فیما استدلّ به للقائلین بامتناع الأخذ ذاتاً
أمّا الأوّل ـ أعنی القول بالامتناع الذاتی ـ : فقد قرّر بوجوه :
منها : أنّه یستلزم تقدّم الشیء علی نفسه ؛ لأنّ الأحکام أعراض للمتعلّقات ، وکلّ عرض متأخّر عن معروضه ، وقصد الأمر والامتثال متأخّر عن الأمر برتبة ، فأخذه فی المتعلّقات ، موجب لتقدّم الشیء علی نفسه برتبتین .
ومنها : أنّ الأمر یتوقّف علی الموضوع ، والموضوع یتوقّف علی الأمر ؛ لکون قصده متوقّفاً علیه ، فیلزم الدور .
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 208
ومنها : أنّ الأخذ موجب لتقدّم الشیء علی نفسه فی مراحل الإنشاء والفعلیـة والامتثال :
أمّا فی مرحلة الإنشاء فلأنّ ما اُخذ فی متعلّق التکلیف فی القضایا الحقیقیة لابدّ وأن تکون مفروض الوجود ؛ سواء کان تحت قدرة المکلّف أولا ، فلو اُخذ قصد الامتثال قیداً للمأمور به فلا محالة یکون الأمر مفروض الوجود فی مقام الإنشاء ، وهذا عین تقدّم الشیء علی نفسه .
وأمّا الامتناع فی مقامی الفعلیة والامتثال فیرجع إلی القول الثانی أعنی الامتناع بالغیر وسیأتی الکلام فیه .
وأنت خبیر : علی أنّ هذه الوجوه غیر خالیة عن المغالطة :
أمّا الأوّل : فلأنّ الأحکام لیست من قبیل الأعراض القائمة بالمتعلّقات ؛ إذ المراد من الحکم إن کان هو الإرادة باعتبار کونها مبدأ للبعث ففیه : أنّها قائمة بالنفس قیام المعلول بعلّته ، ولها إضافتان : إضافة إلی علّته ـ أی النفس ـ وإضافة إلی المتصوّر ـ أعنی الصورة العلمیة للمراد ـ فهی کإضافة العلم إلی المعلوم بالذات فی کلتا الإضافتین .
وإن کان المراد هو الوجوب والندب وغیرهما فهی اُمور اعتباریة لاخارج لها وراء الاعتبار حتّی تکون قائمة بالموضوعات أو المتعلّقات .
ولو فرضنا کونها من قبیل الأعراض لکنّها لیست من الأعراض الخارجیة ؛ بأن یکون العروض فی الخارج ؛ ضرورة أنّ الصلاة بوجودها لایعقل أن تکون
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 209
معروضة للوجوب ومحلاًّ لثبوته ؛ لأنّ الخارج ظرف سقوطه علی وجه لا ثبوته ، فإذن لامحیص عن القول بکونها أعراضاً ذهنیة ؛ سواء کانت عارض الوجود الذهنی أو الماهیة ، علی فرق بینهما .
وبذلک یندفع ما توهّم من تقدّم الشیء علی نفسه ؛ إذ المتعلّقات بشراشر أجزائها ممکنـة التعقّل قبل تصوّر الأمر ، وإن کان فی الوجود الخارجی علی عکسه ، فالأحکام ـ علی فرض تسلیم کونها من قبیل الأعراض ـ متعلّقة بالمعقول الذهنی علی تحقیق ستعرفه ، والمعقول بتمام قیوده متقدّم علی الأمر فی ذلک الوعاء .
أضف إلی ذلک : أنّ هنا فرقاً بین الأجزاء الدخیلة فی ماهیة المأمور بها وبین ما هو خارج عنها ـ وإن کانت قیداً لها ـ إذ جزئیة الاُولی ودخالتها فیها إنّما هو بنفس لحاظ الماهیة من غیر لزوم لحاظ مستأنف ، بخلاف الثانیة ؛ إذ قولک «صلّ مع الطهور» تقیید لها بلحاظ ثان وتصوّر مستأنف بعد تصوّر الصلاة . ولا فرق بین قصد
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 210
الأمر والطاعة وبین سائر القیود فی لزوم لحاظ مستأنف فی مقام التقیید ، ومعه یندفع الإشکال .
