الأمر السادس فی أنّ الألفاظ موضوعة لذات المعانی

الأمر السادس فی أنّ الألفاظ موضوعة لذات المعانی

‏ ‏

‏التحقیق : أنّ الألفاظ موضوعة للمعانی الواقعیة ؛ تعلّقت بها الإرادة أولا ، ولا‏‎ ‎‏دخل لها فیها ـ لا شطراً ولا شرطاً ـ ویتّضح حالها ببیان أمرین :‏

الأوّل :‏ ما أسمعناک فی صدر الکتاب من أنّ حقیقة الوضع لیس إلاّ تعیین‏‎ ‎‏اللفظ فی مقابل المعنی ، من دون حصول علاقة تکوینیة ، وما ربّما یقال من التعهّد‏‎ ‎‏والالتزام فی تفسیره فهو تفسیر له بالآثار والنتائج ، وقد تقدّم الکلام فیه‏‎[1]‎‏ .‏

‏فبطل ما یؤیّد به القول الشاذّ المخالف للتحقیق من أنّ الوضع فی الألفاظ‏‎ ‎‏وضع حیثی ؛ بمعنی أ نّه لایجعل اللفظ فی مقابل المعنی إلاّ بحیث لو أطلقه الواضع‏‎ ‎‏أو غیره لکان مریداً لمعناه ؛ وذلک لما تری من بنائه علی القول المردود فی باب‏‎ ‎‏الوضع ؛ من حدیث التعهّد والالتزام فی تفسیر معنی الوضع .‏

الثانی :‏ قد قام البرهان فی محلّه علی أنّ الأفعال الصادرة من ذوی العقول‏

کتابت‍ه‍ذی‍ب الاص‍ول (ج.۱): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 69
‏والشعور معلّلة بأغراض وغایات ؛ حتّی فیما یراه العرف عبثاً ولغواً‏‎[2]‎‏ ، کیف ، والعلّة‏‎ ‎‏الغائیة واقعة فی سلسلة العلل ، وتعدّ علّة لفاعلیة الفاعل ، وإن کانت تتأخّر‏‎ ‎‏بوجودها العینی لکنّها مؤثّرة فی تحریک الفاعل بوجودها الذهنی .‏

‏وحینئذٍ : فالمعلول بما أ نّه رشحة من رشحات العلّة أو مظهر ناقص لها ،‏‎ ‎‏ولا استقلال له إلاّ ممّا اکتسبه من جانب علّته فهو لا محالة یتضیّق بضیقها ،‏‎ ‎‏ولا یمکن له أن یکون أوسع منها ، لکن لا علی نحو التقیید ، بل تضیّقاً ذاتیاً تابعاً‏‎ ‎‏لاستعداده .‏

فإذن :‏ یقع الکلام فی أنّ الغایة لفعل الواضع ـ التی هی إظهار المرادات‏‎ ‎‏وإعلان المقاصد ـ هل توجب تضیّقاً فی المعنی الموضوع له ؛ لیکون الوضع للمعنی‏‎ ‎‏المراد من جهة أنّ الوضع لذات المعنی علی إطلاقه بعد کون الداعی منحصراً فی‏‎ ‎‏إفادة المراد لغو أولا توجب ذلک ؟‏

التحقیق :‏ أنّ الغایة للوضع شیء آخر غیر ما تصوّروه ؛ فإنّ الغرض منه إفادة‏‎ ‎‏ذوات المرادات لا بما هی کذلک ، بل بما هی نفس الحقائق ؛ فإنّ المتکلّم إنّما یرید‏‎ ‎‏إفادة نفس المعانی الواقعیة ، لا بما هی مرادة . علی أنّ کونها مرادة إنّما یکون عند‏‎ ‎‏الاستعمال أو من مقدّماته التی لا ترتبط بالوضع ، بل کونها مرادة مغفول عنه‏‎ ‎‏للمتکلّم والسامع .‏

‏أضف إلیه : لو سلّمنا کون الغایة هی إفادة المرادات ، لکن کون شیء واقعاً فی‏‎ ‎‏سلسلة العلل الفاعلیة یقتضی حصوله عند حصول الوضع والمواضعة بین اللفظ‏‎ ‎‏والمعنی ، وأ مّا أخذه فی المعنی الموضوع له فلا .‏


کتابت‍ه‍ذی‍ب الاص‍ول (ج.۱): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 70
‏وأعجب منه : ما استدلّ به علیه من أ نّه لو لم توضع للمراد منها لزم اللغویة ؛‏‎ ‎‏إذ ذلک إنّما یلزم لو لم یترتّب علی وضعه لذات المعنی أثر أصلاً ، وأ مّا إذا ترتّب‏‎ ‎‏الأثر علیه ـ ولو علی نوع منه ؛ وهو ما إذا کان المعنی متعلّقاً للإرادة ـ فلا تلزم‏‎ ‎‏اللغویة ، کما هو ظاهر ، وسیوافیک أنّ جعل الحکم علی الطبیعة یخالف فی کثیر من‏‎ ‎‏الأحکام لجعله علی الأنواع والأصناف والأفراد ، ومنها هذا المقام .‏

