التحقیق عدم وجوب المقدّمة

التحقیق عدم وجوب المقدّمة

‏ ‏

‏إذا عرفت ما مهّدناه من الاُصول والمقدّمات فاعلم : أنّ التحقیق عدم وجوب‏‎ ‎‏المقدّمة وعدم الملازمة بین البعثین ، ولا بین الإرادتین :‏

أمّا الأوّل :‏ فلا یخلو إمّا أن یکون المراد أنّه إذا بعث المولی إلی شیء یجب‏‎ ‎‏له البعث مستقلاًّ إلی مقدّماته ، فهو فاسد ضرورة ؛ لأنّا نری عدم البعث إلیها من‏‎ ‎‏الموالی غالباً ، بل البعث إلیها جدّاً لغو کما سیوافیک . وما یری وقوعه إمّا إرشاد إلی‏‎ ‎‏الشرطیة ـ کالوضوء والغسل ـ أو تأکید للأمر النفسی کنایة أو إرشاد إلی حکم العقل .‏

وبه یظهر فساد ما فی کلام المحقّق الخراسانی‎[1]‎‏ من التمسّک بوجود الأوامر‏‎ ‎

کتابت‍ه‍ذی‍ب الاص‍ول (ج.۱): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 395
‏الغیریة فی الشرع ؛ قائلاً بأنّ تعلّقها لأجل وجود ملاکها ، وهو محفوظ فی جمیعها ،‏‎ ‎‏کما أنّ إحالته إلی الوجدان مصادرة عند المنکرین .‏

‏أو یکون المراد : أنّ البعث إلی الواجب بعث نحو المقدّمات ، فهو أوضح‏‎ ‎‏فساداً ؛ لأنّ الهیئات الدالّة علی البعث لاتمکن أن تبعث إلاّ إلی متعلّقاتها ؛ وهی‏‎ ‎‏الواجبات النفسیة .‏

‏أو یکون المراد : أنّ البعث إلی المقدّمات من قبیل لوازم الماهیة ، وهو‏‎ ‎‏کما تری .‏

‏أو یقال ـ وإن شئت فاجعله رابع الوجوه ـ إنّه یتولّد بعث من بعث ؛ بمعنی‏‎ ‎‏کونه علّة للبعث إلیها ؛ بحیث یکون نفس البعث ـ أی الهیئة بما لها من المعنی ـ علّة‏‎ ‎‏فاعلیة لبعث المولی بالنسبة إلی المقدّمات ؛ بحیث یکون مؤثّراً قهراً فی نفس‏‎ ‎‏المولی ، ولکنّه أوضح فساداً وأظهر بطلاناً .‏

‏وهذه وجوه أربعة ، والظاهر : أنّ المراد أوّل الوجوه ، وقد عرفت جوابه .‏

وأمّا الثانی‏ ـ أعنی الملازمة بین الإرادتین ـ فتحتمل وجوهاً بادئ الرأی :‏

‏منها : جعل إرادة المقدّمة من لوازم الماهیة ، وهو أفسد الوجوه ؛ لأنّ لوازم‏‎ ‎‏الماهیة اعتباریة ، وکیف یرضی وجدان القائل علی جعلها اعتباریة ؟‏

‏ومنها : نشوء إرادة من إرادة ؛ بمعنی کون إرادة الواجب علّة فاعلیة لإرادتها‏‎ ‎‏من غیر احتیاج إلی مبادٍ اُخر ، کالتصوّر والتصدیق بالفائدة وغیره ، وقد وافاک بطلان‏‎ ‎‏تلک المزعمة غیر مرّة .‏

‏ومنها : حدوث إرادة عن مبادئ برأسها مستقلّة متعلّقة بها لغایة مولویة ؛ وهو‏‎ ‎‏التوصّل إلی ذیها . وفیه : أنّ حدوث الإرادة بلا غایة من المحالات ، وهی هنا کذلک .‏


کتابت‍ه‍ذی‍ب الاص‍ول (ج.۱): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 396
‏وما قیل من أنّ التعلّق قهری لایحتاج إلی الغایة‏‎[2]‎‏ ساقط جدّاً ، وسیوافیک‏‎ ‎‏بُعید هذا : أنّ إرادة المقدّمات من المولی بعد إرادة ذیها ممّا لا فائدة لها ، ولایمکن أن‏‎ ‎‏تکون تلک الإرادة مؤثّرة فی العبد ؛ ولو بإظهارها بالبعث اللفظی نحو المقدّمة .‏‎ ‎‏فحینئذٍ یکون تعلّقها بها لغواً بلا غایة ، فانتظر برهانه .‏

