فی معانی الحروف

فی معانی الحروف

‏ ‏

‏وأمّا القسم الثالث ـ أعنی عموم الوضع وخصوص الموضوع له ـ فقد مثّلوا‏‎ ‎‏له بالحروف‏‎[1]‎‏ ، فلنبدأ بتحقیق معانیها حتّی تتّضح کیفیة وضعها :‏

فنقول :‏ إنّک إذا أمعنت النظر ولاحظت الموجودات ـ من شدیدها إلی‏‎ ‎‏ضعیفها ـ تری بعین الدقّة انقسام الموجودات الإمکانیة إلی أقسام وشعب :‏

فمنها :‏ ما هو تامّ ماهیةً ووجوداً ؛ أی یوصف حقیقتها ویدرک جوهرها‏‎ ‎‏مستقلّة فی المدارک العقلیة بلا توسیط شیء ، کما أنّه یتحقّق ویحصل فی الأعیان‏‎ ‎‏کذلک ، من دون أن یعتمد علی شیء أو یحصل فی موضوع ـ کالجواهر بأنواعها‏‎ ‎‏العالیة والسافلة ـ ویعبّر عنه بالموجود لنفسه وفی نفسه .‏

ومنها :‏ ما هو تامّ ماهیة ومفهوماً ، ویتصوّر ماهیة العقلانیة فی نشأة الذهن‏‎ ‎‏بحیالها ، ولا یحتاج فی التحدید إلی أمر آخر ، ولکنّه غیر تامّ وجوداً ، ولایمکن أن‏‎ ‎‏یتحقّق فی نفسه مستقلاًّ ، ولا أن یشغل الأعیان إلاّ بالحصول فی موضوع والعروض‏‎ ‎‏علی معروض ، کالأعراض بأسرها .‏

ومنها :‏ ما هو قاصر فی کلتا النشأتین ، فلا یجعل فی الذهن إلاّ تبعاً وتطفّلاً‏‎ ‎‏للغیر ، ولایوجد فی الخارج إلاّ مندکّاً فی طرفیه ، کالنِسَب والإضافات والوجودات‏

کتابت‍ه‍ذی‍ب الاص‍ول (ج.۱): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 32
‏الرابطة ؛ فإنّ لها محکیات ومسمّیات فی الخارج ، لاتخرج من حدود الوجود ، ولها‏‎ ‎‏حظّ منه . تجد جمیع هذه فی قولنا : «الجسم له البیاض» ؛ فإنّ محکی الجسم‏‎ ‎‏والبیاض غیر حصول البیاض للجسم ، وحصوله للجسم لیس کلا حصوله ، ووقوع‏‎ ‎‏زید فی الدار لیس کلا وقوعه . نعم لیس لهذا القسم الأخیر ماهیة معقولة مستقلّة ؛‏‎ ‎‏بأن یدرک ما هو ربط بالحمل الشائع ، من دون إدراک الأطراف ، کما أنّ موجودیته‏‎ ‎‏أیضاً بعین موجودیة الطرفین .‏

‏وأمّا مفهوم الربط والنسبة التی تدرک مستقلّة فلیس نسبة ولا ربطاً إلاّ‏‎ ‎‏بالحمل الأوّلی الذاتی ، لا بالحمل الشائع ؛ إذ للعقل أن ینتزع منها مفهوماً مستقلاًّ‏‎ ‎‏یجعله حاکیاً عن الروابط الحقیقیة ومشیراً إلیها بنحو من الحکایة والإشارة ، لا‏‎ ‎‏کحکایة الماهیة عن مصداقها ؛ إذ لایمکن استحضار حقائق النِسب فی الذهن بذاتها‏‎ ‎‏بتوسّط هذه العناوین .‏

‏ولا یتعقّل ذواتها بنحو الاستقلال ـ لا بالذات ولا بالعرض ـ إذ المفروض : أنّ‏‎ ‎‏حقیقتها عین الربط بالطرفین والفناء والاندکاک فیهما ، فلا یمکن الاستحضار إلاّ تبعاً‏‎ ‎‏لهما ، کما لایوجد فی وعاء الخارج إلاّ کذلک .‏

