الاُولی‏: فی تعیین المادة الاُولی و کیفیة وضعها

الاُولی : فی تعیین المادة الاُولی وکیفیة وضعها

‏ ‏

‏اعلم أنّه قد وقع الکلام بین الأعلام فی تعیین المادّة الاُولی وکیفیة وضعها ،‏‎ ‎‏بعد اتّفاقهم علی وجودها بین المشتقّات ، والمحکی عن البصریین : أنّها المصدر ،‏‎ ‎‏وعن الکوفیین : أنّها الفعل‏‎[1]‎‏ ، وربّما یظهر من نجم الأئمّة : أنّ النزاع بین الطائفتین‏‎ ‎‏لیس إلاّ فی تقدّم تعلّق الوضع بهذا أو ذاک ، لا فی الأصلیة والفرعیة‏‎[2]‎‏ .‏

‏وکیف کان : فبطلان الرأیین واضح ؛ لأنّ المادّة المشترکة لابدّ وأن تکون‏‎ ‎‏سائرة فی فروعها بتمام وجودها ـ أعنی حروفها وهیئتها ـ ومن المعلوم أنّهما لیسا‏‎ ‎‏کذلک ؛ إذ هیئتهما آبیة عن ورود هیئة اُخری علیهما . اللهمّ إلاّ أن یوجّه بما سیأتی‏‎ ‎‏بیانه .‏

والتحقیق :‏ أنّ لمادّة المشتقّات التی هی عاریة عن جمیع الهیئات ولا بشرط‏‎ ‎‏من جمیع الجهات إلاّ عن ترتیب حروفها وضعاً مستقلاًّ ، ولولا ذلک للزم الالتزام‏‎ ‎‏بالوضع الشخصی فی جمیع المشتقّات ؛ لعدم محفوظیة ما یدلّ علی المادّة لو لا‏‎ ‎‏وضعها کذلک ، وهو خلاف الوجدان والضرورة ، بل یلزم اللغویة منه مع إمکان ذلک ،‏‎ ‎‏مع ما نشاهد من اتقان الوضع .‏


کتابت‍ه‍ذی‍ب الاص‍ول (ج.۱): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 148
‏ویشهد لذلک : أنّا قد نعلم معنی مادّة ونجهل معنی الهیئة ، کما لو فرض الجهل‏‎ ‎‏بمعنی هیئة اسم الآلة فی مضراب ، مع العلم بمعنی الضرب ، فلا إشکال فی أنّا نفهم‏‎ ‎‏أنّ للضرب هاهنا تطوّراً وشأناً ، ولیس هذا إلاّ للوضع ، کما أنّ دلالة الهیئة‏‎ ‎‏علی معناها مع الجهل بمعنی المادّة دلیل علی  وضعها مستقلاًّ نوعیاً ، مع أنّ بعض‏‎ ‎‏المصادر قیاسی ، فلابدّ له من مادّة سابقة .‏

‏ثمّ إنّ وضع المادّة شخصی ، ولا یلزم من تطوّرها بالهیئات أن یکون نوعیاً‏‎ ‎‏کما قیل‏‎[3]‎‏ ـ وهی الحقیقة العاریة عن جمیع فعلیات الصور ـ فکأنّها هیولی عالم‏‎ ‎‏الألفاظ ، نظیر هیولی عالم التکوین ، علی رأی طائفة من أهل النظر‏‎[4]‎‏ .‏

‏فإن قلت : إنّ اللفظ الموضوع لابدّ وأن یکون قابلاً للتلفّظ به ، والمادّة الخالیة‏‎ ‎‏عن التحصّل یمتنع التلفّظ بها .‏

‏قلت : إنّ الغایة من وضعها لیست الإفادة الفعلیة حتّی تستلزم فعلیة إمکان‏‎ ‎‏التنطّق بها .‏

‏والحاصل : أنّ الموادّ موضوعة بالوضع التهیّئی لأن تتلبّس بهیئة موضوعة ،‏‎ ‎‏ومثلها لایلزم أن یکون من مقولة اللفظ الذی یتکلّم به .‏

‏لایقال : المشهور بین أهل الأدب : أنّ اسم المصدر موضوع لنفس الحدث‏‎ ‎‏بلا نسبة ناقصة أو تامّة ، بل المصدر أیضاً ـ کما هو المتبادر منهما ـ وعلی هذا‏‎ ‎‏فوضعهما للحدث لا بشرط بعد وضع المادّة له أیضاً فاقد لملاک الوضع ؛ لأنّ الهیئة‏‎ ‎‏فیهما لابدّ لها من وضع وإفادة زائدة علی المادّة .‏


کتابت‍ه‍ذی‍ب الاص‍ول (ج.۱): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 149
‏لأنّا نقول : إنّ الغایة من وضع المصدر واسمه إنّما هو لإمکان التنطّق بالمادّة ،‏‎ ‎‏من دون أن یکون لهیئتهما معنی وراء ما تفید مادّتها .‏

‏والحاصل : أنّ المادّة وضعت لنفس الحدث ، لکن لایمکن التنطّق بها ، وربّما‏‎ ‎‏یقع فی الخواطر إظهار ذلک ، فوضعت هیئتها لا لإفادة معنی من المعانی ، بل لکونها‏‎ ‎‏آلة للتنطّق بالمادّة . وبذلک یصحّح قول البصریین بأصالة المصدر ، وقول بعض‏‎ ‎‏الأعلام بکون الأصل هو اسم المصدر ؛ لأنّهما کالمادّة بلا زیادة .‏

