مقال المحقّق النائینی فی تحریر محلّ النزاع و دفعه

مقال المحقّق النائینی فی تحریر محلّ النزاع ودفعه

‏ ‏

‏إنّ بعض الأعاظم من أهل العصر حرّر النزاع علی خلاف ما هو المعروف ،‏‎ ‎‏وحاصله : أنّه لا إشکال فی خروج المقدّمات العقلیة وعدم جواز تأخّرها عن‏‎ ‎‏معالیلها .‏

‏کما لا إشکال فی خروج العناوین الانتزاعیة ؛ لأنّها إنّما تنتزع عمّا تقوم به ،‏‎ ‎‏ولیس للطرف الآخر دخل فی انتزاعها عن منشأها ؛ لأنّ السبق إنّما ینتزع من نفس‏‎ ‎‏السابق بالقیاس إلی ما یوجد بعد ذلک ، وکذا اللحوق من اللاحق ، ولادخل بشیء‏‎ ‎

کتابت‍ه‍ذی‍ب الاص‍ول (ج.۱): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 307
‏منهما فی انتزاع العنوان عن صاحبه فما فرض شرطاً هو المقارن لا المتأخّر .‏

‏کما أنّ التحقیق خروج شرائط المأمور به من حریـم النزاع ؛ بداهة أنّ‏‎ ‎‏شرطیة شیء للمأمور به لیست إلاّ بمعنی أخذه قیداً فی المأمور به ، فکما یجوز‏‎ ‎‏تقییده بأمر سابق أو مقارن کذلک یجوز تقییده بأمر لاحق ، فلا ینبغی الاستشکال‏‎ ‎‏فی جواز تأخّر شرط المأمور به عن مشروطه ؛ إذ لایجاوز الشرط بالمعنی المزبور‏‎ ‎‏عن الجزء الدخیل فی المأمور به تقیّداً وقیداً ، بل لایعقل تعلّق الأمر بالانتزاعیات ،‏‎ ‎‏فلابدّ من إرجاعه إلی القید . فکما أنّ الأمر بالمرکّب یتعلّق بکلّ واحد من أجزائه‏‎ ‎‏فکذلک الأمر بالمقیّد یتعلّق بقیده . فامتثال الأمر المتعلّق بما تقیّد بقید متأخّر إنّما‏‎ ‎‏یکون بإتیان الشرط المتأخّـر ، کما أنّ امتثال المرکّب التدریجی إنّما هو بإتیان‏‎ ‎‏الجزء الأخیر .‏

‏وأمّا شرائط الجعل والعلل الغائیة : فبما أنّها لاتکون بوجودها الخارجی‏‎ ‎‏مؤثّرة فی الحکم ، بل بوجودها العلمی فلا محالة یکون مقارناً مع الجعل ، فالنزاع‏‎ ‎‏ینحصر فی شرائط الحکم المجعول .‏

‏وتوضیحه : أنّ القضایا إمّا خارجیة ؛ وهی التی یکون الموضوع فیها‏‎ ‎‏الأشخاص الموجودة فی الخـارج فی زمان الحکم ، فلا یتوقّف الحکم فیها‏‎ ‎‏علی غیر دواعی الحکم المؤثّرة فیه بوجودهـا العلمی ؛ طابـق الواقـع أم لا ،‏‎ ‎‏فیخرج عن محطّ الکلام ؛ فإنّ الحکم فیها یدور مدار علم الحاکم ؛ کان المعلوم‏‎ ‎‏مقارناً أم مؤخّراً .‏

‏وإمّا حقیقیة ؛ وهی التی حکم فیها بثبوت الحکم علی الموضوعات المحقّق‏‎ ‎‏أو المقدّر وجودها ، فیحتاج الحکم فیها إلی أمرین :‏


کتابت‍ه‍ذی‍ب الاص‍ول (ج.۱): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 308
‏أحدهما : ما یکون داعیاً إلی جعل الحکم ، وهو أیضاً کالعلل الغائیة خارج‏‎ ‎‏عن البحث .‏