وممّا یقضی به آخر العجب :‏ ما یتراءی فی بعض الکلمات لتحکیم الملازمة‏‎ ‎‏بین الإرادتین ، وحاصله : أنّ التشریعیة من الإرادة کالتکوینیة ، والفاعل المرید فی‏‎ ‎‏التکوین تتعلّق إرادته بإیجاد مقدّماته وإن کان غافلاً ، ولازم ذلک استلزام الإرادة‏‎ ‎‏الآمریة المتعلّقة بفعل ، إرادة اُخری متعلّقة بمقدّماته ؛ وهی إرادة قهریة ترشّحیة‏‎ ‎‏معلولة لإرادة الواجب‏‎[3]‎‏ ، انتهی .‏

وفیه :‏ ـ مضافاً إلی ما نبّهنا علیه مـن أنّ ترشّح إرادة مـن اُخـری ممّا لا‏‎ ‎‏أصل لـه ـ أنّ البرهـان لم یقم علی التطابق بین التشریـع والتکوین ، لو لم نقل‏‎ ‎‏بقیامـه علی خلافه .‏

‏وتوضیح الفرق : أنّ تعلّق الإرادة بالمقدّمات من الفاعل المرید لملاک أنّه‏‎ ‎‏یری أنّ الوصول إلی المقصد وإلی الغایة المطلوبة لایحصل إلاّ بإیجاد مقدّماته ، فلا‏‎ ‎‏محالة یریده مستقلاًّ بعد تمامیة مقدّماتها ، وأمّا الآمر غیر المباشر فالذی یلزم علیه‏‎ ‎‏هو البعث نحو المطلوب و إظهار ما تعلّقت به إرادته ببیان وافٍ ؛ بحیث یمکن‏‎ ‎‏الاحتجاج به علی العبد ویقف العبد به علی مراده حتّی یمتثله ، وأمّا إرادة المقدّمات‏‎ ‎‏فلا موجب له ولا غایة بعد حکم العقل بلزوم إتیانها .‏


کتابت‍ه‍ذی‍ب الاص‍ول (ج.۱): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 397
‏والحاصل : أنّه فرق بین المباشر والآمر ؛ فإنّه لا مناص فی الأوّل عن تعدّد‏‎ ‎‏الإرادة ؛ لأنّ المفروض أنّه المباشر للأعمال برمّتها ، فلا محالة یتعلّق الإرادة بکلّ ما‏‎ ‎‏یوجده بنفسه ، وأمّا الآمر فیکفی فی حصول غرضه بیان ما هو الموضوع لأمره‏‎ ‎‏وبعثه ؛ بأن یأمر به ویبعث نحوه ، والمفروض أنّ مقدّمات المطلوب غیر خفی علی‏‎ ‎‏المأمور ، وعقله یرشد إلی لزوم إتیانها ، فحینئذٍ لأیّ ملاک تنقدح إرادة اُخری متعلّقة‏‎ ‎‏بالمقدّمات ؟ !‏

‏وببیان آخر : أنّ الإرادة التشریعیة لیست إلاّ إرادة البعث إلی الشیء ، وأمّا‏‎ ‎‏إرادة نفس العمل فغیر معقول ؛ لأنّ عمل کلّ أحد متعلّق بإرادة نفسه لا لإرادة غیره ،‏‎ ‎‏نعم یمکن الاشتیاق إلی صدور عمل من الغیر .‏

‏لکن قد عرفت مراراً : أنّ الاشتیاق غیر الإرادة التی هو تصمیم العزم علی‏‎ ‎‏الإیجاد ، وهذا ممّا لا یتصوّر تعلّقه بفعل الغیر ، فإرادة البعث لابدّ لها من مبادٍ‏‎ ‎‏موجودة فی نفس المولی ، ومن المبادئ الغایة للفعل الاختیاری ، وهی موجـودة‏‎ ‎‏فی إرادة البعث إلی ذیها ؛ لأنّ غایة البعث إلیه هو التوصّل إلی المبعوث إلیه ؛‏‎ ‎‏ولو إمکاناً واحتمالاً .‏

‏وأمّا إرادة البعث إلی المقدّمات فممّا لا فائدة لها ولا غایة ؛ لأنّ البعث إلی‏‎ ‎‏ذیها إن کان مؤثّـراً فی نفس العبد فلا یمکن انبعاث بعد الانبعاث ، وإن لم یکن‏‎ ‎‏مؤثّراً فلایمکن أن یکون البعث الغیری موجباً لانبعاثه ؛ لأنّ بعثه إلی المقدّمات‏‎ ‎‏لأجل التوصّل إلی ذیها ، والمفروض أنّه متقاعد عن إتیانه ، کما أنّ المفروض عدم‏‎ ‎‏ترتّب أثر علیه من الثواب والعقاب .‏

