الرابع‏: فی تحریر الأصل العملی فی المقام

الرابع : فی تحریر الأصل العملی فی المقام

‏ ‏

‏لا ریب فی جریان البراءة العقلیة علی القول بإمکان الأخذ فی المتعلّق ؛ إذ‏‎ ‎‏یصیر قصد الأمر ـ حینئذٍ ـ کسائر القیود العرضیة ، فیتحقّق موضوع البراءة الذی هو‏‎ ‎‏قبح العقاب بلا بیان .‏

‏وأمّا علی القول بامتناع الأخذ فربّما یؤخذ هنا بقاعدة الاشتغال عقلاً ، مع‏‎ ‎‏تسلیم جریان البراءة فی الأقلّ والأکثر الارتباطیین ؛ قائلاً بأنّ الشکّ فی المقام فی‏‎ ‎‏کیفیة الخروج من عهدة التکلیف المعلوم ثبوته ، فلا یکون العقاب علی ترکه عقاباً‏

کتابت‍ه‍ذی‍ب الاص‍ول (ج.۱): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 228
‏بلا بیان ، ولکن الشکّ فی الارتباطیین فی کمّیة المتعلّق قلّةً وکثرةً ، فعلیه البیان‏‎ ‎‏بشراشر أجزائه وشرائطه‏‎[1]‎‏ .‏

‏وإن شئت قلت : إنّ تحصیل الغرض مبدأ للأمـر ، فإذا علم أصل الغرض‏‎ ‎‏وشکّ فی حصولـه ـ للشکّ فی کون المأتی به مسقطاً للغرض وحـده بلا قید‏‎ ‎‏التقرّبیة ـ فلا محالة یجب القطع بتحصیل الغرض بإتیان جمیع ما له دخـل فی ذلک ؛‏‎ ‎‏ولو احتمالاً‏‎[2]‎‏ .‏

وفیه :‏ أنّه لا معنی لسقوط الأمر إلاّ إیجاد ما أمر به المولی وبعث المکلّف‏‎ ‎‏إلیه وتمّت حجّته بالنسبة إلیه ، فلو امتثـل کذلک وأوجد ما تعلّق به العلم وما تمّ‏‎ ‎‏البیان علیه وقامت الحجّـة علیه لا یتصوّر ـ حینئذٍ ـ لـه البقاء علی صفة الحجّیـة ؛‏‎ ‎‏إذ لو کان دخیلاً فی الطاعة وفی تحقّق المأمور به لما جاز له الکفّ عن البیان ؛‏‎ ‎‏ولو بدلیل آخر .‏

‏والاکتفاء بحکم العقل بالاشتغال فی المقام مدفوع بأنّه ـ بعد الغضّ عن أنّ‏‎ ‎‏المورد داخل فی مجری البراءة ـ إنّما یفید لو کان من الواضحات عند عامّة‏‎ ‎‏المکلّفین ؛ بحیث یصحّ الاتّکال علیه ، لا فی مثل المقام الذی صار مطرحاً للأنظار‏‎ ‎‏المختلفة والآراء المتشتّتة .‏

أضف إلی ذلک :‏ أنّه لا فارق بین المقامین ، وما ذکر من البرهان لإثبات‏‎ ‎‏الاشتغال جارٍ فی الأقلّ والأکثر أیضاً ؛ إذ القائل بالاشتغال هناک یدّعی أنّ الأمر‏‎ ‎‏بالأقلّ معلوم ونشکّ فی سقوطه لأجل ارتباطیة الأجزاء‏‎[3]‎‏ ، أو أنّ الغرض‏‎ ‎

کتابت‍ه‍ذی‍ب الاص‍ول (ج.۱): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 229
‏المستکشف من الأمر معلوم ونشکّ فی سقوطه بإتیان الأقلّ ، فیجب الإتیان بکلّ ما‏‎ ‎‏احتمل دخله فی الغرض‏‎[4]‎‏ .‏

‏هذا ، مع أنّ مجرّد عدم إمکان تقیید المأمور به لایوجب عدم إمکان البیان‏‎ ‎‏مستقلاًّ ـ کما مرّت إلیه الإشارة ـ إذ لو توقّف حصول غرض المولی علی أمر وراء‏‎ ‎‏المأمور به وجب علیه البیان .‏

