الخارج ؛ لو لم نقل بأنّ‏‎ ‎‏البرهان قائم علی خلافه ؛ لأنّ للرتب العقلیة ملاکات خاصّة ، ربّما یکون الملاک‏‎ ‎‏موجوداً فی الشیء دون متّحده فی الرتبة ، ألا تری أنّ ملازم العلّة لایکون مقدّماً‏‎ ‎‏علی المعلول رتبة ؛ لفقدان ملاک التقدّم فیه ؛ وهو کون وجوب الشیء من وجوبه‏‎ ‎‏ووجوده من وجوده .‏

‏وما ربّما یتمسّک بقیاس المساواة فغفلة عن حقیقة الحال ، ولعلّه لقیاس‏‎ ‎‏الرتب العقلیة من حیث المساواة واللامساواة بالمقادیر والأزمنة .‏

‏فتلخّص : أنّ الشیء ونقیضه لیسا فی مرتبة واحدة سلباً تحصیلیاً ، کما لیس‏‎ ‎‏بینهما التقارن والتقدّم کذلک .‏


کتابت‍ه‍ذی‍ب الاص‍ول (ج.۱): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 416
الثالث من المناقشات ـ وهو أیضاً یستفاد من کلامه ‏قدس سره‏‏ ـ‏‏ وحاصله : أنّه لو‏‎ ‎‏توقّف وجود الضدّ علی عدم ضدّه لزم الدور ؛ لأنّ التوقّف لأجل التمانع من‏‎ ‎‏الطرفین ، فعدم أحد الضدّین أیضاً متوقّف علی وجود الآخر ؛ توقّف العدم علی‏‎ ‎‏وجود مانعه‏‎[7]‎‏ ، انتهی .‏

قلت :‏ إنّ مقتضی التمانع بین الضدّین هو أنّه لو توقّف وجود الضدّ علی عدم‏‎ ‎‏الآخر لزم أن یتوقّف وجود الضدّ الآخر علی عدم ذاک ، لا أن یتوقّف عدم الآخر‏‎ ‎‏علی وجوده ، فیرتفع الدور ؛ لاختلاف الموقوف والموقوف علیه ؛ لأنّ وجود‏‎ ‎‏البیاض متوقّف علی عدم السواد ، ووجود السواد متوقّف علی عدم البیاض ؛ أخذاً‏‎ ‎‏بحکم التمانع بین وجودی الضدّین ، لا أنّ عدم السواد متوقّف علی وجود البیاض‏‎ ‎‏حتّی یتخیّل الدور ؛ لأنّ العدم لیس بشیء حتّی یتوقّف تحقّقه علی شیء .‏

ثمّ‏ إنّ التحقیق : أنّ التوقّف باطل مطلقاً ؛ أی لایتوقّف العدم علی شیء‏‎ ‎‏ولایتوقّف شیء علیه .‏

وتوضیحه ‏ـ وإن کان ما أوعزنا إلیه کافیاً فی رفع الحجاب ـ هو أنّ العدم‏‎ ‎‏لیس أمراً حقیقیاً واقعیاً ، بل هو مفهوم اعتباری یصنعه الذهن إذا تصوّر شیئاً ، ولم‏‎ ‎‏یجده شیئاً إذا رجع إلی الخارج وتفحّص عن مظانّه ، وحقیقته خلوّ صحیفة الوجود‏‎ ‎‏عن الشیء المتصوّر بالسلب التحصیلی وخلوّ نفس الأمر عن وجوده ؛ فیکون مقابل‏‎ ‎‏الوجود ومقابل نفس الأمر بمراتبه الطولیة ، وما شأنه هذا یکون بطلاناً محضاً ،‏‎ ‎‏ولایعقل أن یصیر دخیلاً فی تحقّق شیء أو متأثّراً من شیء ؛ إذ ما لا شیئیة له‏‎ ‎‏یسلب عنه جمیع الاُمور الثبوتیة ؛ ومنها التوقّف بکلا قسمیه بالسلب التحصیلی .‏


کتابت‍ه‍ذی‍ب الاص‍ول (ج.۱): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 417
‏وبالجملة : کون شیء شرطاً لشیء أو متأثّراً عنه أو دخیلاً فی وجوده قضایا‏‎ ‎‏إیجابیة ، یتوقّف صدقها علی وجود موضوعها ومحمولها ، وقد فرضنا العدم لا شیئاً‏‎ ‎‏محضاً وبطلاناً خالصاً .‏

‏وقولک : إنّ عدم الضدّ موقوف علیه أو عدمه موقوف علی وجود الضدّ من‏‎ ‎‏الموجبات ، وثبوت حکمها للعدم فرع ثبوت المثبت له ، وهو هنا ممتنع .‏