وأمّا الوجه الثانی : فیعلم ما فیه بما أوضحناه ؛ إذ هو مبنی علی ما هو خلاف التحقیق فی باب تعلّق الأحکام من جعل المتعلّق هو الموضوع الخارجی ، وهو باطل بالضرورة ؛ لأنّ الخارج ظرف السقوط لا العروض .
وإن شئت قلت : إنّ إیجاد الموضوع فی الخارج ـ أعنی إتیان الصلاة فی الخارج بقصد الأمر ـ یتوقّف علی الأمر ، لکن الأمر متوقّف علی الموضوع فی الذهن ـ کما عرفت ـ دون الخارج ، فاختلف الطرفان ، فلا دور .
وأمّا الوجه الثالث : ففیه : أوّلاً : أنّ جعل الأحکام من قبیل القضایا الحقیقیة ـ حتّی ما صدر من الشارع بصیغة الإنشاء ـ غیر صحیح جدّاً ، وسیأتی لبّ القول فیها فی مبحث العموم والخصوص ، فانتظر .
وثانیاً : أنّ ما ذکره قدس سره من أخذ المتعلّقات وقیودها مفروض الوجود ـ فمع ممنوعیته ـ کاف فی رفع الدور وفی دفع تقدّم الشیء علی نفسه ؛ إذ فرض وجود الشیء قبل تحقّقه غیر وجوده واقعاً قبل تحقّقه ؛ إذ تحقّق الأوّل بمکان من الإمکان ؛ فإنّه لایحتاج إلاّ إلی فرض فارض وتصوّر متصوّر ، وأخذ الأمر مفروض الوجود فرضاً مطابقاً للواقع ، لایلزم منه التقدّم الممتنع ، بل یلزم منه فرض وجوده قبل تحقّقه .
ویوضح الحال : القیود المأخـوذة فی متعلّقات الأحکام مـع کونها خارجـة عن دائرة الاختیار ؛ فقولـه تعالی : «أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوکِ الشَّمسِ إِلی غَسَقِ اللَیلِ» یحکی عـن أنّ الأمر تعلّق بأمـر مقیّد بالوقت ، وأنّـه فرض تحقّق الوقت
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 211
فی محلّـه قبل وجـوده ، وهنا نقول : إذا أمـر الآمر بشیء بقصد الآمر فقد أخـذ الأمر مفروض الوجـود ؛ فرضاً مطابقاً للواقع ، ولا معنی لمطابقته إلاّ کونـه متحقّقاً فی محلّه .
والحاصل : أنّ هذه الوجوه الثلاثة مع کونها متقاربة المضمون لا تصلح للمانعیة ؛ لأنّ مرجع الأوّل إلی عدم تصوّر الشیء قبل وجوده ، وهو لاینبغی أن یصدر عمّن تأمّل فیما یفعله یسیراً ؛ إذ الأفعال الاختیاریة الصادرة عن الإنسان یکون تصوّرها مقدّماً علی وجودها .
کما أنّ البرهان الثانی مبنی علی أساس منهدم فی محلّه ؛ إذ الأمر متعلّق بالطبائع المتصوّرة الذهنیة ، لا بقید التحقّق الذهنی دون الخارج ، وهی متقدّمة بقیودها علی الأمر ، فلایلزم تقدّم الشیء علی نفسه .
کما أنّ الوجه الثالث مشتمل علی مغالطة بیّنة ؛ حیث إنّ فرض تحقّق الشیء قبل وجوده غیر تحقّقه کذلک ، فتدبّر وأجدّ فتجد .
