الأمر الثالث فی أقسام الوضع
ینقسم الوضع علی حسب التصوّر إلی عموم الوضع والموضوع له ، وخصوصهما ، وعموم الأوّل فقط ، وعموم الثانی کذلک .
وربّما یسلّم : إمکان القسم الثالث دون الرابع ، بزعم : أنّ العامّ یمکن أن یکون وجهاً للخاصّ وآلة للحاظ أفراده ، وأنّ معرفة وجه الشیء معرفته بوجه ، بخلاف الخاصّ ؛ فلا یقع مرآةً للعامّ ولا لسائر الأفراد ؛ لمحدودیته .
قلت : الحقّ أنّهما مشترکان فی الامتناع علی وجهٍ والإمکان علی نحوٍ آخر ؛ إذ کلّ مفهوم لایحکی إلاّ عمّا هو بحذائه ، ویمتنع أن یکون حاکیاً عن نفسه وغیره ، والخصوصیات وإن اتّحدت مع العامّ وجوداً إلاّ أنّها تغایره عنواناً وماهیة .
فحینئذٍ : إن کان المراد من لزوم لحاظ الموضوع له فی الأقسام هو لحاظه بما هو حاکٍ عنه ومرآة له فهما سیّان فی الامتناع ؛ إذ العنوان العامّ ـ کالإنسان ـ لایحکی إلاّ عن حیثیة الإنسانیة ، دون ما یقارنها من العوارض والخصوصیات ؛ لخروجها من حریم المعنی اللا بشرطی ، والحکایة فرع الدخول فی الموضوع له .
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 25
وإن کان المراد من شرطیة لحاظه هو وجود أمر یوجب الانتقال إلیه فالانتقال من تصوّر العامّ إلی تصوّر مصادیقه أو بالعکس بمکان من الإمکان . والظاهر کفایة الأخیر ، بأن یؤخذ العنوان المشیر الإجمالی آلة للوضع لأفراده ، ولایحتاج إلی تصوّرها تفصیلاً ، بل ربّما یمتنع ؛ لعدم تناهیها .
وبذلک یظهر : ضعف ما ربما یقال من أنّ الطبیعة کما یمکن أن تلاحظ مهملة جامدة ، یمکن لحاظها ساریة فی أفرادها مندرجة فی مصادیقها ، وعلیه تکون عین الخارج ونفس المصادیق ؛ ضرورة اتّحاد الماهیة والوجود فی الخارج ، والانفصال إنّما هو فی الذهن ، فتصحّ مرآتیتها للأفراد ؛ إذ الاتّحاد الخارجی لا یصحّح الحکایة ، وإلاّ لکانت الأعراض حاکیة عن جواهرها .
ومن الواضح : أنّ المشخّصات غیر داخلة فی مفهوم العامّ ، فکیف یحکی عنها ، والحکایة تدور مدار الوضع والدخول فی الموضوع له .
ثمّ إنّ هناک قسماً خامساً بحسب التصوّر ـ وإن کان ثبوته فی محلّ المنع ـ وهو أنّ عموم الموضوع له قد یکون بوضع اللفظ لنفس الطبائع والماهیات ، کأسماء الأجناس ؛ فإنّها موضوعة لما هو عامّ بالحمل الشائع ، من دون أخذ مفهوم العموم فیه ، وإلاّ یلزم التجرید والتجوّز دائماً ؛ لکونها بهذا القید آبیة عن الحمل .
واُخری : یکون الموضوع له هو العامّ بما هو عامّ ، کما أنّه فی الخاصّ کذلک دائماً ؛ إذ الموضوع له هو الخاصّ بما هو خاصّ .
نقل وتنقیح
إنّ بعض المحقّقین من المشایخ ذهب إلی أنّ لعموم الوضع والموضوع له معنی آخر ، وملخّص ما أفاده : هـو أنّ للطبیعی حصصاً فی الخارج متکثّرة
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 26
الوجود ، ولها جامع موجود فی الخارج بالوجود السعی ، ملاصقاً للخصوصیات ، واحداً بالوحدة الذاتیة بدلیل انتزاع مفهوم واحد منها ، ولامتناع تأثیر العلّتین فی معلول واحد .
