مقالة المحقّق العراقی فی المقام

مقالة المحقّق العراقی فی المقام

‏ ‏

‏ثمّ إنّ بعض المحقّقین من المشایخ‏‎[1]‎‏ ـ بعد تسلیم إیجادیة بعض الحروف ـ‏‎ ‎‏أنکر کون الفرد الموجود به معناه الموضوع له ، واستدلّ علیه بوجوه :‏

أحدها :‏ أنّ معنی اللفظ ومدلوله بالذات هو ما یحضر فی الذهن عند سماع‏‎ ‎‏اللفظ الموضوع له ، ولاریب أنّ الموجود الخارجی لایمکن حضوره فی الذهن ،‏‎ ‎‏فالخارج هو المدلول علیه بالعرض ؛ من جهة فناء المدلول علیه بالذات فیه .‏

وفیه أوّلاً :‏ أنّه منقوض بالأعلام الشخصیة علی مبنی المشهور ، وقد اعترف‏‎ ‎‏هو ‏‏قدس سره‏‏ ونحن بإمکانه ، وإن ناقشنا فی وقوعه‏‎[2]‎‏ .‏

وثانیاً :‏ أنّ الغایة من وضع الألفاظ واستعمالها هی الإفادة والاستفادة‏‎ ‎‏بإحضار المعانی فی الذهن ، من غیر فرق بین أن یکون حضورها بالعرض أو‏‎ ‎‏بالذات ، والقائل بوضع بعض الألفاظ للموجود فی الخارج ینکر کون الموضوع له‏‎ ‎‏هو المعلوم بالذات ، بل یعترف بأنّه المعلوم بالعرض .‏

وثالثاً :‏ أنّ الموضوع له فی أغلب الأوضاع أو جمیعها غیر ما یحضر فی‏

کتابت‍ه‍ذی‍ب الاص‍ول (ج.۱): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 37
‏الذهن بالذات . یرشدک إلیه أسماء الأجناس ؛ حیث إنّها وضعت للطبیعة الصرفة‏‎ ‎‏العاریة عن کلّ قید ـ حتّی قید کونها موجودة فی نشأتی الذهن والخارج ـ فإذا‏‎ ‎‏اُطلقت فلا ینتقل السامع إلاّ إلی هذا المعنی النفس الأمری ، لا إلی الموجود فی‏‎ ‎‏ذهنه ، ولا إلی ما فی ذهن متکلّمه .‏

‏وبالجملة : الصورة الذهنیة مرآة للمعنی المفهوم الذی هو الموضوع له ، ولازم‏‎ ‎‏ذلک هو کونها مغفولاً عنها . وقس علیه الأعلام ؛ إذ الانتقال إلی الخارج الموضوع له‏‎ ‎‏إنّما هو بالصورة الذهنیة ، لاغیر .‏

وثانیها :‏ أنّ هذا الموجود الخارجی الذی هو بالحمل الشائع نداءً ـ مثلاً ـ‏‎ ‎‏لایتحقّق فی الخارج إلاّ بنفس الاستعمال ، فیکون متأخّراً عنه ؛ تأخّر المعلول عن‏‎ ‎‏علّته ، ولاریب فی أنّ المستعمل فیه مقدّم علی الاستعمال بالطبع ، فإذا کان هذا‏‎ ‎‏الموجود هو المستعمل فیه لزم تقدّم الشیء علی نفسه .‏

وفیه :‏ أنّه لا دلیل علی تقدّم المستعمل فیه علی الاستعمال ؛ وإن کانت لفظة‏‎ ‎‏«فی» توهّم ذلک ؛ فإنّ ملاک التقدّم منتف فیه ـ حتّی فی الحاکیات ـ والتقدّم فی‏‎ ‎‏بعضها اتّفاقی لاطبعی بملاکه ، والقائل بإیجادیة بعض الألفاظ ینکر لزومه .‏

والحاصل :‏ أنّ الألفاظ قد تکون حاکیات عن الواقع المقرّر ، وقد تکون‏‎ ‎‏موجدة لمعانیها فی الوعاء المناسب لها ، والکلّ یشترک فی کونها موجبة لإخطار‏‎ ‎‏معانیها فی الذهن ـ ولو بالعرض ـ ولا دلیل علی أزید من ذلک . ولزوم تقدّم‏‎ ‎‏المستعمل فیه غیر ثابت ، لو لم یثبت خلافه .‏

وثالثها :‏ أنّ الأدوات الإیجادیة ـ کالنداء والتشبیه ـ قد تستعمل فی غیر ما‏‎ ‎‏یکون نداءً حقیقةً بداعی التشویق والسُخریة ، فلا یکون الموجود بهذا الاستعمال‏‎ ‎‏نداءً أو تشبیهاً بالحمل الشائع .‏


کتابت‍ه‍ذی‍ب الاص‍ول (ج.۱): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 38
‏فإمّا أن یکون الاستعمالات المزبورة فی تلک المعانی بنحو من المجاز فهو‏‎ ‎‏ممّا لا یقول به المفصّل ، وإمّا أن تکون استعمالاً فی معانیها الحقیقیة ولکن بداعی‏‎ ‎‏التشویق أو غیره فیلزم أن یکون معانیها غیر ما یوجد بها ؛ حتّی فیما استعمل بداعی‏‎ ‎‏إفادة ما هو الموضوع له .‏

وفیه :‏ أنّ من المحقَّق عند العارف بأسالیب الکلام ومحاسن الجمل هو أنّ‏‎ ‎‏المجاز لیس إلاّ استعمال اللفظ فیما وضع له بدواع عقلائیة ؛ من التمسخر والمبالغة‏‎ ‎‏والتشویق ؛ حتّی فی مثل إطلاق الأسد علی الجبان ، ولفظ یوسف علی قبیح‏‎ ‎‏المنظر ، وإلاّ لصار الکلام خالیاً عن الحسن ومبتذلاً مطروحاً .‏