إذا عرفت ذلک فاعلم :‏ أنّ القول بکونها موضوعـة للمرادة مـن المعانی‏‎ ‎‏یتصوّر علی وجوه :‏

منها :‏ أخـذ الإرادة بالحمل الأوّلی جـزءً للموضوع له ، وهو ممّا لایلتزم به‏‎ ‎‏ذو مسکة .‏

ومنها :‏ أن تکون موضوعة لما هو بالحمل الشائع مراد ومقصود بالذات ؛‏‎ ‎‏أعنی الصورة القائمة بالنفس ـ قیاماً صدوریاً أو حلولیاً ـ إذ الإرادة کالعلم إنّما‏‎ ‎‏تکون من شؤون النفس ، وهی لاتنال الخارج عن حیطتها ، فلا تنال من الخارج إلاّ‏‎ ‎‏صورة ذهنیة ، کما أنّ شؤونها کالإرادة لاتتعلّق إلاّ بالصورة المتقوّمة بالنفس .‏

‏فحینئذٍ : ما هـو المراد بالذات ـ أی وقـع متعلّقاً للإرادة فی اُفق النفس ـ‏‎ ‎‏لیس إلاّ الصورة العلمیة الحاکیة عن الخارج ، وبذلک تصیر هی مرادة بالذات‏‎ ‎‏والخارج مراداً بالعرض ، فهو المراد بوجه والمطلوب فی المرتبة الثانیة ؛ لفناء‏‎ ‎‏الصورة فیه وآلیتها له .‏

‏وعلیه : لو وضعت الألفاظ للمراد بالذات لما صحّ الحمل ولم تنطبق علی‏‎ ‎‏الخارج ـ ولو مـع التجرید ـ مضافاً إلی لزوم کـون الوضع عامّاً والموضوع له‏‎ ‎‏خاصّاً فی جمیع الأوضاع .‏

ومنها :‏ کونها موضوعة للمراد بالعرض ، فیرد علیه ـ مضافاً إلی خصوصیة‏

کتابت‍ه‍ذی‍ب الاص‍ول (ج.۱): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 71
‏الموضوع له ـ عدم صحّة الحمل إلاّ بالتجرید ، مع بداهة صحّته بدونه .‏

وهناک قسم آخر ‏ـ وإن شئت فسمّه رابع الأقسام ـ : وهو أن یکون الوضع‏‎ ‎‏للمعنی المراد علی نحو الحینیة الممکنة ، لا علی نحو المشروطة العامّة لیکون‏‎ ‎‏الوصف من قیودها وعناوینها ، وقد عرفت ما یمکن الاستدلال به علیه من حدیث‏‎ ‎‏الغایة والغرض ، کما عرفت دفعه أیضاً .‏

‏وإلی ذلک یمکن صرف کلام العلمین‏‎[3]‎‏ من کون الوضع لذات المراد‏‎ ‎‏بلا تقیید ؛ وإن کان بعیداً عن مساق کلامهما ـ وأبعد منه توجیه المحقّق الخراسانی‏‎ ‎‏من صرف کلامهما إلی الدلالة التصدیقیة ، وکونها مرادة للافظها تابعة لإرادته ؛ تبعیة‏‎ ‎‏مقام الإثبات للثبوت‏‎[4]‎‏ ؛ إذ عبارة العلاّمة فی «الجوهر النضید» التی نقلها عن اُستاذه‏‎ ‎‏وشیخه المحقّق الطوسی صریح فی الدلالة الوضعیة‏‎[5]‎‏ ، علی أنّ هذا التوجیه توجیه‏‎ ‎‏مبتذل لایناسب مقامهما الشامخ ـ بل لیس صحیحاً فی نفسه ؛ لأنّ نسبة المتکلّم إلی‏‎ ‎‏أ نّه أراد معنی تلک الألفاظ تتوقّف علی أمر آخر ، لایکفی فیه مجرّد وضع الألفاظ‏‎ ‎‏للمرادات ، بل لابدّ من ضمّ قاعدة عقلائیة من أصالة تطابق الجدّ والاستعمال .‏

‎ ‎

کتابت‍ه‍ذی‍ب الاص‍ول (ج.۱): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 72

  • )) تقدّم فی الصفحة 25 .
  • )) راجع الحکمة المتعالیة 2 : 251 ـ 259 ، شرح المنظومة ، قسم الحکمة : 123 ـ 128 .
  • )) الشفاء ، قسم المنطق 1 : 25 ، شرح الإشارات 1 : 32 ، الجوهر النضید : 8 .
  • )) کفایة الاُصول : 32 .
  • )) الجوهر النضید : 8 .