‏ولک أن تقول : إنّ ما اشتهر من وجوب تحصیل العلم بحصول أغراض المولی‏‎ ‎‏ومقاصده لایرجع إلی محصّل ؛ إذ الأغراض إن کانت حاصلة بنفس ما وقع تحت‏‎ ‎‏دائرة البیان فما هو واجب تحصیله ـ حینئذٍ ـ فی محیط العبودیة هو ما تعلّق به‏‎ ‎‏البیان ؛ من الأجزاء والشرائط ، ویتبعه الغرض فی الحصول ، وإن کانت غیر حاصلة‏‎ ‎‏إلاّ بضمّ ما لم تقم علیه حجّة بعدُ ، فلا نسلّم وجوب تحصیله ، وهذا لاینافی ما‏‎ ‎‏سیأتی من وجوب تحصیل الغرض المعلوم اللازم الحصول‏‎[5]‎‏ . مع إمکان أن یقال :‏‎ ‎‏إنّه یستکشف من عدم البیان أنّ الغرض قائم بالمبیّن .‏

وأمّا البراءة الشرعیة :‏ فتارة یفرض الکلام فیما إذا جاز تقیید المأمور به‏‎ ‎‏بالقیود الآتیة من قبل الأمر ، واُخری فیما إذا لم یجز ذلک إلاّ بأمر آخر ، وثالثة‏‎ ‎‏فیما لایجوز مطلقاً . وعلی أیّ حال : تارة یفرض مع القول بجریان البراءة العقلیة‏‎ ‎‏فی قصد الأمر ، واُخری مع القول بعدمه . فالصور المتصوّرة ستّة . والأقوی جریانها‏‎ ‎‏فی جمیع الصور .‏

‏وربّما یقال‏‎[6]‎‏ بعدم جریانها مطلقاً علی القول بالاشتغال العقلی ، وجریانها‏‎ ‎

کتابت‍ه‍ذی‍ب الاص‍ول (ج.۱): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 230
‏علی القول بجریان البراءة العقلیة ، إلاّ فیما لایمکن أخذ القید فی المأمور به ؛ ولو‏‎ ‎‏بأمر آخر . فالصور الممنوعة أربعة :‏

أمّا الاُولی ‏ـ أعنی عدم الجریان فیما إذا أمکن الأخذ فی المأمور به بأمر‏‎ ‎‏واحد مع القول بالاشتغال العقلی ـ فلقصور أدلّة البراءة النقلیة عن شمول مثل‏‎ ‎‏المورد ؛ فإنّ ملاکها هو کون الأمر المشکوک فیه إذا لم یأمر به المولی کان ناقضاً‏‎ ‎‏لغرضه ، والمورد لیس کذلک ؛ فإنّ القید المزبور ـ علی فرض دخالته ـ یجوز‏‎ ‎‏للمولی الاتّکال علی حکم العقل بالاشتغال ، ولا یوجب عدم البیان نقض الغرض .‏‎ ‎‏ولیس المدّعی أنّ حکم العقل بالاحتیاط رافع لموضوع البراءة حتّی یستشکل‏‎ ‎‏بلزوم الدور ، بل المدّعی قصور أدلّة البراءة عن مثل المورد ، انتهی .‏

وفیه :‏ أنّا لا نری قصوراً فی أدلّتها ولا انصرافاً فی إطلاقاتها بعد کون‏‎ ‎‏الموضوع قابلاً للرفع والوضع ، بل جریانها فیما یحکم العقل بالاشتغال أولی وأقرب‏‎ ‎‏من جریانها فیما یکون المورد محکوماً بالبراءة العقلیة ؛ إذ ظاهر الأدلّة هو المولویة‏‎ ‎‏لا الإرشاد ، فیصحّ إعمالها بالحکم بالبراءة فیما لولاها لکان محکوماً بالاشتغال‏‎ ‎‏عقلاً ، وهذا بخلاف ما إذا اتّحدا مفاداً ونتیجة ؛ بأن یکون مجری البراءة عقلاً‏‎ ‎‏وشرعاً ؛ إذ حکمه ـ حینئذٍ ـ یصیر إرشادیاً محضاً .‏