‏وثانیهما : ما یکون موضوعاً له وقد اُخذ مفروض الوجود فی مقام الحکم ،‏‎ ‎‏والشرائط داخلة فی ذلک القسم ؛ لأنّ شرائط الحکم ترجع إلی قیود الموضوع ،‏‎ ‎‏وهذا هو الذی وقع محلّ البحث .‏

‏والحقّ : امتناع الشرط المتأخّر منه ؛ سواء قلنا بأنّ المجعول هی السببیة‏‎ ‎‏وأمثالها ، أو المجعول هو الحکم عند وجود السبب :‏

‏أمّا الأوّل فواضح ؛ لأنّه یرجع إلی تأخّر أجزاء العلّة الفعلیة عن المعلول ،‏‎ ‎‏وأمّا الثانی فللزوم الخلف والمناقضة من وجود الحکم قبل وجود موضوعه ، وقد‏‎ ‎‏عرفت أنّ الشرائط ـ کلّها ـ ترجع إلی قیود الموضوع‏‎[1]‎‏ ، انتهی ملخّصاً .‏

ولایخفی : أنّ فی کلامه مواقع للنظر :

‏أمّا أوّلاً :‏‏ فلأنّ خروج العلل العقلیة إنّما هو لعدم وجود ملاک البحث فیها ،‏‎ ‎‏الذی یتعلّق به غرض الفقیه ؛ فإنّ البحث عن التکوین لیس من شؤون المجتهد حتّی‏‎ ‎‏یبحث عنه ویجزم بأحد الطرفین .‏

وثانیاً :‏ أنّ خروج الانتزاعیات وإن کان صحیحاً ، وإنّما انجرّ الکلام إلیها لدفع‏‎ ‎‏الإشکال ، لکن خروجها لیس بالملاک الذی قرّره من جواز انتزاعها عمّا تقوم به ،‏‎ ‎‏من غیر دخالة الطرف الآخر فیه ؛ لأنّه إن أراد أنّ العنوان الانتزاعی الإضافی ینتزع‏‎ ‎‏من غیر إضافة إلی الطرف الآخر فهو واضح البطلان ، مع أنّه صرّح بأنّ السبق ینتزع‏‎ ‎

کتابت‍ه‍ذی‍ب الاص‍ول (ج.۱): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 309
‏من نفس السابق بالقیاس إلی  ما یوجد بعد ذلک .‏

‏وإن أراد أنّه ینتزع منه فعلاً بالقیاس إلی ما سیصیر طرف الإضافة ، من غیر‏‎ ‎‏أن یکون الطرف موجوداً بالفعل فهو مثله ؛ لأنّ کون المنتزع موجوداً بالفعل مع عدم‏‎ ‎‏منشأ له یکفی فی بطلانه أدنی تصوّر ، وهل هذا إلاّ کادّعاء جواز انتزاع الاُبوّة من‏‎ ‎‏طفلٍ نعلم أنّه سیولد له ولد ؟‏

‏وإن أراد أنّ المعدوم مضاف إلیه فعلاً فهو أوضح بطلاناً .‏

‏وإن تعجب فعجبٌ قوله وإصراره بأنّه لایتوقّف انتزاع عنوان عن شیء علی‏‎ ‎‏وجود المتأخّر فی موطن الانتزاع ؛ لأنّ عنوان التقدّم ینتزع من الیوم الحاضر ؛‏‎ ‎‏لتحقّق الغد فی موطنه ؛ إذ فیه الخلط بین التقدّم الذاتی وبالواقع ، وبین التقدّم بالمعنی‏‎ ‎‏الإضافی المقولی ، وقد مرّ وجه انتزاع العرف مفهوم التقدّم من الیوم قبل حلول الغد .‏

‏فإن قلت : فرق واضح بین الاُبوّة وبین المفاهیم الانتزاعیة المتضائفة ؛ فإنّ‏‎ ‎‏الاُولی التی ربّما یعتمد علیها فی إثبات تکافؤ المتضائفین لها ماهیة ووجود ، وهذا‏‎ ‎‏بخلاف الانتزاعیات ؛ فإنّه لا وجود لها حتّی تنزع الماهیة من حدودها ، سوی کونها‏‎ ‎‏موجودة بوجود منشأ انتزاعها .‏

