الأمر التاسع فی تعارض الأحوال

الأمر التاسع فی تعارض الأحوال

‏ ‏

‏قد ذکروا فی باب تعارض الأحوال مرجّحات ظنّیة لم یقم دلیل علی‏‎ ‎‏اعتبارها ، والمتّبع لدی أهل المحاورة هو الظهور ؛ فإن تحقّق فهو ، وإلاّ فلا تعتبر .‏

‏نعم ، یقع الکلام فی أنّ ما لدی العقلاء فی أخذ المراد وصحّة الانتساب هل‏‎ ‎‏هو أصالة الظهور أو أصالة الحقیقة أو أصالة عدم القرینة ؟ فعند ما احتفّ الکلام بما‏‎ ‎‏یحتمل القرینیة فالظهور متّبع علی الأوّل والثانی ـ إن کان أصل الحقیقة أصلاً‏‎ ‎‏تعبّدیاً ـ دون الثالث ؛ إذ القدر المتیقّن حجّیته لدیهم إذا شکّ فی أصل وجود القرینة‏‎ ‎‏لا فی قرینیة الموجود ، وسیأتی تحقیق الحال فیها إن شاء الله .‏

‏ثمّ إنّ هنا أصلاً لفظیاً عند دوران الأمر بین النقل وعدمه ، قد أفـرط بعضهم‏‎ ‎‏فی الاحتجاج به ؛ وهـو أصالة عدم النقل ، ویقال : إنّها أصل عقلائی حجّـة مع‏‎ ‎‏جمیع مثبتاتها .‏

والحقّ :‏ أنّ اعتمادهم علیها إنّما هو فیما إذا شکّ فی أصل النقل لا مع‏‎ ‎‏العلم به ، والشکّ فی تقدّمه علی الاستعمال وتأخّره عنه .‏

‏والمدرک لهذا الأصل عندهم فی الأوّل هو حکم الفطرة الثابتة لهم من عدم‏

کتابت‍ه‍ذی‍ب الاص‍ول (ج.۱): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 85
‏رفع الید عن الحجّة بلا حجّة ، وعن الظهور الثابت بمجرّد الاحتمال ،‏‎ ‎‏لا الاستصحاب العقلائی ؛ إذ هو ممّا لا أصل له ، کما سیوافیک إن شاء الله فی محلّه ،‏‎ ‎‏وأنّ عملهم علیه فی بعض الموارد لاطمئنانهم بالبقاء وعدم اعتدادهم باحتمال‏‎ ‎‏الخلاف لضعفه ، وهو غیر مسألة الاستصحاب . وأمّا عدم حجّیته فی القسم الثانی‏‎ ‎‏ـ ولو مع العلم بتأریخ الاستعمال ـ فلعدم ثبوت ذلک منهم ، لو لم نقل بثبوت عدم‏‎ ‎‏تعویلهم علیه .‏

‏والعجب من شیخنا العلاّمة ؛ حیث ذهب إلی الاحتجاج بالقسم الأخیر ؛ قائلاً‏‎ ‎‏بأنّ الحجّة لا یرفع الید عنها إلاّ بحجّة مثلها ، وأنّ الوضع السابق حجّة ، فلا یتجاوز‏‎ ‎‏عنه إلاّ بعد العلم بالوضع الثانی‏‎[1]‎‏ .‏

‏وأنت خبیر : بأنّ المتّبع لدیهم والحجّة هو الظهور لا الوضع بنفسه ، والعلم‏‎ ‎‏بتعاقب الوضعین ، مع الشکّ فی تقدّم الثانی منهما علی الاستعمال وتأخّـره عنه‏‎ ‎‏یمنع عن انعقاده ، کما هو ظاهر . أضف إلی ذلک : أنّـه لا معنی للفرق بین الأقسام‏‎ ‎‏بعد کون الوضع الأوّل هو المتّبع مع عدم العلم بنقض الوضع الثانی للوضع الأوّل‏‎ ‎‏حال الاستعمال .‏

ثمّ إنّه قد یتراءی‏ من بعض المحقّقین تفصیل أعجب ؛ فإنّه حکم بجریان‏‎ ‎‏الأصل المزبور إذا علم تأریخ الاستعمال وجهل تأریخ النقل ، وأثبت به استعمال‏‎ ‎‏اللفظ فی المعنی الأوّل ؛ لحجّیـة مثبتاتـه ، وحکم بلزوم التوقّف فیما علم تـأریخ‏‎ ‎‏النقل وجهل تأریـخ الاستعمال ؛ قائلاً بأنّ العقلاء لیس لهم بناء عملی علی عـدم‏‎ ‎‏الاستعمال .‏


