الأمر الخامس فـی المجـاز

الأمر الخامس فـی المجـاز

‏ ‏

‏عرّف المجاز غیر واحد من الاُدباء بأنّه استعمال اللفظ فی غیر ما وضع له‏‎ ‎‏بعلاقة معتبرة وقرینة معاندة .‏

‏وشذّ عنهم السکّاکی فی قسم واحد من أقسامه ـ وهو الاستعارة ـ ورأی أنّ‏‎ ‎‏ذلک حقیقة لغویة ، وأنّ التصرّف إنّما هو فی أمر عقلی ؛ وهو جعل ما لیس بفرد‏‎ ‎‏فرداً . واستدلّ علیه بأنّه لولاه لما صحّ التعجّب فی قوله :‏

‏ ‏

‏قامت تظلّلنی ومن عجب‏

‎ ‎‏شمس تظلّلنی من الشمس‏

‏ ‏

‏          ولما کان للنهی عن التعجّب مورداً فی قول الشاعر :‏

‏ ‏

‏لا تعجبوا من بلی غلالته‏

‎ ‎‏قد زر أزراره علی القمر‏‎[1]‎‏ ‏

‏ ‏

‏وما ربّما یقال فی ردّه : من أنّ التعجّب والنهی عنه مبنیان علی نسیان‏‎ ‎‏التشبیه ؛ قضاءً لحقّ المبالغة‏‎[2]‎‏ ، مردود بأنّه لولا الادّعاء لما کان لنسیان التشبیه‏‎ ‎

کتابت‍ه‍ذی‍ب الاص‍ول (ج.۱): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 61
‏معنی ، ولا یقضی حقّ المبالغة ، بل الادّعاء هو الذی یصحّح نسیانه ، ویؤدّی به‏‎ ‎‏الغرض من المبالغة .‏

‏فهذا القول یشترک مع قول المشهور فی کون الاستعمال فی غیر الموضوع له ؛‏‎ ‎‏لوضوح أنّ استعمال اللفظ فی المصداق الحقیقی للموضوع له بخصوصه مجاز ،‏‎ ‎‏فکیف بالفرد الادّعائی ؟ ! فما ذهب إلیه : من أنّ الادّعاء المزبور یجعله حقیقة لغویة‏‎ ‎‏غیر تامّ .‏

‏ویرد علیه ـ مضافاً إلی ما ذکر ـ أنّه وإن کان أقرب من قول المشهور إلی‏‎ ‎‏الذوق السلیم إلاّ أنّه لا یتمّ فی الأعلام الشخصیة ، مثل «حاتم» و«مارد» ، إلاّ‏‎ ‎‏بتأویل بارد .‏

ثمّ إنّک قد عرفت :‏ أنّ استعمال اللفظ الموضوع للطبیعة اللا بشرط ، المعرّاة‏‎ ‎‏عن کلّ قید فی مصادیقها الواقعیة مجاز ؛ فضلاً عمّا جعل مصداقاً بالادّعاء . ولا‏‎ ‎‏ینتقض هذا بمثل «زید إنسان» ؛ إذ المحمول مستعمل فی الماهیة المطلقة لا فی‏‎ ‎‏الفرد الخاصّ ، والهیئة الحملیة تفید الاتّحاد والهوهویة .‏

ثمّ‏ إنّی أری خلاف الإنصاف أن أرتضی رأیاً فی هذا المقام ، غیر ما وقفت‏‎ ‎‏علی تحقیقه من العلاّمة أبی المجد الشیخ محمد رضا الأصفهانی ‏‏قدس سره‏‏ فی «وقایته» ،‏‎ ‎‏واستفدت منه شفاهاً .‏

وملخّص ما أفاده :‏ أنّ اللفظ فی عامّة المجازات ـ استعارة کانت أو مجازاً‏‎ ‎‏مرسلاً ، مفرداً کانت أو مرکّباً ، کنایة کانت أو غیرها ـ لم یستعمل إلاّ فیما وضع له ،‏‎ ‎‏غایة الأمر : ما هو المراد استعمالاً غیر ما هو مراد جدّاً‏‎[3]‎‏ .‏


کتابت‍ه‍ذی‍ب الاص‍ول (ج.۱): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 62
‏وإن شئت قلت : إنّه لتطبیق ما هو الموضوع له علی غیره إمّا بادّعاء کونه‏‎ ‎‏مصداقاً له کما فی الکلّیات ، أو کونه عینه کما فی الأعلام . والفرق بین المذهبین‏‎ ‎‏ـ مضافاً إلی ما عرفت من أنّ المستعمل فیه بالإرادة الاستعمالیة هو نفس‏‎ ‎‏الموضوع له علی رأی شیخنا ‏‏قدس سره‏‏ ؛ وإن کان الجدّ علی خلافه ، دون ما ذهب إلیه‏‎ ‎‏السکّاکی ، فإنّ المتعلّق للإرادة عنده ؛ استعمالیة کانت أو جدّیة شیء واحد ـ أنّ‏‎ ‎‏الادّعاء علی المذهب الأخیر وقع قبل الإطلاق ، ثمّ اُطلق اللفظ علی المصداق‏‎ ‎‏الادّعائی ، ولکن علی ما رآه شیخنا وقع بعد استعمال اللفظ حین تطبیق الطبیعة‏‎ ‎‏الموضوع لها علی المصداق .‏

