الاستدلال علی حجّیة قول الثقة بالأخبار

الاستدلال علی حجّیة قول الثقة بالأخبار

‏ ‏

‏قد استدلّ الأصحاب بالروایات الکثیرة الواردة التی جمعها الشیخ الجلیل‏‎ ‎‏الحرّ العاملی فی کتاب القضاء من «وسائله»‏‎[1]‎‏ ، ولا حاجة لنا فی نقلها وسردها فی‏‎ ‎‏المقام . وعلی القارئ الکریم ملاحظة أبواب القضاء من ذاک الکتاب ، لعلّه یقف علی‏‎ ‎‏أزید ممّا وقف علیه غیره .‏

‏ولکن نعطف نظره إلی نکتة مرّت الإشارة إلیه غیر مرّة ؛ وهو أنّا لاحظنا ما‏‎ ‎‏وقفنا علیه من الأخبار واحداً بعد واحد ، وأمعنا النظر فی مفادها ، فلم نجد فیها ما‏‎ ‎‏یدلّ علی التأسیس ، وأنّ الشارع قد جعل الخبر الواحد أو قول الثقة حجّة من‏‎ ‎‏عنده ، بل یظهر من کثیرها : أنّ حجّیة خبر الثقة کان أمراً مسلّماً عندهم ، وکانت‏‎ ‎‏الغایة فی هذه الأخبار تشخیص الثقة عن غیرها ، وأنّ فلاناً هل یجوز الأخذ منه‏‎ ‎‏لوثاقته أو لا یجوز .‏

‏وإن شئت قلت : إنّ الأخبار فی مقام بیان الصغری ؛ وهو تعیین الثقة ، وأنّ‏‎ ‎‏فلاناً ثقة أو غیر ثقة ، وأمّا الکبری ؛ وهو حجّیة قول الثقة فقد کانت أمراً ارتکازیاً‏

کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 468
‏لهم ، وکان بناء العقلاء علی العمل به .‏

‏وبذلک یظهر : أنّ ما استدلّوا به من الکتاب والسنّة ما یدلّ بظاهرها علی‏‎ ‎‏حجّیة قول الثقة فهی محمولة علی الأمر العقلائی الدائر بینهم ، وکان المرمی إمضاء‏‎ ‎‏عملهم ، لا تأسیس أمر لهم .‏

وأمّا ما أفاده المحقّق الخراسانی‎[2]‎‏ ، وتبعه شیخنا العلاّمة ـ أعلی الله مقامه ـ‏‎ ‎‏من أنّ لازم العلم إجمالاً بتواترها الإجمالی وإن کان هو الأخذ بأخصّ مضامین‏‎ ‎‏تلک الأخبار ـ وهو حجّیة قول العدل الذی شهد اثنان من أهل الفنّ بعدالته ـ إلاّ أنّه‏‎ ‎‏یوجد فی تلک الأخبار خبر یکون جامعاً لعامّة الشرائط الحجّیة ، ویکون مفاده‏‎ ‎‏حجّیة قول مطلق الثقة ، فیتعدّی منه إلی الأعمّ‏‎[3]‎‏ .‏

فغیر صحیح ؛‏ إذ لا أظنّ أن یکون بین الأخبار فی الباب خبر یکون جامعاً‏‎ ‎‏لعامّة الشرائط الحجّیة التی قد قلنا بها من باب الأخذ بالقدر المتیقّن ، ومع ذلک‏‎ ‎‏یکون من حیث المفاد أعمّ ؛ أی دالاًّ علی حجّیة قول مطلق الثقة ، فإنّه مجرّد فرض .‏

‏فإنّ القدر المتیقّن من تلک الأخبار هو الخبر الحاکی من الإمام بلا واسطة ،‏‎ ‎‏مع کون الراوی من الفقهاء نظراء زرارة ومحمّد بن مسلم وأبی بصیر ، ومعلوم أنّه‏‎ ‎‏لیس بینها خبر جامع لتلک الشرائط دالّ علی حجّیة قول مطلق الثقة .‏

‏وأمّا ما أفاده بعض أعاظم العصر من أنّ أغلب الطوائف وإن لم یکن متواتراً‏‎ ‎‏إلاّ أنّه لا إشکال فی أنّ مجموعها متواترة إجمالاً ؛ للعلم بصدور بعضها عنهم‏‎ ‎‏ـ صلوات الله علیهم‏‎[4]‎‏ ـ ففیه : أنّ العلم بصدور البعض لا یمکن الاستدلال به علی‏‎ ‎

کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 469
‏حجّیة قول الثقة مطلقاً ؛ إذ من المحتمل أن یکون الصادر منهم ما یدلّ علی حجّیة‏‎ ‎‏قول الثقة إذا کان جامعاً لشرائط خاصّة .‏

وبالجملـة :‏ العلم بصدور البعض لا یکفی فی استنتاج الأعمّ . علی أنّـه‏‎ ‎‏یمکن منع التواتر ؛ لأنّها مع کثرتها منقولة عـن عـدّة کتب خاصّـة لا تبلغ حـدّ‏‎ ‎‏التواتـر . واشترطـوا فی تحقّق التواتر کـون الطبقات عامّتها متواترة ، والتواتر فی‏‎ ‎‏جمیعها ممنوع .‏