فظهر :‏ أنّ العدم مسلوب عنه أحکام الوجود والثبوت ؛ إذ لا شیئیة له ، فلا‏‎ ‎‏تقدّم له ولا تأخّر ولا مقارنة ، بل کلّ الحیثیات مسلوبة عنه سلباً تحصیلیاً ، لا‏‎ ‎‏بمعنی سلب شیء عن شیء ، بل السلب عنه من قبیل الإخبار عن المعدوم المطلق‏‎ ‎‏بأنّه لایخبر عنه الحاصل بالتوسّل بالعناوین المتحصّلة فی الذهن .‏

‏وقد تقدّم : أنّ ما ربّما یقال : إنّ عدم العلّة علّة لعدم معلوله مسامحة فی‏‎ ‎‏التعبیر‏‎[8]‎‏ ، کما أنّ ما یتکرّر بین کلمات المشاهیر من أهل الفنّ من عدّ عدم المانع‏‎ ‎‏من أجزاء العلّة‏‎[9]‎‏ مرجعه إلی أنّ وجوده مانع عن تحقّق المعلول لا أنّ عدمه‏‎ ‎‏دخیل ، فعبّروا عن مزاحمة المقتضیات والتمانع بین الوجودات بکون عدم المانع من‏‎ ‎‏أجزاء العلّة ؛ إذ العدم ـ مطلقه ومضافه ـ أقصر شأناً من أن یحوم حوله التوقّف ؛‏‎ ‎‏لأنّه البطلان واللاشیئیة .‏

‏وأوضح فساداً منه ما یقال : إنّ للأعدام واقعیة وظروفاً بحسب أحوالها ، کما‏‎ ‎‏أنّ للماهیات أوعیة متسانخة مع مظروفاتها ؛ إذ کلّ ظرف لابدّ وأن یرجع إلی‏‎ ‎‏صحیفة الوجود ، وإلاّ فالظرف والمظروف عاطلان باطلان .‏


کتابت‍ه‍ذی‍ب الاص‍ول (ج.۱): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 418
والعجب عن المحقّق المحشّی‏ ـ مع نبوغه وکثرة مساعیه فی هاتیک المباحث‏‎ ‎‏ـ حیث أفاد هنا ما لا ینبغی أن یصدر عن مثله ؛ حیث قال : إنّ عدم الضدّ من‏‎ ‎‏مصحّحات قابلیة المحلّ لقبول الضدّ ؛ لعدم قابلیة الأبیض للسواد ولا الأسود‏‎ ‎‏للبیاض ، وأنّ القابلیات والاستعدادات والإضافات وأعدام الملکات وإن کان لا‏‎ ‎‏مطابق لها فی الخارج لکنّها من الاُمور الانتزاعیة وحیثیات وشؤون لاُمور‏‎ ‎‏خارجیة ، وثبوت شیء لشیء لایقتضی أزید من ثبوت المثبت له بنحو یناسب‏‎ ‎‏ثبوت الثابت‏‎[10]‎‏ ، انتهی .‏

وفیه : أمّا أوّلاً :‏ فلأنّ الأعدام المضافة إذا لم تکن متأثّراً عن شیء لإبائها عن‏‎ ‎‏الفاعل والقابل فلا تکون مؤثّرة ولا شرطاً ؛ إذ التفکیک بینهما فی الموجود الإمکانی‏‎ ‎‏باطل ، وما لیس بشیء لایکون مؤثّراً ولا متأثّراً .‏

‏وأمّا عدم تحقّق الضدّ عند وجود الآخر وتحقّقه عند عدمه فلیس إلاّ لأجل‏‎ ‎‏التمانع بین الوجودین ، فإذا عدم أحدهما تحقّق الآخر ، لا لجهة الاستناد إلی عدمه ،‏‎ ‎‏بل إلی إیجاب علّته التامّة .‏

‏وإن شئت قلت : إنّ قابلیة المحلّ مـن شؤون نفسه ، مـن غیر دخالـة عـدم‏‎ ‎‏شیء فیها ، فالجسم قابل للسواد ؛ کان موصوفاً بالبیاض أولا ، ولا یتوقّف قبوله له‏‎ ‎‏علی عدم البیاض .‏

‏وأمّا عدم قبوله فی حال اتّصافـه به فإنّما هـو لأجل التمانع بین الوجودین ،‏‎ ‎‏لا لتوقّف القابلیة علی عدم الضدّ ؛ إذ العدم لایمکن أن یکون مؤثّراً فی تصحیح‏‎ ‎‏القابلیة ، بل لایکون من شؤون الاُمور الخارجیة ، ولا منتزعاً منها .‏


کتابت‍ه‍ذی‍ب الاص‍ول (ج.۱): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 419
وثانیاً :‏ أنّ عدّ الأعدام المضافة فی عداد الاستعدادات لایخلو من خلط ؛ فإنّ‏‎ ‎‏الإمکان الاستعدادی له نحو وجود فی المادّة ؛ إذ لایمکن إنکار أنّ للقابلیات‏‎ ‎‏والاستعدادات ـ بل الإضافات ـ نحو وجود فی الخارج ، بخلاف أعدام الملکات ؛‏‎ ‎‏فإنّ التحقّق لحیثیة الملکة لا لحیثیة العدم ، فتدبّر .‏