وأمّا الصورة الثانیة‏ ـ أعنی مالا یمکن الأخذ إلاّ بأمر آخر مع الاشتغال‏‎ ‎‏عقلاً ـ فلأنّ جریان البراءة لایثبت أنّ متعلّق الأمر الأوّل تمام المأمور به إلاّ علی‏‎ ‎‏القول بالأصل المثبت ، بخلاف ما إذا قلنا بإمکان الأخـذ فی متعلّق الأمر الأوّل ؛‏‎ ‎‏فإنّ الشکّ یرجع إلی انبساط الأمر علی الجزء والقید المشکوک فیه . فمع جریان‏‎ ‎‏البراءة یکون باقی الأجزاء بنظر العرف تمام المأمور به ، فیکون من قبیل خفاء‏‎ ‎‏الواسطة ، انتهی .‏


کتابت‍ه‍ذی‍ب الاص‍ول (ج.۱): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 231
وفیه أوّلاً :‏ أنّ القول بوجوب العلم بکون المأتی به تمام المأمور به من قبیل‏‎ ‎‏الالتزام بشیء لایجب الالتزام به ؛ إذ الواجب لیس عنوان تمام المطلوب حتّی یجب‏‎ ‎‏إحرازه ، بل ما قامت علیه الحجّة واستوفاه البیان ؛ سواء اُحرز کونه تمام المأمور به‏‎ ‎‏أم لا ، هذا .‏

وثانیاً :‏ أنّ رفع الجزء المشکوک فیه ملازم عقلاً لکون البقیة تمام المطلوب ،‏‎ ‎‏وهذا عین الأصل المثبت ، من غیر فرق بین وحدة الأمر وتعدّده .‏

وثالثاً :‏ أنّ الأمر الثانی ناظر إلی متعلّق الأمر الأوّل بتصرّف فیه ببیان قیده‏‎ ‎‏وشرطه ، ولیس مفاده أمراً مستقلاًّ ـ وإن شئت فسمّه بتتمیم الجعل ـ فیری العرف‏‎ ‎‏هذین الأمرین ـ بعد التوجّه إلی الناظریة ـ أمراً واحداً . وعلیه فلو کان هنا خفاء‏‎ ‎‏الواسطة یکون فی الموردین بلا فرق بینهما .‏

وأمّا الصورة الثالثة والرابعة‏ ـ أعنی عدم إمکان الأخذ مطلقاً ؛ سواء قلنا‏‎ ‎‏بالبراءة العقلیة أم لا ـ فلأنّ جریانها موقوف علی کون المشکوک فیه قابلاً للوضع‏‎ ‎‏والرفع شرعاً ، ومع عدم جواز الأخذ لایمکن الوضع ، فلایمکن الرفع . ودخله فی‏‎ ‎‏الغرض واقعی تکوینی غیر قابل للوضع والرفع التشریعیین ، وغیر المفروض من‏‎ ‎‏القیود وإن کان دخله تکوینیاً لکنّه لمّا کان قابلاً لهما یجوز التمسّک بدلیل الرفع‏‎ ‎‏لرفعه ، انتهی .‏

وفیه :‏ أنّا لا نتصوّر للمفروض مصداقاً ؛ إذ کیف یمکن دخالة شیء فی‏‎ ‎‏الغرض ، ولایمکن للمولی بیانه وإظهاره ؟ وعلیه لامحیص عن جریان أدلّة الرفع‏‎ ‎‏بعد إمکان وضعه فی نظائر المقام .‏

‎ ‎

کتابت‍ه‍ذی‍ب الاص‍ول (ج.۱): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 232

  • )) نهایة الدرایة1 : 345 .
  • )) نفس المصدر 1 : 342 .
  • )) الفصول الغرویة : 357 / السطر 11 .
  • )) کفایة الاُصول : 414 .
  • )) یأتی فی الصفحة 258 .
  • )) بدائع الأفکار (تقریرات المحقّق العراقی) الآملی 1 : 243 .