‏وعلیه : فالشاعر المُفلق فی قوله :‏

‏ ‏

‏یا کوکباً ما کان أقصر عمره‏

‎ ‎‏وکذا تکون کواکب الأسحار‏

‏ ‏

‏قد استعمل حرف النداء فی النداء بالحمل الشائع ، وأوجد فرداً منه ، لکن‏‎ ‎‏بداعٍ آخر من التضجّر وغیره ، ولکن إرادة الجدّ بخلافه . فما قال من عدم کونها‏‎ ‎‏مجازاً ممنوع بل مجاز ، ومطلق المجاز یستعمل لفظه فی معناه الحقیقی بداعی‏‎ ‎‏التجاوز إلی غیره ، وسیأتی زیادة تحقیق فی ذلک إن شاء الله ‏‎[3]‎‏ .‏

ثمّ إنّه ‏قدس سره‏‏ قد اختار :‏‏ أنّ الحروف کلّها إخطاریـة ، موضوعـة للأعراض‏‎ ‎‏النسبیة التی یعبّر عنها وعن غیرها من سائر الأعراض بالوجودات الرابطیة ، وأنّ‏‎ ‎‏مدالیل الهیئات هی الوجود الرابط ؛ أی ربط العرض بموضوعه ؛ إذ لفظة «فی» فی‏‎ ‎‏قولنا : «زید فی الدار» تـدلّ علی العرض الأینی العارض علی زید ، والهیئة تـدلّ‏‎ ‎‏علی ربطه بجوهره .‏


کتابت‍ه‍ذی‍ب الاص‍ول (ج.۱): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 39
‏وما قیل : من أنّ مدلول الحروف إذا کان عرضاً نسبیاً فهو بذاته مرتبط‏‎ ‎‏بموضوعه ، فلا حاجة إلی جعل الهیئة لذلک ، مدفوع بأنّ مدلول الهیئة یفصّل ما دلّ‏‎ ‎‏علیه الحروف مجملاً‏‎[4]‎‏ .‏

قلت :‏ إنّ الصدر مخالف لما فی الذیل ؛ حیث أفاد فی صدر کلامه : أنّ مدالیل‏‎ ‎‏الحروف من قبیل الأعراض النسبیة ـ أی غیر الکمّ والکیف من الأعراض قاطبة ـ‏‎ ‎‏فهی وجودات رابطیة مستقلاّت فی المفهومیة ، وأنّ مدالیل الهیئات عبارة عن ربط‏‎ ‎‏الأعراض بموضوعاتها ـ أی وجودات رابطة متدلّیة الذوات ، غیر مستقلّة المفاهیم ـ‏‎ ‎‏ولکن ما فی الجواب یصرّح وینادی بتساویهما فی المفهوم والمعنی ، وأنّ الفرق‏‎ ‎‏بالإجمال والتفصیل فقط .‏

‏أضف إلی ذلک : أنّ ما رامه خلف من القول ، وانحراف عمّا أخذه أئمّة الأدب‏‎ ‎‏والاُصول خطّة مسلّمة ؛ من کون معانی الحروف غیر مستقلّة فی المفهومیة ، وأنّها‏‎ ‎‏لاتکون محکوماً علیها ولابها ، ولاتقع طرف الربط ، وقد أشرنا إلیه فی تحقیق‏‎ ‎‏المختار‏‎[5]‎‏ .‏

‏وما اختاره من کون معانیها هی الأعراض النسبیة والوجودات الرابطیة عین‏‎ ‎‏القول بالوجود المحمولی والاستقلال فی المفهوم .‏

‏ثمّ لیت شعری : أنّ الحـروف الإیجادیـة ـ کحروف النداء ـ وشبهها‏‎ ‎‏ـ کحروف القَسم ـ کیف تحکی عـن الأعراض النسبیة ، مع حکمـه کلّیاً بأنّ‏‎ ‎‏الحروف کلّها حاکیات عـن الأعراض النسبیة ؟ مع بداهـة أنّ القائل فی قوله :‏

کتابت‍ه‍ذی‍ب الاص‍ول (ج.۱): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 40
‏«وامـن حفر بئر زمزماه» و«یا أیّها الرسول» لایحکی عن نداء خارجی أو ذهنی ،‏‎ ‎‏بل یوجد فرداً منه حین الاستعمال .‏

‏ثمّ إنّ هذا لایتمّ فیما کان المحمول وطرف الربط فی القضیة من مقولة الکمّ‏‎ ‎‏والکیف ، کما فی قولنا : «زید له البیاض» ، و«الجسم له طول وعرض» ، فهل اللام‏‎ ‎‏موضوع للعرض النسبی واستعمل هنا فی معنی مجازی ؛ وهو نفس الربط والإضافة‏‎ ‎‏بینهما ، مع أنّه خلاف الارتکاز ؟ والتحقیق : أنّ اللام یفید الإضافة بالمعنی‏‎ ‎‏التصوّری ، والهیئة تدلّ علی تحقّقها ، وسیأتی زیادة تحقیق لذلک .‏

‎ ‎

کتابت‍ه‍ذی‍ب الاص‍ول (ج.۱): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 41

  • )) بدائع الأفکار (تقریرات المحقّق العراقی) الآملی 1 : 46 ـ 47 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 31 .
  • )) یأتی فی الصفحة 62 .
  • )) بدائع الأفکار (تقریرات المحقّق العراقی) الآملی 1 : 43 و 50 ـ 51 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 32 .