الأوّل‏: هل یترتّب علی إتیان الواجب الغیری ثواب أو لا‏؟

الأوّل : هل یترتّب علی إتیان الواجب الغیری ثواب أو لا ؟

‏ ‏

‏التحقیق : أنّ ذلک یختلف باختلاف الأنظار فی کیفیة الثواب والعقاب‏‎ ‎‏الاُخرویین ، ونشیر إلی الآراء علی نحو الاختصار ، والتفصیل یطلب من محلّه :‏

فذهب جماعة‏ إلی أنّهما من لوازم الأعمال ؛ بمعنی أنّ الأعمال الحسنة‏‎ ‎‏والأفعال القبیحة فی الدنیا تعطی استعداداً للنفس حقیقة ، به یقتدر علی إنشاء صور‏‎ ‎‏غیبیة بهیة من الحور والقصور ، وکذا فی جانب الأعمال السیّئة ، بل مثل الأعمال‏‎ ‎‏الأخلاق والعقائد والهواجس والصفات النفسانیة ؛ فإنّ لها لوازم لا تنفکّ عنها ،‏‎ ‎‏وتوجب اقتداراً للنفس علی إیجاد لوازمها وآثارها علی ما فصّل فی کتبهم .‏

‏وبالجملة : فالجزاء هو التمثّل الملکوتی عملاً وخلقاً واعتقاداً ، وهذا الوجه‏‎ ‎‏یطلب من محالّه‏‎[1]‎‏ .‏

وذهب جماعة اُخری‏ ـ آخذاً بظواهر الآیات والأخبار ـ بأنّهما من‏‎ ‎‏المجعولات ، کالجزائیات العرفیة فی الحکومات السیاسیة ، کما هو ظاهر قوله‏‎ ‎‏تعالی : ‏‏«‏مَنْ جَاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّیئَةِ فَلا یُجزَی إلاّ‎ ‎مِثْلَها‏»‏‎[2]‎‏ إلی غیر ذلک .‏

‏وهو المرضی عند المحقّق النهاوندی‏‎[3]‎‏ ـ علی ما حکی عنه‏‎[4]‎‏ ـ مستدلاًّ بأنّه‏‎ ‎‏لولاه لزم التشفّی المحال فی حقّه تعالی .‏


کتابت‍ه‍ذی‍ب الاص‍ول (ج.۱): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 351
وذهب طائفة‏ إلی أنّ الثواب والعقاب بالاستحقاق ، وأنّ العبد یستحقّ من عند‏‎ ‎‏ربّه جزاء العمل إذا أطاع أو عصی ، ولایجوز له تعالی التخلّف عنه عقلاً فی الطاعة ،‏‎ ‎‏وأمّا جزاء السیّئة فیجوز عنه العفو‏‎[5]‎‏ .‏

ثمّ‏ إنّ ترتّب الثواب والعقاب علی ‏المسلک الأوّل‏ أمـر مستور لنا ؛ إذ لا نعلم‏‎ ‎‏أنّ النفس بالطاعات والقربات تستعدّ لإنشاء الصور الغیبیة وإیجادها ، وعلی فرض‏‎ ‎‏العلم بصحّته إجمالاً فالعلم بخصوصیاتها وتناسب الأفعال وصورها الغیبیة ممّا‏‎ ‎‏لا یمکن لأمثالنا .‏

‏نعم ، لا شبهة أنّ لإتیان الأعمال الصالحة لأجل الله تعالی تأثیراً فی صفاء‏‎ ‎‏النفس وتحکیماً لملکة الانقیاد والطاعة ، ولها بحسب مراتب النیات وخلوصها‏‎ ‎‏تأثیرات فی العوالم الغیبیة ، وکذا الحال فی إتیان مقدّماتها وتهیئة مبادئها ، بل کلّ من‏‎ ‎‏المقدّمة وذیها إذا أتاهما لأجله تعالی یوجب صفاء النفس وتثبیت ملکة الطاعة ،‏‎ ‎‏هذا هو الحال علی القول الأوّل .‏

وأمّا علی الثانی من المسالک :‏ فلا شکّ أنّ التخلّف بعد الجعل قبیح ؛‏‎ ‎‏لاستلزامه الکذب لو أخبر عنه مع علمه بالتخلّف ـ کما فی المقام ـ أو لاستلزامه‏‎ ‎‏التخلّف عن الوعد والعهد لو أنشأه ، وامتناعهما علیه تعالی واضح جدّاً .‏

‏فحینئذٍ : ترتّب الثواب والعقاب یتّبعان مقدار الجعل ـ سعةً وضیقاً ـ وکما‏‎ ‎‏یجوز الجعل علی أصل العمل یجوز جعله علی المقدّمات أیضاً ، ویترتّب الثواب‏‎ ‎‏علیها ، من دون أن نلتزم کونها عبادة برأسها ؛ إذ هو بعید جدّاً .‏