وبالجملة :‏ أنّ حقیقة المجاز لیست إلاّ تبادل المعانی والتلاعب بها ، لا‏‎ ‎‏باستعارة الألفاظ وتبادلها ، وإنّما حسن المجازات من جهة توسعة المفاهیم إلی‏‎ ‎‏مالایسعه وضع ألفاظها ، ولا یشمله نفس تلک المفاهیم ابتداءً ، ولکن بعد ادّعاء کون‏‎ ‎‏هذا منه تشمله حکماً .‏

‏مثلاً فی قوله تعالی : ‏‏«‏إِنْ هـذا إِلاّ مَلَکٌ کَرِیمٌ‏»‏‎[4]‎‏ لیس حسن المجاز‏‎ ‎‏المستعمل فیه من جهة إعارة لفظ «الملک» خلواً عن معناه لوجود یوسف ، وجعلهما‏‎ ‎‏متّحدین فی الاسم ، بل لأنّ «الملک» استعمل فی الماهیة المعهودة من الروحانیین‏‎ ‎‏واُطلق اللفظ علیها واستعمل فیها ، وادّعی انطباقها علی المصداق الادّعائی . وقس‏‎ ‎‏علیه قولنا : «رأیت أسداً وحاتماً» ؛ فإنّ لفظی الحاتم والأسد استعملا فی معناهما ،‏‎ ‎‏ولکن ادّعی أنّ زیداً هو الحاتم أو الأسد .‏

‏ثمّ لایخفی علیک : أنّ ما اختاره ‏‏قدس سره‏‏ لاینحصر بالاستعارة ، بل المجاز المرسل‏

کتابت‍ه‍ذی‍ب الاص‍ول (ج.۱): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 63
‏ـ وهو ما تکون العلاقة فیه غیر التشبیه من سائر العلاقات ـ أیضاً من هذا الباب ؛‏‎ ‎‏أعنی أنّ اللفظ فیه أیضاً لم یستعمل إلاّ فیما وضع له ، وجعل طریقاً إلی الجدّ‏‎ ‎‏بدعوی من الدعاوی .‏

‏فإطلاق العین علی الربیئة لیس إلاّ بادّعاء کونه عیناً باصرة بتمام وجوده ؛‏‎ ‎‏لکمال مراقبته ، وإعمال ما هو أثر خاصّ لها لا بعلاقة الجزئیة والکلّیة . وقس علیه‏‎ ‎‏إطلاق المیّت علی المشرف للموت بدعوی کونه میّتاً ، وإطلاق القریة علی أهلها‏‎ ‎‏بتخیّل أنّها قابلة للسؤال ، أو أنّ القضیة بمثابة من الشهرة حتّی یجیب عنها القریة‏‎ ‎‏والعیر ، کما فی قول الفرزدق : «هذا الذی تعرف البطحاء وطأته . . .» القصیدة .‏

‏وجعل هذا وأشباهه من المجاز بالحذف یوجب انحطاطه من ذَروة البلاغة‏‎ ‎‏إلی حضیض الابتذال .‏

‏وتجد تحقیق الحال فی المجاز المرکّب ممّا ذکرنا أیضاً ؛ فإنّک إذا قلت‏‎ ‎‏للمتردّد : «أراک تقدّم رِجلاً وتؤخّر اُخری» ، وعلمت : أنّ مفرداتها لم تستعمل إلاّ‏‎ ‎‏فی معانیها الحقیقیة ، وأنّه لیس للمرکّب وضع علی حدة ؛ لیکون أجزاؤه بمنزلة‏‎ ‎‏حروف الهیجا فی المفردات لیستعمل فی معنی لم یوضع له ، تعرف أنّک لم تتفوّه‏‎ ‎‏بهذا الکلام إلاّ بعد ادّعاء ذوقک : أنّ هذا الرجل المتردّد المتحیّر شخص متمثّل‏‎ ‎‏کذلک ، وأنّ حاله وأمره یتجلّی فی هذا المثل کأنّه هو .‏

‏هذه قضاء الوجدان وشهادة الذوق السلیم ، بل ما ذکرنا فی المرکّبات من‏‎ ‎‏أقوی الشواهد علی المدّعی ، وبه یحفظ لطائف الکلام وجمال الأقوال فی الخُطب‏‎ ‎‏والأشعار ، وبذلک یستغنی عن کثیر من المباحث الطفیف الفائدة ، مثل أنّ المجاز هل‏‎ ‎‏یحتاج إلی الرخصة من الواضع أولا ؟ وأنّ وضع العلائق شخصی أو نوعی ؟ لما قد‏‎ ‎‏عرفت : من أنّ الاستعمال فی جمیع المجازات لیس إلاّ فی الموضوع له ؛ وإن کان‏‎ ‎‏صحّة الادّعاء وحسن وقوعه أمراً مربوطاً بالذوق السلیم .‏

‎ ‎

کتابت‍ه‍ذی‍ب الاص‍ول (ج.۱): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 64

  • )) مفتاح العلوم : 156 .
  • )) المطوّل : 362 .
  • )) وقایة الأذهان : 103 .
  • )) یوسف (12) : 31 .