کتابت‍ه‍ذی‍ب الاص‍ول (ج.۱): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 86
‏کما أنّه حکم بلزوم التوقّف أیضاً فی مجهولی التأریخ ، لا لما قیل من تساقط‏‎ ‎‏الأصلین بالمعارضة ، بل لعدم إحراز موضوع الأثر ؛ لأنّه مترتّب علی عدم الوضع‏‎ ‎‏الجدید فی ظرف الاستعمال ، ومن المعلوم أنّ مفاد الأصل هو جرّ العدم فی جمیع‏‎ ‎‏أجزاء الزمان المشکوک فیه ، لا إثباته بالإضافة إلی أمر آخر .‏

‏وعلیه : لایمکن إحراز عدم الوضع حین الاستعمال به ، لا لعدم إحراز عنوان‏‎ ‎‏المقارنة والتقیید حتّی یقال : إنّ الأصل العقلائی حجّة مع مثبتاته ، بل لأنّ نفس‏‎ ‎‏القید ـ أعنی الاستعمال ـ مشکوک فیه حین إجرائه ـ کالوضع ـ فلا یمکن إحراز‏‎ ‎‏موضوع الأثر بالأصل .‏

‏نعم ، لو کان مفاد الأصل جرّ العدم بالإضافة إلی أمر آخر لأمکن إحراز‏‎ ‎‏الموضوع فی المقام ، لکنّه خلاف التحقیق ، وهذا بخلاف القسم الأوّل ؛ إذ الأصل‏‎ ‎‏والوجدان هناک یحقّقان موضوع الأثر‏‎[2]‎‏ ، انتهی ملخّصاً .‏

وفیه مواقع للنظر :

‏منها :‏‏ أنّ الظاهر منه أنّ أصالة عدم النقل عبارة عن الاستصحاب العقلائی ،‏‎ ‎‏فحینئذٍ یکون أرکانه موجودة فی جمیع صور الشکّ ، فمع الشکّ فی تأخّر الاستعمال‏‎ ‎‏والعلم بتأریخ الوضع یجری الأصل ویثبت لوازمه ، مثل کون الاستعمال فی حال‏‎ ‎‏الوضع الثانی مع العلم بهجر الأوّل ، وکذا الحال فی مجهولی التأریخ .‏

‏ودعوی عدم بناء عملی علی عدم الاستعمال غیر مسموعة ، کدعوی عدم‏‎ ‎‏إمکان إحراز موضوع الأثر .‏

‏وما قد یتوهّم من أنّ الأصل جارٍ فی النقل لندرته ، دون الاستعمال واضح‏

کتابت‍ه‍ذی‍ب الاص‍ول (ج.۱): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 87
‏الفساد ؛ لأنّ النادر أصل النقل ، ولکن الکلام فی تقدّمه وتأخّره بعد العلم بتحقّقه .‏

ومنها :‏ أنّ إجراء الأصل فی عمود الزمان إن لم یثبت نفس الاستعمال‏‎ ‎‏لا یثبت استعماله فی المعنی الأوّل أیضاً ؛ فإنّه حادث کنفس القید ، وما یکون محرزاً‏‎ ‎‏هو أصل الاستعمال لا الاستعمال فی المعنی الأوّل . مع أنّ أصل الاستعمال وجدانی‏‎ ‎‏فی الصورتین ، کما أنّ المستعمل فیه مشکوک فیه فی کلتیهما .‏

‏ولو قیل : إنّ استصحاب العدم هو جرّه فقط ، لا إلی کذا وکذا فهو ـ مع‏‎ ‎‏فساده ـ یستلزم عدم الإنتاج فی الصورة الاُولی أیضاً ، فإذا أمکن جرّه إلی الزمان‏‎ ‎‏المعلوم أمکن جرّه إلی الزمان المعیّن واقعاً المجهول عندنا .‏

ومنها :‏ أنّ ما ذکره من إحراز موضوع الأثر بالأصل والوجدان فی الصورة‏‎ ‎‏الاُولی غیر تامّ ؛ لأنّ عدم النقل ونفس الاستعمال لیسا موضوعین للأثر ، بل‏‎ ‎‏الموضوع هو ما یثبت بالاستعمال ؛ أی المعنی المراد ، ولو سلّم ذلک فلا فارق بین‏‎ ‎‏الصورتین .‏

‎ ‎

کتابت‍ه‍ذی‍ب الاص‍ول (ج.۱): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 88

  • )) درر الفوائد ، المحقّق الحائری : 47 .
  • )) بدائع الأفکار (تقریرات المحقّق العراقی) الآملی 1 : 103 ـ 104 .