إمکان أخذ قصد الأمر فی المتعلّق بأمرین مستقلین

إمکان أخذ قصد الأمر فی المتعلّق بأمرین مستقلین

‏ ‏

‏بقی شیء : وهو أنّه علی القول بامتناع الأخذ فهل یمکن تصحیحه بأمرین :‏‎ ‎‏أحدهما متعلّق بنفس الطبیعة ، والآخر بالإتیان بها بداعی الأمر بها .‏

واستشکل المحقّق الخراسانی :‏ بأنّه مع القطع بأنّه لیس فی العبادات إلاّ أمر‏‎ ‎‏واحد کغیرها : أنّ الأمر الأوّل إن یسقط بمجرّد موافقته ـ ولو لم یقصد الامتثال ـ فلا‏‎ ‎‏یبقی مجال لموافقة الثانی بعد موافقة الأوّل ، فلا یتوسّل الآمر إلی غرضه بهذه‏‎ ‎‏الوسیلة ، وإن لم یسقط فلا یکون إلاّ لعدم حصول الغرض ، ومعه لایحتاج إلی‏‎ ‎‏الثانی ؛ لاستقلال العقل بوجوب الموافقة بما یحصل به الغرض‏‎[1]‎‏ .‏

وفیه وجوه من النظر :


کتابت‍ه‍ذی‍ب الاص‍ول (ج.۱): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 219
أمّا أوّلاً :‏ فإنّک قد عرفت أنّ ألفاظ العبادات موضوعة لمعنی غیر مقیّد‏‎ ‎‏بشرائط آتیة من قبل الأمر ؛ سواء قلنا بکونها موضوعة للصحیح أم للأعمّ ؛ إذ‏‎ ‎‏الشرائط الآتیة من قبل الأمر خارجة من حریم النزاع والموضوع له اتّفاقاً .‏

‏فإذن نفس الأوامر المتعلّقة بالطبائع غیر متکفّلة لإفادة شرطیتها ؛ لخروجها‏‎ ‎‏من الموضوع له ، فلابدّ من إتیان بیان منفصل لإفادتها بعد امتناع أخذها فی‏‎ ‎‏المتعلّق ، بل مع جوازه أیضاً یکون البیان ـ لا محالة ـ منفصلاً ؛ لعدم عین وأثر منها‏‎ ‎‏فی الأوامر المتعلّقة بالطبائع . والإجماع والضرورة القائمتان علی لزوم قصد الأمر أو‏‎ ‎‏التقرّب فی العبادات یکشفان عن وجود أمر آخر ، کما لایخفی .‏

‏وإن شئت قلت : إنّا نختار الشقّ الثانی من کلامه ؛ وهو أنّ الأمر الأوّل‏‎ ‎‏لایسقط بمجرّد الإتیان ؛ لقیام الإجماع والضرورة علی اعتباره فی صحّة العبادات ،‏‎ ‎‏ولکن یستکشف حینئذٍ عن ورود تقیید لمتعلّق الطبائع ؛ لکون الصحّة وعدمها‏‎ ‎‏دائرتین مداره ، کما یستکشف بهما وجود أمر آخر ودلیل منفصل إذا قلنا بعدم جواز‏‎ ‎‏الأخذ فی المتعلّق ، کما هو المفروض فی کلامه ‏‏قدس سره‏‏ .‏

وثانیاً :‏ أنّ ما ذکره فی آخر کلامه من استقلال العقل بوجوب الموافقة بما‏‎ ‎‏یحصل به الغرض غیر صحیح ؛ لأنّ مرجعه إلی أنّ العقل یستقلّ بالاشتغال ، ومعه‏‎ ‎‏لامجال لأمر مولوی .‏

وفیه‏ ـ مضافاً إلی جریان البراءة فی المورد ، کما سیأتی بیانه‏‎[2]‎‏ ـ أنّ حکم‏‎ ‎‏العقل بالاشتغال لیس ضروریاً ، بل أمر نظری تضاربت فیه الأفکار ، واکتفاء الشارع‏‎ ‎‏بحکمه إنّما یصحّ لو کان الحکم بالاشتغال مقتضی جمیع العقول ، ومع هذا‏

کتابت‍ه‍ذی‍ب الاص‍ول (ج.۱): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 220
‏الاختلاف یبقی مجال لإعمال المولویة ؛ ولو لأجل ردّ القائلین بالبراءة .‏