‏ویظهر عن عدّة من الأخبار ترتّبها علی مقدّمات بعض الأعمال ، کما فی‏

کتابت‍ه‍ذی‍ب الاص‍ول (ج.۱): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 352
‏زیارة إمام الطاهر أبی عبدالله الحسین ‏‏علیه السلام‏‏ ؛ حیث ورد الثواب علی کلّ خطوة لمن‏‎ ‎‏زاره ماشیاً‏‎[6]‎‏ .‏

وأمّا علی المسلک الثالث‏ الذی هو خلاف التحقیق فی جانب الثواب لأنّ من‏‎ ‎‏عرف مقام ربّه من الغناء والعظمة ، ومقام نفسه من الفقر والفاقة یعرف أنّ التفوّه‏‎ ‎‏بالاستحقاق دون التفضّل ممّا لایلیق أن یصدر إلاّ عمّن جهل بشؤون ربّه وغفل عن‏‎ ‎‏نقصان ذاته ، وأنّ کلّ ما ملکه من أعضاء وجوارح ونِعَم ـ کلّها ـ منه تعالی ،‏‎ ‎‏لا یستحقّ شیئاً إذا صرفه فی طریق عبودیته .‏

‏وکیف کان : فعلی فرض صحّة المبنی فهل یستحقّ الثواب علی الغیریات ،‏‎ ‎‏کما یستحقّه علی النفسیات أولا ؟‏

والحقّ هو الثانی‏ ؛ لأنّ الاستحقاق إنّما هو علی الطاعة ، ولایعقل ذلک فی‏‎ ‎‏الأوامر الغیریة ؛ لأنّها بمعزل عن الباعثیة ؛ لأنّ المکلّف حین إتیان المقدّمات لو کان‏‎ ‎‏قاصداً لامتثال الأمر النفسی فالداعی ـ حقیقة ـ هو ذلک الأمر دون الغیری ؛ لأنّ‏‎ ‎‏وجود النفسی ودعوته وإرادة المکلّف لامتثاله کافٍ فی إلزام العبد ومقهوریته فی‏‎ ‎‏تهیئة المبادئ ؛ وإن کان راغباً عنه معرضاً ، فلا معنی لإتیان المقدّمات لأجل ذیها ،‏‎ ‎‏کما هو مفاد الأوامر الغیریة .‏

‏فحینئذٍ : لم یکن الأمر الغیری داعیاً وباعثاً مطلقاً ، وما شأنه هذا لایعقل‏‎ ‎‏استحقاق الثواب علیه .‏

‏وما ربّما یتراءی فی الأخبار من الأمر بالجزء والشرط فهو إرشاد إلی جزئیته‏‎ ‎‏وشرطیته ، لا أنّه باعث وداعٍ نحوهما .‏


کتابت‍ه‍ذی‍ب الاص‍ول (ج.۱): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 353
‏وتوهّم استحقاق الثواب علیها باعتبار الواجب النفسی مدفوع ؛ بأنّ المراد‏‎ ‎‏من الاستحقاق فی المقام هو کون ترک الثواب ظلماً وقبیحاً وممتنعاً علیه تعالی .‏‎ ‎‏فحینئذٍ فالآتی بالمقدّمات لأجل التوصّل إلی ذیها ـ إذا فرضنا أنّه لم یأت بالواجب‏‎ ‎‏النفسی لعذر عقلی أو شرعی ـ فإن کان مستحقّاً للثواب لأجل الواجب الغیری فقد‏‎ ‎‏عرفت حاله من کون الاستحقاق فرع الطاعة ، وهو فرع کون أمره داعیاً وباعثاً ،‏‎ ‎‏وإن کان مستحقاً لأجل النفسی فهو لم یأت بمتعلّقه ، فکیف یستحقّ أجر ما لم‏‎ ‎‏یفعله ؟ فهو کمن تحمّل المشاقّ واستفرغ الوسع فی ردّ الضالّة ، ولم یتمکّن عنه ،‏‎ ‎‏فرجع آیساً ، فهل تجد من نفسک جواز القول باستحقاقه الأجر الذی عُیّن لردّها ، أو‏‎ ‎‏اُجرة المثل إذا أمر بالردّ بلا تعیّن الاُجرة ؟‏