‏هذه حال المناقشات الثلاثة المتوجّهة إلی المقدّمة الاُولی ، وقد عرفت حالها‏‎ ‎‏بالنقض والإبرام .‏

وأمّا المقدّمة الثانیة‏ ـ أعنی وجوب المقدّمة ـ فقد تبیّن حاله أیضاً .‏

وأمّا المقدّمة الثالثة‏ ـ أی اقتضاء الأمر بالشیء للنهی عن نقیضه ـ فللمنع‏‎ ‎‏عنه مجال واسع :‏

‏أمّا عدم الاقتضاء بالمطابقة والتضمّن فواضح ؛ إذ البعث لایکون عین الزجر‏‎ ‎‏ولا متضمّناً له .‏

‏وأمّا الالتزام ـ أعنی کون النهی عن النقیض لازماً للأمر ، کما ربّما یقال : إنّ‏‎ ‎‏نفس تصوّر الوجوب والإلزام یکفی فی تصوّر النهی عن الترک‏‎[11]‎‏ ـ ففیـه : أنّه إن‏‎ ‎‏اُرید به الانتقال التصوّری فمع عدم ثبوته لایفید ، وإن اُرید اللزوم الواقعی ، بأن‏‎ ‎‏یدّعی أنّ المولی إذا أمر بشیء یجب أن ینهی عن نقیضه فهو واضح البطلان ؛ لأنّ‏‎ ‎‏المفروض أنّ الصادر منه هو الأمر لاغیره ، وإن اُرید أنّه لو التفت إلیه لنهی عنه فهو‏‎ ‎‏کما تری .‏

‏فإن قلت : لیس البحث فی البعث الاعتباری ، بل فی استلزام الإرادتین ؛ إذ‏‎ ‎‏الإرادة المتعلّقة بشیء مستلزمة للإرادة المتعلّقة بترک ترکه .‏


کتابت‍ه‍ذی‍ب الاص‍ول (ج.۱): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 420
‏قلت : إن اُرید من الاستلزام العینیة والتضمّن فهو واضح الفساد ؛ لأنّ إرادة‏‎ ‎‏الزجر عن ترک شیء لیس عین إرادة نفس الشیء بالحمل الأوّلی ، وانطباقه علیه فی‏‎ ‎‏الخارج ـ مع فساده فی نفسه ـ لیس بمفید .‏

‏وإن اُرید منه المعنی الذی یذکر فی باب المقدّمة‏‎[12]‎‏ بأنّه إذا تعلّقت إرادة‏‎ ‎‏تشریعیة بشیء فمع الالتفات إلی ترکه تتعلّق إرادة تشریعیة علی ترک ترکه ، یرد‏‎ ‎‏علیه ما أوضحناه فی بابها‏‎[13]‎‏ من أنّا لا نتصوّر لهذه الإرادة غایة ولا مبادئ .‏

‏وتوضیحه : أنّه بعد تعلّق الإرادة التشریعیة الإلزامیة بشیء لا معنی لتعلّق‏‎ ‎‏إرادة اُخری علی ترک ترکه ؛ لعدم تحقّق مبادئ الإرادة وغایتها ؛ فإنّ غایتها التوصّل‏‎ ‎‏إلی المبعوث إلیه ، ومع إرادة الفعل والبعث إلیه لا معنی لبعث إلزامی آخر إلی ترک‏‎ ‎‏ترکه ، فلا غایة للإرادة التشریعیة .‏

‏وقد تقدّم : أنّ القول بأنّ تعلّق الإرادة بالمقدّمة قهری لازمه تعلّقها بشیء بلا‏‎ ‎‏ملاک وهو ممتنع‏‎[14]‎‏ ، ویجری مثله فی المقام أیضاً .‏

فتلخّص :‏ أنّ الأمر بالشیء لایقتضی النهی عن ضدّه العامّ ولا الخاصّ ، من‏‎ ‎‏جهة مقدّمیة الترک ، فتدبّر .‏

‎ ‎

کتابت‍ه‍ذی‍ب الاص‍ول (ج.۱): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 421

  • )) کفایة الاُصول : 161 .
  • )) نهایة الدرایة 2 : 180 .
  • )) الحکمة المتعالیة 1 : 345 ، شرح المنظومة ، قسم الحکمة : 47 ـ 48 .
  • )) راجع الحکمة المتعالیة 1 : 370 ، شرح المنظومة ، قسم الحکمة : 50 .
  • )) کفایة الاُصول : 161 .
  • )) حاشیة کفایة الاُصول ، المحقّق القوچانی : 112 .
  • )) کفایة الاُصول : 161 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 411 .
  • )) راجع فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 1 : 307 و309 ، نهایة الأفکار 1 : 363 .
  • )) نهایة الدرایة 2 : 183 .
  • )) فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 1 : 303 .
  • )) فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 1 : 262 و284 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 398 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 396 ـ 397 .