‏قلت : کون شیء ذا ماهیة ووجود لایجدی فی المقام ؛ إذ البحث فی‏‎ ‎‏الانتزاعیات التی هی مفاهیم إضافیة ، ولاینتزع إلاّ وینتزع معه معنی إضافی آخر ،‏‎ ‎‏والبرهان المبرم فی محلّه من تکافؤ المتضائفین‏‎[2]‎‏ جارٍ فی الجمیع .‏

وثالثاً :‏ أنّ القول بأنّ الأمر بالمقیّد یتعلّق بقیده من العجائب ؛ إذ لازم ذلک‏‎ ‎‏انقلاب الشرط عن کونه شرطاً إلی کونه جزءً . والحقّ : أنّ الأمر متعلّق بالطبیعة‏‎ ‎

کتابت‍ه‍ذی‍ب الاص‍ول (ج.۱): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 310
‏المتقیّدة ، وتحصیل التقیّد بإیجاد القید عقلی .‏

ورابعاً :‏ فإنّ إخراج شرائط المأمور به ممّا لا وجه له ؛ لأنّ الکلام لیس فی‏‎ ‎‏تقیّد المرکّب بقید خارجی ، بل فی صحّة المأمور به فعلاً ـ أعنی صوم المستحاضة‏‎ ‎‏إذا أتت بالأغسال المستقبلة ـ والإشکال المتوهّم فی هذا الباب جارٍ فی الأجزاء‏‎ ‎‏أیضاً لو قیل بصحّة الجزء الأوّل ، کصحّة التکبیرة بالفعل ، مع کونها مشروطة بوقوع‏‎ ‎‏الأجزاء الاُخر ، فلا ینفع الفرار عن الإشکال بجعل شرائط المأمور به من قبیل‏‎ ‎‏الأجزاء حکماً .‏

وخامساً‏ ـ بعد تسلیم إمکان القضیة الحقیقیة فی الإنشائیات ـ : أنّه لا وجه‏‎ ‎‏لتخصیص الامتناع علی الحقیقیة ، بل الخارجیة مثلها فی الامتناع ، فلو حکم المولی‏‎ ‎‏القائل بشرطیة الإجازة بصحّة عقد معیّن ، کقول رسول الله  ‏‏صلی الله علیه و آله وسلم‏‏ فی بیع عروة‏‎[3]‎‏ ‏‎ ‎‏فیسری الإشکال إلیه أیضاً ، فیقال : کیف صحّ العقد من أوّله مع عدم اقترانه‏‎ ‎‏بالشرط ؟‏

‏والقول بأنّ الخارجیة لایتوقّف إلاّ علی شرائط الجعل ؛ وهی الشرائط العلمیة‏‎ ‎‏التی تؤثّر بوجودها العلمی لا العینی ، عجیب جدّاً ؛ إذ الخلط حصل من بعض‏‎ ‎‏الأمثلة الجزئیة ، وقد عرفت خلافه فی توقّف البیع الشخصی علی الإجازة .‏

‏فتلخّص : أنّ البحث لملاکه عامّ یشمل شرائط الجعل کالقدرة المتأخّرة ،‏‎ ‎‏وشرائط المکلّف به کالأغسال المتأخّرة ، وشرائط الوضع کالإجازة فی البیع‏‎ ‎‏الفضولی ـ بناءً علی الکشف ـ والجواب هو الجواب .‏

‎ ‎

کتابت‍ه‍ذی‍ب الاص‍ول (ج.۱): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 311

  • )) فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 1 : 271 ـ 280 ، أجود التقریرات 1 : 220 ـ 226 .
  • )) الحکمة المتعالیة 2 : 109 ـ 111 و 4 : 188 ـ 198 ، شرح المنظومة ، قسم الحکمة : 145 .
  • )) عوالی اللآلی 3 : 205 / 36 ، مستدرک الوسائل 13 : 245 ، کتاب التجارة ، أبواب عقد البیع وشروطه ، الباب 18 ، الحدیث 1 .