‏وإن شئت قلت : إنّ الفرق بین القضیة المعقولة وما تنطبق علیه خارجاً لیس‏‎ ‎‏إلاّ باختلاف الموطن ؛ بحیث لو أمکن قلب أحدهما إلی الآخر لحصل التطابق‏‎ ‎‏بلا زیادة ونقصان .‏

‏فحینئذٍ : فکما أنّ الربط التکوینی بین الجواهر والأعراض إنّما هو بوجود‏‎ ‎‏النسب والوجودات الرابطة ـ بحیث لولاها یستقلّ کلّ فی مکانه ،ولم یکن زید‏‎ ‎‏مثلاً مرتبطاً بالدار ، ولاالدار مرتبطة بزید ـ فکذلک حال المعقولات ؛فإنّه لایلتئم‏

کتابت‍ه‍ذی‍ب الاص‍ول (ج.۱): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 33
‏الجواهر المعقولة مع الأعراض فی الذهن إلاّ ببرکة النسب والإضافات الذهنیة .‏

والحاصل :‏ أنّه قد یکون المعقول منّا مطابقاً لما فی الخارج ، کما إذا تصوّرنا‏‎ ‎‏الجسم والبیاض مرتبطاً وجود أحدهما بالآخر ، من دون أن یکون لهذا الارتباط‏‎ ‎‏صورة مستقلّة ، ففی هذا النحو من التعقّل یکون حقیقة الربط والنسبة متحقّقین فی‏‎ ‎‏الذهن ، کتحقّقهما فی الخارج ؛ أعنی مندکّاً فی الطرفین .‏

‏وقد یکون المعقول منّا مخالفاً لما فی العین ، کما إذا تعقّلنا مفهومی الإنسان‏‎ ‎‏والدار ومفهوم الربط بالحمل الأوّلی ، فیکون الکلّ مفاهیم مفردة استقلالیة ، لا‏‎ ‎‏یرتبط بعضها ببعض .‏

‏هذا حال العین والذهن مع قطع النظر عن الوضع والدلالة .‏

‏وأمّا بالنظر إلیهما : فإن أراد المتکلّم أن یحکی عـن ارتباط الجواهـر‏‎ ‎‏بالأعـراض فـی الخـارج ، أو عـن الصورة المعقولـة المـرتبط بعضها ببعض‏‎ ‎‏لا محیص له إلاّ بالتشبّث بأذیال الحروف والهیئات ، فلو تکلّم موضعها بألفاظ‏‎ ‎‏مفردة اسمیـة ؛ من الابتداء والانتهاء والربط لایکون حینئذٍ حاکیاً عن نفس الأمر ،‏‎ ‎‏ولم ینسجم کلماته .‏

‏وبالجملة : لولا محکیات الحروف ومعانیها لم یرتبط الجواهر بأعراضها فی‏‎ ‎‏الخارج ، ولا الصور المعقولة الحاکیة عن الخارج بعضها ببعض ، ولولا ألفاظها لم‏‎ ‎‏یرتبط الکلمات ، ولم تحصل الجمل .‏

والخلاصة :‏ أنّ حصول الربط بها لیس معناه أنّها موضوعة لإیجاد الربط‏‎ ‎‏فقط ـ کما سیجیء نقله ـ بل حصوله إنّما هو لأجل حکایتها عن معانٍ خاصّة‏‎ ‎‏مختلفة مندکّة فانیة ؛ من الابتداء والانتهاء والاستعلاء والحصول الآلیات التی بها‏

کتابت‍ه‍ذی‍ب الاص‍ول (ج.۱): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 34
‏حصل الربط فی الخارج وفی وعاء التکوین ، فأوجب حکایةُ هذه المعانی المختلفة‏‎ ‎‏بألفاظ مخصوصة الربطَ فی الکلام وانسجام الجمل ، فتدبّر .‏

‎ ‎

کتابت‍ه‍ذی‍ب الاص‍ول (ج.۱): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 35

  • )) معالم الدین : 124 ، قوانین الاُصول 1 : 10 / السطر6 ، الفصول الغرویة : 16 / السطر6 .