وللصور الذهنیة أیضاً جامع کذلک ، وإلاّ لم تکن تامّ الانطباق علی الخارج . ولازم ذلک : عدم تحقّق المعنی المشترک فی الذهن إلاّ فی ضمن الخصوصیات .
فحینئذٍ : یمکن ملاحظة هذه الجهة المتّحدة الساریة فی الخصوصیات ، المطابقة لما فی الخارج بتوسیط معنی إجمالی ، فیوضع اللفظ لها لا للخصوصیات ، فی قبال وضعه للجامع المجرّد عنها ، وهذا أیضاً من قبیل الوضع العامّ والموضوع له کذلک ، ولکن لازمه انتقال النفس فی مقام الاستعمال إلی صور الأفراد . ولاینافی هذا کون الطبیعی بالنسبة إلی الأفراد کالآباء إلی الأولاد .
وأنت خبیر : بأنّ نخبة المقال فی تحقیق الوجود الطبیعی وکیفیة وجوده وتکثّره بتکثّر الأفراد ، وأنّ ما ینال العقل من الطبیعی من کلّ فرد مغایر من کلّ ما یناله من فرد آخر عدداً ـ وإن کان عینه سنخاً ـ لابدّ أن یطلب من محلّ آخر ولکن عصارة ذلک : هو أنّ کلّ فرد من أفراد أیّ کلّی فُرض فهو مشتمل علی تمام حقیقة کلّیة وطبیعیة ، فکلّ فرد یتحقّق فیه الطبیعی بتمام أجزائه ؛ فإذن إنسانیة زید غیر إنسانیة عمرو ، وهکذا سائر الأفراد ، فکلّ فرد إنسان تامّ بنفسه .
والسرّ فی ذلک : أنّ الماهیة اللا بشرط ـ کمفهوم الإنسان ـ توجد فی الخارج بنعت الکثرة ، وتنطبق علی آلاف من المصادیق ، کلّ واحد منها حائز حقیقة تلک الماهیة بتمام ذاتها .
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 27
نعم ، العقل بعد التجرید وحذف الممیّزات والمشخّصات یجد فی عالم الذهن منها شیئاً واحداً وحدة ذاتیة نوعیة ، وهی لاتنافی الکثرة العددیة فی وعاء الخارج .
وهذا هو مراد مَن قال : إنّ للماهیة نشأتین : نشأة خارجیة ؛ هی نشأة الکثرة المحضة ، ونشأة عقلیة ؛ وهی نشأة الوحدة النوعیة ، وأنّ الطبیعی مع أفراده کالآباء مع الأولاد .
ولکن ما ذکره المحقّق المذکور قدس سره صریح فی أنّ الکلّی الطبیعی أمر واحد جامع موجود فی الخارج بنعت الوحدة ، ینتزع منه المفهوم الکلّی .
وهو وإن فرّ عن ذلک ؛ قائلاً بأنّ الحصص متکثّرة الوجود ؛ لئلاّ یلزم الوحدة العددیة للطبیعی ، ولکن التزامه بالجامع الموجود فی عالم الخارج بالوجود السعی الذی جعله منشأً لانتزاع المفهوم الواحد ـ أعنی مفهوم الطبیعی ـ یوهم أو یصرّح بخلافه ، وینطبق لما ینسب إلی الرجل الهمدانی القائل بوجود الطبیعی فی الخارج بالوحدة الشخصیة ؛ إذ القول بوجود الجامع الخارجی بنعت الوحدة یساوق کونه موجوداً بالوحدة العددیة .
هذا ، واعطف نظرک إلی ما أقامه برهاناً لما اختاره ؛ أمّا ما ذکره من قضیة عدم انتزاع مفهوم واحد إلاّ عن منشأ واحد ففیه : أنّه لایثبت أن یکون فی الخارج أمر واحد موجود بنعت الوحدة ، بل یجامع ما أسمعناک من تجرید الأفراد عن اللواحق أیضاً ، فعند ذلک ینال العقل من کلّ فرد ما ینال من الآخر ؛ إذ التکثّر ناشٍ عن ضمّ المشخّصات ، فعند حذفها لامناص إلاّ عن التوحّد فی الذهن .