‏نعم ، هاهنا وجـه آخر لإثبات حجّیـة مطلق قول الثقة ، وحاصله : أنّه إن‏‎ ‎‏ثبت حال السیرة العقلائیة ، وظهر أنّ بناء العقلاء علی العمل بمطلق قول الثقة فهو ،‏‎ ‎‏وإلاّ فالقدر المتیقّن من السیرة هو بناؤهم علی حجّیـة الخبر العالی السند الذی‏‎ ‎‏یکون رواته کلّهم ثقات عدول ، قد زکّاهم جمع من العدول ، ولا إشکال فی أنّه‏‎ ‎‏یوجد بین تلک الروایات ما یکون جامعاً لتلک الشرائط ، مع کونه دالاًّ علی حجّیة‏‎ ‎‏قول الثقة مطلقاً .‏

‏فقد روی الکلینی عن محمّد بن عبدالله الحمیری ومحمّد بن یحیی جمیعاً‏‎ ‎‏عن عبدالله بن جعفر الحمیری عن أحمد بن إسحاق عن أبی الحسن ‏‏علیه السلام‏‏ قال :‏‎ ‎‏سألته وقلت : من اُعامل وعمّن آخذ ، وقول من أقبل ؟‏

‏فقال : ‏«العمری ثقتی ، فما أدّی إلیک عنّی فعنّی یؤدّی ، وما قال لک عنّی‎ ‎فعنّی یقول ، فاسمع لـه وأطع ؛ فإنّه الثقـة المأمـون»‎[5]‎‏ . ونحـوها صحیحته‏‎ ‎‏الاُخـری‏‎[6]‎‏ .‏


کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 470
‏وهذه الروایة مع علوّها رواته کلّهم من المشائخ العظام ممّن اتّفق الأصحاب‏‎ ‎‏علی العمل بروایاتهم ، فتلک الروایة لا إشکال فی شمول السیرة العقلائیة علیها ، فإذا‏‎ ‎‏شملتها نتعدّی حسب مضمونها إلی کلّ ثقة مأمون .‏

‏لا یقال : لا یمکن التعدّی منها إلاّ إلی نظراء العمری وابنه ، الذین هم من‏‎ ‎‏الأجلاّء الثقات ، ولا یمکن منه التعدّی إلی مطلق الثقة .‏

‏لأنّا نقول : إنّ التعلیل بأنّه الثقة المأمون یرفع هذا الاحتمال ؛ فإنّ التعلیل‏‎ ‎‏بمطلق الوثاقة والمأمونیة ، لا الوثاقة المختصّة لأضراب العمری وابنه ، کما أنّ‏‎ ‎‏التعلیل فی قول القائل : «لا تشرب الخمر ؛ لأنّه مسکر» ظاهر فی أنّ تمام العلّة ذات‏‎ ‎‏الإسکار ، لا الإسکار المختصّ بالخمر .‏

‏ثمّ هذه الروایة وأمثالها وإن کان لسانه عاریاً عن جعل الحجّیة أو تتمیم‏‎ ‎‏الکشف أو جعل الطریقیة إلاّ أنّه یظهر منه أنّ العمل بقول الثقة المأمون کان رائجاً‏‎ ‎‏بین الأصحاب ، بل بین العقلاء ؛ ولذا جاء أخذ الحدیث من العمری وابنه معلّلاً بأنّه‏‎ ‎‏الثقة المأمون . وبذلک یظهر الفرق بین مقالنا وبین ما ذکره المحقّق الخراسانی ،‏‎ ‎‏فراجع لما نقلناه عنه .‏

‏نعم ، لو قلنا بعدم استفادة إیجاب العمل أو جعل الحجّیة وأمثالها منها یشکل‏‎ ‎‏التمسّک بها لکشف حال السیرة ؛ لعدم الکشف القطعی ـ وهو واضح ـ وعدم کونه‏‎ ‎‏حکماً عملیاً ، فلا معنی للتعبّد به .‏

وکیف کان :‏ فالخطب سهل بعد إحـراز بناء العقلاء علی الاحتجاج بخبـر‏‎ ‎‏کلّ ثقـة .‏

‏ثمّ بناءً علی إنکار بنائهم فالروایة ونحوها تدلّ علی التشریع ولزوم العمل‏‎ ‎‏بقوله ، وما ذکرناه من عدم الدلالة علی التأسیس لأجل إحراز بناء العقلاء ، فتدبّر .‏

‎ ‎

کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 471

  • )) وسائل الشیعة 27 : 77 ، کتاب القضاء ، أبواب صفات القاضی ، الباب 8 والباب 11 .
  • )) کفایة الاُصول : 347 .
  • )) درر الفوائد ، المحقّق الحائری : 392 .
  • )) فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 3 : 191 .
  • )) الکافی 1 : 330 / 1 ، وسائل الشیعة 27 : 138 ، کتاب القضاء ، أبواب صفات القاضی ، الباب 11 ، الحدیث 4 .
  • )) نفس المصدر .