وهناک وجه آخر لتقریر امتناعه الذاتی ، وملخّصه : أنّ التکلیف بذلک المقیّد موجب للجمع بین اللحاظ الآلی والاستقلالی ؛ لأنّ الموضوع بقیوده لابدّ وأن یکون ملحوظاً استقلالاً ، وبما أنّه طرف لإضافة القید المأخوذ فی الموضوع لابدّ من لحاظه أیضاً استقلالاً ، والأمر بما أنّه آلة البعث إلی المطلوب لایلحظ إلاّ آلة إلیه ، فیجمع فیه بین اللحاظین المتنافیین ، انتهی .
والعجب أنّ القائل کیف لم یتفطّن علی أنّ اللحاظین المتنافیین لم یجتمعا فی وقت واحد ، وأنّ اللحاظ الاستقلالی مقدّم علی الآلی منهما ؟ ! إذ قد عرفت أنّ الموضوع بتمام قیوده ـ ومنها قصد الأمر علی المفروض ـ مقدّم تصوّراً علی الأمر
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 212
والبعث به . فاللحاظ الاستقلالی المتعلّق بالموضوع فی ظرف التصوّر وقیوده متقدّم علی الإنشاء وعلی الاستعمال الآلی . هذا حاله فی عالم التصوّر .
وأمّا تقیید الموضوع فی مقام الإنشاء الآلی فلا محیص عن تصوّر ذلک الأمر الآلی فی مرتبة ثانیة بنحو الاستقلال حتّی یرد علیه القید ، بل هذا هو الطریق الوحید فی تقیید المعانی الحرفیة ؛ إذ الظرف فی قولنا «زید فی الدار یوم الجمعة» قید للکون الرابط الذی هو معنی حرفی ، وهو ملحوظ فی وقت التقیید استقلالاً وفی لباس المعنی الاسمی ، وقد مضی أنّ القیود فی المحاورات العرفیة والعلمیة راجعة ـ کثیراً ـ إلی النسب والروابط ، وأنّ تقییدها والإخبار عنها وبها لایمکن استقلالاً ، إلاّ أنّه یمکن تبعاً ، فراجع .
ثمّ إنّ هنا وجهاً خامساً للامتناع الذاتی ، وملخّص ما اُفید بطوله : أنّه یلزم منه التهافت فی اللحاظ والتناقض فی العلم ؛ لأنّ موضوع الحکم متقدّم علیه فی اللحاظ ، وقصد الأمر متأخّر عنه فی اللحاظ ، کما أنّه متأخّر عنه فی الوجود ، فیکون متأخّراً عن موضوع الأمر برتبتین ، فإذا أخذه جزءً من موضوع الأمر أو قیداً فیه لزم أن یکون الشیء الواحد فی اللحاظ الواحد متقدّماً فی اللحاظ ومتأخّراً فیه ، وهو فی نفسه غیر معقول وجداناً ؛ إمّا للخلف أو لغیره .
ثمّ إنّ هذا الإشکال غیر الدور والتناقض فی المعلوم والملحوظ ، بل یرجع إلی لزوم التهافت والتناقض فی اللحاظ والعلم ، انتهی .
ولعمر الحقّ : أنّه لاینبغی أن یجعل فی عداد الإشکالات ؛ فضلاً عن جعله من البراهین القاطعة : أمّا أوّلاً : إذ اللحاظ والعلم فی المقام ونظائره لم یؤخذا
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 213
موضوعاً حتّی یثبت له حکم ، ویقال : إنّه بنفسه متهافت مع غیره ، بل اُخذ طریقاً إلی ملحوظه ومرآة إلی معلومه ؛ فإذن یکون ملاک التهافت المفروض فی الملحوظ بما هو ملحوظ ، دون نفس اللحاظ .
وأمّا ثانیاً : بعد ما کان مورد التهافت هو الملحوظ نقول : إنّا لانتصوّر أن یکون شیء أوجب ذلک التناقض ؛ سوی تقیید الموضوع بما یأتی من قِبَل الأمر ، فیرجع الکلام إلی أنّ لحاظ الشیئین المترتّبین فی الوجود فی رتبة واحدة موجب للتهافت فی اللحاظ والتناقض فی العلم ، وقد عرفت تقریره من الوجوه السابقة وأجوبتها .
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 214