‏فحینئذٍ : لو حصل إرادة هذا شأنها حیث لا فائدة فیها ولاغایة لها ، یکون‏‎ ‎‏وجودها أشبه شیء بوجود المعلول بلا علّة ، مع أنّ الضرورة قاضیة بعدم إرادة‏

کتابت‍ه‍ذی‍ب الاص‍ول (ج.۱): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 398
‏البعث نحو المقدّمات فی الغالب ، فیلزم تفکیک الإرادة عن معلولها ؛ أی البعث . فلا‏‎ ‎‏محیص فی حلّ المعضلة عن نفی إرادة البعث .‏

‏ولعمری لو أعطیت حقّ النظر فیما ذکرنا تدرک أنّ الحقّ المتّبع ما حقّقناه ،‏‎ ‎‏والـذی أوقـع الأعاظم فیما أوقع هـو خلط الإرادة الآمریـة بالإرادة الفاعلیة ، وکم‏‎ ‎‏لـه من نظیر !‏

وأمّا ما استدلّ به أبو الحسین البصری‏ الدائر بین الأقدمین‏‎[4]‎‏ فضعیف غایته ،‏‎ ‎‏مع أنّه منقوض بمتلازمین أحدهما واجب والآخر غیر واجب ، فإذا ترک ما هو‏‎ ‎‏مباح فإمّا أن یبقی الواجب علی وجوبه کان أمراً بالمحال ، وإن لم یبق خرج عن‏‎ ‎‏کونه واجباً مطلقاً .‏

‏فإن قلت : لعلّه یقول بسرایـة الوجوب مـن أحـد المتلازمین إلی الآخـر ؛‏‎ ‎‏حتّی یندفع المحذور المتقدّم .‏

‏قلت : المفروض خلوّ الملازم الآخر عن الملاک ، فلو تعلّق الإرادة به حینئذٍ‏‎ ‎‏لزم أن یکون تعلّقها بلا ملاک ، وهو ممتنع .‏

‏وأمّا التفصیل بین السبب وغیره فلا یرجع إلی محصّل . وأمّا بین الشرط‏‎ ‎‏الشرعی وغیره فقد استدلّ علی وجوب الأوّل بأنّه لولا وجوبه شرعاً لما کان‏‎ ‎‏شرطاً ؛ حیث إنّه لیس ممّا لابدّ منه عقلاً أو عادة‏‎[5]‎‏ .‏

‏وفیه : أنّه لو أراد توقّف الشرطیة فی وعاء الثبوت علی الأمر الغیری فهو دور‏‎ ‎‏واضح ؛ لأنّه لایتعلّق إلاّ بما فیه ملاک الشرطیة ، وإن أراد أنّ العلم بالشرطیة فی‏

کتابت‍ه‍ذی‍ب الاص‍ول (ج.۱): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 399
‏عالم الإثبات موقوف علی البعث ففیه : أنّ العلم بالشرطیة یمکن أن یحصل من‏‎ ‎‏طریق آخر ؛ من إرشاده إلی أنّ هذا مقدّمة له ، أو من بعثه الواحد النفسی علی‏‎ ‎‏الواجب متقیّداً ، کقوله «صلّ متطهّراً» .‏

‏أضف إلی ذلک : أنّ البحث فی المقام بحث فی أمر کبروی ؛ وهو الملازمة بین‏‎ ‎‏الإرادتین ، وهو لایکشف عن الصغری ، کما أنّ مع عدم إحرازها لاینتج الکبری ؛‏‎ ‎‏أعنی حکم العقل بالملازمة . وقس علیه الملازمة بین البعثین ؛ إذ لایستکشف بها‏‎ ‎‏الصغری وأنّ هذه مقدّمة ، فلابدّ لإحراز المقدّمة من دلیل آخر .‏

‎ ‎

کتابت‍ه‍ذی‍ب الاص‍ول (ج.۱): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 400

  • )) کفایة الاُصول : 157 .
  • )) بدائع الأفکار (تقریرات المحقّق العراقی) الآملی 1 : 399 .
  • )) نفس المصدر .
  • )) المعتمد فی اُصول الفقه 1 : 95 .
  • )) شرح العضدی علی مختصر ابن الحاجب : 91 .