‏والحاصل : أنّ ما قرع سمعک من انتفاء مناط المولویة فی موارد الأحکام‏‎ ‎‏العقلیة لیس بالمعنی الذی تتلقّاه من الأفواه ، بل له حدود وشروط .‏

وثالثاً :‏ أنّ ما أفاده من أنّ المولی لایتوسّل بغرضه بهذه الوسیلة مدفوع بأنّ‏‎ ‎‏ترک الأمر الثانی ـ ولو برفع موضوعه ـ موجب للعقوبة ؛ فیحکم العقل بلزوم إطاعته ،‏‎ ‎‏ولیس للمولی وسیلة إلی التوسّل بأغراضه إلاّ الأمر والإیعاد بالعقاب علی ترکه .‏

‎ ‎

توهّم ودفع

‏ ‏

‏ربّما یختلج فی البال : أنّه إذا فرضنا أنّ المصلحة قائمة بالطبیعة المقیّدة بقصد‏‎ ‎‏الأمر ـ کما هو المفروض فی العبادات ؛ إذ روحها هو التقرّب وقصد الامتثال أو ما‏‎ ‎‏یقوم مقامهما ، وإلاّ لصار لزوم إتیانها مع القربة لغواً ـ یکشف هذا عن خلوّ الطبیعة‏‎ ‎‏المجرّدة عن القید من المصلحة . فحینئذٍ لایمکن أن تتعلّق الإرادة بالمجرّد عن القید‏‎ ‎‏ثبوتاً ، کما لایمکن البعث الحقیقی إلیه ؛ إذ الحکم ؛ أعنی البعث ومبدئه ـ الذی هو‏‎ ‎‏الإرادة ـ یتّبعان الملاک الذی هو المصلحة بالضرورة ، ومع فرض عدمها لاینقدح‏‎ ‎‏الإرادة ، کما لایقع مورد البعث .‏

إذا عرفت هذا فنقول :‏ إذا فرضنا أنّ الأمر المتعلّق بنفس الطبیعة الخالیة عن‏‎ ‎‏القید لیس صالحاً للباعثیة فکیف یمکن الأمر ثانیاً بالإتیان بها بباعثیة الأمر‏‎ ‎‏وداعویته ؟ بل لا یمکن للمولی أن یأمر بالإتیان بها بداعی أمره ، بعد ما فقدت‏‎ ‎‏المصلحة وخلت عن الإرادة ولم تقع مورد البعث الحقیقی .‏

ثمّ‏ إنّه لو فرضنا تعلّق الأمر به ، لکنّه لایکون إلاّ أمراً صوریاً ؛ أعنی ما لا‏‎ ‎‏یترتّب علیه غرض ، ولایکون ذا مصلحة وفائدة . وقصد هذا الأمر الصوری لا یکون‏

کتابت‍ه‍ذی‍ب الاص‍ول (ج.۱): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 221
‏مقرّباً ، بل القصد وعدمه سواء ؛ فلا یصل المولی إلی مطلوبه بهذه الوسیلة أیضاً .‏

قلت :‏ إنّ الإشکال ـ بل الإشکالین ـ لأجل مغالطة فی البین ؛ إذ ما زعم من‏‎ ‎‏امتناع تعلّق الإرادة والبعث بالطبیعة المجرّدة عن القید إنّما هو فیما إذا کان المولی‏‎ ‎‏مکتفیاً به ، وأمّا إذا صار بصدد إفهام القید بدلیل آخر فلا نسلّم امتناعه ، بل إذا کان‏‎ ‎‏الغرض قائماً بوجود مرکّب أو مقیّد کما یجوز أن یأمر بالأجزاء دفعة ، کذلک یجوز‏‎ ‎‏أن یبعث إلی الأجزاء واحداً بعد واحد .‏

‏وبذلک یظهر لک مقرّبیة هذا الأمر فیما نحن فیه ؛ لأنّ تمام المحصّل للغرض‏‎ ‎‏هو الطبیعة مع قصد أمرها ، ففرق بین المقام الذی یکون قصد الأمر قیداً متمّاً‏‎ ‎‏للغرض وبین سائر القیود التی لم یکن بتلک المثابة ، فعلی الأوّل یکون قصد الأمر‏‎ ‎‏المتعلّق بالطبیعة محصّلاً للغرض ومقرّباً من المولی بخلاف الثانی ، فلا تغفل .‏

‏ ‏

‏ ‏

‏ ‏

‎ ‎

کتابت‍ه‍ذی‍ب الاص‍ول (ج.۱): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 222

  • )) کفایة الاُصول : 96 .
  • )) یأتی فی الصفحة 230 .