فإن قلت :‏ إذا فرضنا شخصین أدرکهما الأجل لدی الزوال ، وکان أحدهما‏‎ ‎‏متطهّراً وممهّداً جمیع المقدّمات التی تحتاج إلیها الصلاة دون الآخر فإنّا نجد بین‏‎ ‎‏الرجلین فرقاً واضحاً ، کما نجده بین من أحرم للحجّ ممّا یقرب من مکّة ومن أحرم‏‎ ‎‏وتوجّه نحو الکعبة من أقاصی البلاد ، فهل هما سیّان فی المثوبة مع قلّة المشقّة فی‏‎ ‎‏أحدهما وکثرتها فی الآخر ؟‏

قلت :‏ إنّ ذلک خلط بین استحقاق العبد وممدوحیته بمعنی إدراک العقل صفاء‏‎ ‎‏نفسه وکونه بصدد إطاعة أمره ، وأنّه ذو ملکة فاضلة وسریرة حسنة ؛ ضرورة أنّ‏‎ ‎‏التهیّؤ بإتیان المبادئ مع عدم حصول ذیها لایوجب إلاّ کونه ممدوحاً لا مستحقّاً‏‎ ‎‏بمعنی کون ترکه ظلماً وجوراً .‏

‏وأمّا الفرق بین الإحرامین فواضح لایمکن إنکاره ، إلاّ أنّ زیادة المثوبة‏‎ ‎‏لیست لأجل المقدّمات ، بل الثواب کلّه علی نفس العمل ، لکن کثرة المشقّة وقلّتها‏

کتابت‍ه‍ذی‍ب الاص‍ول (ج.۱): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 354
‏جهات تعلیلیة لاتّصاف العمل بترتّب کثرة الثواب علیه وعدمه .‏

‏وبالجملة : أجر نفس العمل بحسب المقدّمات مختلف لا بمعنی التقسیط‏‎ ‎‏علیها ، بل یکون التفاوت بلحاظها . نعم ، لو لم یأت بنفس الحجّ مع تحمّل المشاقّ‏‎ ‎‏لا یستحقّ أجراً ، بل یستحقّ مدحاً .‏

فإن قلت :‏ إنّ هنا وجهاً آخر لتصحیح الأجر ؛ وهو أنّ الآتی بالمقدّمة بقصد‏‎ ‎‏التوصّل إلی ذیها مشتغل بامتثال الواجب النفسی ومستحقّ للمدح والثواب ، وهما‏‎ ‎‏من رشحات الثواب الذی عیّن للواجب النفسی‏‎[7]‎‏ .‏

قلت :‏ إنّ ذلک توسّع فی الإطلاق ، وإلاّ فالشروع فی الواجب النفسی لیس إلاّ‏‎ ‎‏بالشروع فیه دون مقدّماته . ثمّ إنّ الشروع فی الواجب لایوجب ثواباً ولا یوجب‏‎ ‎‏استحقاقاً مالم یأت بالمتعلّق بتمام أجزائه ، ولایکون ذلک إلاّ بإتمام الواجب لا‏‎ ‎‏بالشروع فیه ؛ فضلاً عن الشروع فی مقدّماته .‏

‏أضف إلیه : أنّ ما یترتّب علیه مـن الثواب أمر محـدود علی مفروضـه ؛‏‎ ‎‏لأنّ ما یترتّب علی المقدّمة عنده لیس لها ، بل من رشحات الثواب الذی‏‎ ‎‏للواجب النفسی .‏

‏فإذن لا معنی لأکثریة الثواب عند زیادة المقدّمات ، بل الثواب علی وزان‏‎ ‎‏واحد علی مبناه ـ سواء قلّت المقدّمات أم کثرت ـ فکلّما کثرت یکثر تقسیط ذلک‏‎ ‎‏الثواب علیها ، فالثواب مقدار محدود والتقسیط یقدّر مقدار المقدّمات . إلاّ أن یقال :‏‎ ‎‏إنّ کثرة الثواب بلحاظ المقدّمات علی ذیها ثمّ یترشّح منه إلیها ، وهذا تخرّص بعد‏‎ ‎‏تخرّص ، والتحقیق ما عرفت .‏

‎ ‎

کتابت‍ه‍ذی‍ب الاص‍ول (ج.۱): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 355

  • )) الحکمة المتعالیة 7 : 82 و 9 : 175 ـ 179 و 290 ـ 296 .
  • )) الأنعام (6) : 160 .
  • )) تشریح الاُصول : 111 / السطر13 و 114 / السطر10 .
  • )) اُنظر نهایة الدرایة 1 : 300 .
  • )) کشف المراد : 407 ـ 408 ، إرشاد الطالبین : 413 .
  • )) راجع وسائل الشیعة 14 : 439 ، کتاب الحجّ ، أبواب المزار ، الباب41 .
  • )) بدائع الأفکار (تقریرات المحقّق العراقی) الآملی 1 : 375 .