‏فإن قلت : إنّ لازم ذلک هو دلالة المادّة علی معناها ، وإن تحقّقت فی ضمن‏‎ ‎‏هیئة غیر موضوعة .‏

‏قلت : إنّ وضع الموادّ تهیّئی للازدواج مع الهیئات الموضوعة ، وبذلک یحصل‏‎ ‎‏لها ضیق ذاتی ، لا مجال معه لتوهّم الدلالة ؛ ولو فی ضمن المهملات ، وسیأتی أنّ‏‎ ‎‏دلالة الموادّ کنفسها ، وتحصّلها مندکّة فی الصورة ، وبه یدفع هذا الإشکال .‏

‏ثمّ إنّ هنا إشکالاً آخر ، أشار إلیه سیّد مشایخنا ، المحقّق السیّد محمّد‏‎ ‎‏الفشارکی ‏‏قدس سره‏‏ ، وهو : أنّه یلزم علی القول باستقلال کلّ من المادّة والهیئة فی الوضع‏‎ ‎‏دلالتهما علی معنیین مستقلّین ، وهو خلاف الضرورة . وحدیث البساطة والترکّب‏‎ ‎‏غیر القول بتعدّد المعنی ، وهذا ممّا لم یقل به أحد‏‎[5]‎‏ .‏

‏قلت : إنّ دلالة المادّة علی معناها ـ کوجودها ـ مندکّة فی دلالة الهیئة‏‎ ‎‏وتحصّلها ؛ بحیث لایفهم منها إلاّ معنی مندکّ فی معنی الهیئة .‏

‏وبالجملة : أنّ المادّة متحصّلة بتحصّل صورتها ، وهی مرکّبة معها ـ ترکیباً‏‎ ‎‏اتّحادیاً ـ ودلالتها علی المعنی أیضاً کذلک . فبین معانی المشتقّات ـ کألفاظها‏

کتابت‍ه‍ذی‍ب الاص‍ول (ج.۱): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 150
‏ودلالتها ـ نحو اتّحاد ، مثل اتّحاد الهیولی مع صورتها .‏

‏وأمّا ما أجاب به المحقّق المزبور ‏‏قدس سره‏‏ ـ من أنّ المادّة ملحوظة أیضاً فی وضع‏‎ ‎‏الهیئات ، فیکون الموضوع هو المادّة المتهیّئة بالهیئة الخاصّة ، وهو الوضع الحقیقی‏‎ ‎‏الدالّ علی المعنی ولیس الوضع الأوّل إلاّ مقدّمة لهذا الوضع ، ولا نبالی بعدم تسمیة‏‎ ‎‏الأوّل وضعاً ؛ إذ تمام المقصود هو الثانی ـ فلا یخلو من غموض ؛ إذ ما یرجع إلی‏‎ ‎‏الواضع هو الوضع فقط ، وأمّا الدلالة فهی أمر قهری الحصول بعد الاعتبار . وکونه‏‎ ‎‏مقدّمیاً لایوجب عدم الدلالة .‏

‏فحینئذٍ یلزم التعدّد فی الدلالة علی نفس الحدث ؛ إذ یستفاد من الوضع الأوّل‏‎ ‎‏ذات الحدث ، ومن الثانی الحدث المتحیّث بمفاد الهیئة . فحینئذٍ یلزم الترکیب مع‏‎ ‎‏تعدّد الدلالة ، وهو أفحش من الإشکال الأوّل .‏

‏علی أنّ هنا فی الوضع الثانی تأمّلاً ؛ إذ وضع کلّ مادّة مع هیئتها یستلزم‏‎ ‎‏الوضع الشخصی فی المشتقّات ، ولو صحّ هذا لاستغنی عن وضع المادّة مستقلاًّ .‏

‏والقول بأنّ معنی الوضع النوعی هو أنّ المشتقّات وُضعت بالوضع النوعی فی‏‎ ‎‏ضمن مادّةٍ ما فاسد غیر معقول ؛ إذ مادّةٌ ما بالحمل الشائع غیر موجودة ؛ لأنّه‏‎ ‎‏یساوق وجود المادّة المستلزم لتعیّنها وخروجها عن الإبهام ، وبالحمل الأوّلی لا‏‎ ‎‏ترجع إلی معنی معقول . فالتحقیق فی دفع الإشکال هو ما عرفت .‏

‎ ‎

کتابت‍ه‍ذی‍ب الاص‍ول (ج.۱): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 151

  • )) شرح الکافیة فی النحو 2 : 191 ، شرح ابن عقیل 1 : 559 .
  • )) شرح الکافیة فی النحو 2 : 192 .
  • )) نهایة الأفکار 1 : 125 ، بدائع الأفکار (تقریرات المحقّق العراقی) الآملی 1 : 156 .
  • )) شـرح الإشـارات 2 : 36 ـ 47 ، الحکمـة المتعالیـة 5 : 65 ـ 219 ، شـرح المنظومـة ،قسم الحکمة : 214  ـ 219 .
  • )) وقایة الأذهان : 161 .