وأمّا ما ذکره : من أنّ الجامع هو المؤثّر عند اجتماع العلل علی معلول واحد فالظاهر : أنّه جواب عمّا ربّما یورد علی القاعدة المسلّمة فی محلّها من أنّه لایصدر الواحد إلاّ عن الواحد ؛ حیث ینتقض ذلک بالبنادق المؤثّرة فی قتل حیوان ،
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 28
وباجتماع عدّة أشخاص لرفع حجر عظیم ، فیجاب : بأنّ المؤثّر فی أمثال هذه الموارد هو الجامع الموجود بین العلل .
ولکن الإشکال والجواب لم یصدر إلاّ عمّن لم یقف علی مغزی القاعدة ومورد ثبوتها ، ولم ینقّح کیفیة تعلّق المعلول بالعلّة فی الفاعل الإلهی ؛ أعنی مفیض الوجود ومعطی الهویة ؛ إذ أصحاب التحقیق فی هاتیک المباحث خصّصوا القاعدة ـ تبعاً لبرهانها ـ بالواحد البحت البسیط من جمیع الجهات ، والمتکثّرات ـ خصوصاً العلل المادّیة ـ أجنبیة عنها ، فلا حاجة إلی دفع نقوضها ، مع أنّها واضحة الفساد لدی أهله .
أضف إلی ذلک : أنّ الواحد بالنوع والذات ـ أعنی المفهوم ـ لایمکن أن یکون مؤثّراً ولا متأثّراً إلاّ بالعرض ، بل المؤثّر والمتأثّر هی الهویة الوجودیة الواحدة بالوحدة الحقیقیة .
وحینئذٍ : فالحقّ الصراح هو امتناع وجود الجامع بما هو جامع فی الخارج والذهن کلیهما ، بعد ما عرفت : من أنّ الوجود مدار الوحدة ، وهو لایجتمع مع الجامعیة والکلّیة . نعم تصویر أخذ الجامع إنّما هو من ناحیة تجرید الأفراد عن الخصوصیات ، کما سبق . وسیوافیک تفصیل القول فی هذه المباحث عند التعرّض بمتعلّق الأوامر ، فارتقب حتّی حین .
هذا ، ولو سلّمنا وجود ما تصوّر من الجامع ، أو فرضنا وضع اللفظ له ، لکنّه لایوجب إحضار الخصوصیات فی الذهن ، بعد فرض وضع اللفظ لنفس الجامع
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 29
اللابشرط الموجود بالوجود السعی ، ولصوقه بها واتّحاده معها فی الخارج لایوجب إحضارها بلفظ لم یوضع لها ، ولو کان مجرّد الاتّحاد الخارجی کافیاً فی الإحضار لکفی فیما إذا کان اللفظ موضوعاً لنفس الماهیة ، مع قطع النظر عن وجودها السعی ؛ لأنّها متّحدة معها خارجاً ؛ ولو بنعت الکثرة .
وهم ودفع
أمّا الأوّل : فهو أنّه قد یتخیّل امتناع عموم الوضع مطلقاً ؛ لأنّ الملحوظ بعد تنوّره بنور الوجود فی اُفق الذهن ـ لا محالة ـ یصیر جزئیاً ذهنیاً مشخّصاً علمیاً ؛ فإنّ الوجود یساوق الوحدة . وغفلة اللاحظ عن لحاظه وقطع نظره عن تشخّصه لایوجب انقلاب الجزئی کلّیاً .
وأمّا الثانی : فهو أنّ المراد من الملحوظ ما هو ملحوظ بالعرض لا ما بالذات ، ولا طریق لنا إلیه إلاّ بالماهیة الملحوظة کذلک ، والملحوظیة بالعرض کافیة فی الوضع وفی صیرورته عامّاً وخاصّاً ، وإلاّ لصار الوضع للخارجیات ممتنعاً کلّیة ؛ لعدم نیل النفس إیّاها إلاّ بواسطة الصورة الملحوظة بالذات ، کما أنّه لایمکن لها النیل لنفس الماهیة المعرّاة عن جمیع الخصوصیات ـ حتّی عن کونها ملحوظة فی الذهن ـ إلاّ بواسطة فرد ذهنی یشیر به إلیها ، وهذا هو الحال فی الإخبار عن المعدوم المطلق بأنّه لایخبر عنه ، وعن شریک البارئ بأنّه ممتنع .
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 30