الاستدلال بالسیرة العقلائیة علی حجّیة قول الثقة
وقد عرفت أنّها العمدة فی الباب ، بل لا دلیل غیرها ، ویقف علی وجودها کلّ من له إلمام بالمجتمعات البشریة منذ دوّن تأریخ البشر ، واستقرّ له التمدّن ، واتّخذ لنفسه مسلکاً اجتماعیاً .
وما ورد من الآیات الناهیة من العمل بغیر العلم أو العمل بالظنّ لیست رادعة عن السیرة ؛ إذ لو کانت رادعة لمطلق العمل بالظنّ أو بغیر العلم شملت نفسها ؛ لأنّها بمنزلة القضایا الحقیقیة ، الثابت فیها الحکم لموضوعاتها المحقّقة کلّ فی موطنها ، ومن العمل بالظنّ نفس التمسّک بهذه الآیات والأخذ بمفادها ؛ فیلزم من جواز التمسّک عدم جوازه .
وأمّا ما أفاده المحقّق الخراسانی من أنّ رادعیة تلک الآیات تستلزم الدور المحال فضعیف ، وقد مرّ وجهه عند البحث عن استدلال النافین بالآیات .
لا یقال : إنّ المحال إنّما یلزم من شمولها لنفسها ، فیندفع بعدم شمولها لنفسها ، وحینئذٍ یصلح للرادعیة عن مطلق العمل بالظنّ .
لأنّا نقول : لا شکّ أنّ هذه الآیة إنّما نزلت لأجل الإفادة والاستفادة حتّی یأخـذ الاُمّـة بمضمونها ، کما لا شکّ فی أنّ العمل بظاهـرها لیس إلاّ عملاً بالظـنّ
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 472
وبغیر العلم . وحینئذٍ فهل المتکلّم اتّکل فی بیان مـراده علی مفروغیـة حجّیـة الظواهـر الظنّیة کما هـو المطلوب ، أو اتّکل علی عـدم شمولها لنفسها ؛ لاستلزامـه المحال ؟
ولا أظـنّ أحـداً یتفوّه بالثانی ؛ فإنّه خارج عن المتفاهم العرفی والطریقة المألوفة بین العقلاء . فإذا کان الاتّکال فی الإفهام علی السیرة ـ أعنی مفروغیة حجّیة الظواهر مع عدم إفادتها العلم ـ یعلم بعد إلغاء الخصوصیة عدم رادعیتها للسیرة القطعیة فی العمل بالظواهر أو بقول الثقة المأمون أو غیرهما ممّا علیه عمل العقلاء .
وإن شئت قلت : إنّ المتکلّم قد اعتمد فی إفادة المطلوب علی السیرة العقلائیة الدائرة بینهم من حجّیة الظواهر ، لا علی أنّ هذا الکلام لا یشمل لنفسها لأجل لزوم المحال ؛ فإنّه خارج عن المتفاهم العرفی .
فإذا کان الاعتماد علی السیرة المستمرّة من حجّیة الظواهر مع عدم إفادتها العلم یعلم بإلغاء الخصوصیة أنّ الآیة غیر رادعة لما قامت علیه السیرة من العمل بالظنون فی موارد خاصّة من الظواهر وحجّیة قول الثقة وغیرهما .
ثمّ إنّ بعض الأعاظم أفاد فی المقام : أنّه لا یحتاج فی اعتبار الطریقیة العقلائیـة إلی إمضاء صاحب الشرع لها والتصریح باعتبارهـا ، بل یکفی عـدم الردع عنها ؛ فإنّ عدم الردع عنها مع التمکّن منه یلازم الرضاء بها ؛ وإن لم یصرّح بالإمضاء .
نعم ، لا یبعد الحاجـة إلی الإمضاء فی باب المعاملات ؛ لأنّها مـن الاُمـور الاعتباریـة التی یتوقّف صحّتها علی اعتبارهـا ؛ ولو کـان المعتبر غیر الشارع
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 473
فلابـدّ مـن إمضاء ذلک ؛ ولو بالعموم والإطلاق .
وتظهر الثمرة فی المعاملات المستحدثة التی لم تکن فی زمان الشارع ، کالمعاملات المعروفة فی هذا الزمان ـ البیمة التأمین ـ فإنّها إذا لم یندرج فی عموم «أَحَلَّ الله ُ الْبَیْعَ» أو «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» ونحو ذلک فلا یجوز ترتیب آثار الصحّة علیها ، انتهی .
وفیه : أنّ التفریق بین المعاملات وغیرها باحتیاج الاُولی إلـی الإمضاء وعـدم کفایة الردع ، بخلاف الثانی غیر صحیح ؛ لأنّ مجرّد کون المعاملات اُموراً اعتباریة لا یستلزم لزوم الإمضاء وعدم کفایة عدم الـردع ، فإذا کانت المعاملة بمرأی ومسمع من الشارع ، وکان متمکّناً عن الردع فسکوته کاشف عن رضاه ، وهذا کافٍ فی نفوذ المعاملة .
ثمّ إنّه قدس سره أفاد ثانیاً : أنّ سیرة المسلمین فی الاُمور التوقیفیة التی من شأنها أن تتلقّی من الشارع تکشف لا محالة عن الجعل الشرعی ، وأمّا فی غیر التوقیفیة التی کانت تنالها ید العرف والعقلاء قبل الشرع فمن المحتمل قریباً رجوع سیرة المسلمین إلی طریقة العقلاء ، ولکن ذلک لا یضرّ جواز الاستدلال بها ؛ فإنّه کما أنّ استمرار طریقة العقلاء یکشف عن رضاء صاحب الشرع ، کذلک سیرة المسلمین تکشف عن ذلک ، غایته : أنّه فی مورد اجتماع السیرة والطریقة یکونان من قبیل تعدّد الدلیل علی أمر واحد ، انتهی .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 474
وفیه : أنّ عدّ مورد اجتماع السیرتین من باب قیام الدلیلین علی شیء واحد غیر صحیح ؛ فإنّ سیرة المسلمین علی جواز العمل بقول الثقة لو کانت قائمة علیه بما هم مسلمون فلا وجه لإرجاعها إلی طریقة العقلاء وسیرتهم کما ادّعاه .
وإن کانت قائمة علیه لا بما هم مسلمون فهی وإن کانت راجعة إلی سیرة العقلاء لکن لا تصیر السیرة دلیلاً مستقلاًّ بعد اتّحاد الحیثیتین فی متعلّق السیرتین ، بل الدلیل ینحصر فی واحد ؛ وهو سیرة العقلاء .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 475
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 476