الاستدلال بآیة النفر

الاستدلال بآیة النفر

‏ ‏

‏وممّا استدلّ به قوله تعالی : ‏‏«‏وَمَا کَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِیَنْفِرُوا کَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ‎ ‎کُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِیَتَفَقَّهُوا فِی الدِّینِ وَلِیُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَیْهِمْ لَعَلَّهُمْ‎ ‎یَحْذَرُونَ‏»‏‎[1]‎‏ .‏

وقد ذکر بعض أعاظم العصر تقریباً ،‏ زعم أنّه یندفع به عامّة الإشکالات‏‎ ‎‏المتوهّمة فی دلالة الآیة ، فقال : إنّ الاستدلال یترکّب من اُمور :‏

الأوّل :‏ أنّ کلمة «لعلّ» مهما تستعمل تدلّ علی أنّ ما یتلوها یکون من العلل‏‎ ‎‏الغائیة لما قبلها ؛ سواء فی ذلک التکوینیات والتشریعیات ، والأفعال الاختیاریة‏‎ ‎‏وغیرها . فإذا کان ما یتلوها من الأفعال الاختیاریة التی تصلح لأن یتعلّق بها الإرادة‏‎ ‎‏الآمریة کان لا محالة بحکم ما قبلها فی الوجوب والاستحباب .‏

‏وبالجملة : لا إشکال فی استفادة الملازمة بین وجوب الشیء ووجوب علّته‏‎ ‎‏الغائیة . وفی الآیة جعل التحذّر علّة غائیة للإنذار ، ولمّا کان الإنذار واجباً کان‏‎ ‎‏التحذّر واجباً .‏

الثانی :‏ أنّ المراد من الجموع فی الآیة هی الجموع الاستغراقیة لا‏‎ ‎‏المجموعیة ؛ لوضوح أنّ المکلّف بالتفقّه هو کلّ فردٍ فردٍ من النافرین أو المتخلّفین‏‎ ‎‏ـ علی التفسیرین ـ فالمراد : أن یتفقّه کلّ فرد منهم ، وینذر کلّ واحد منهم ، ویتحذّر‏‎ ‎‏کلّ واحد منهم .‏


کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 463
الثالث :‏ المراد من التحذّر هو التحذّر العملی ، وهو یحصل بالعمل بقول‏‎ ‎‏المنذر ، بل مقتضی الإطلاق والعموم الاستغراقی فی قوله ‏‏«‏وَلِیُنْذِروُا‏»‏‏ هو وجوب‏‎ ‎‏الحذر مطلقاً ـ حصل العلم من قول المنذر أو لم یحصل ـ غایته : أنّه یجب تقیید‏‎ ‎‏إطلاقه بما إذا کان المنذر عدلاً . وبعد العلم بهذه الاُمور لا أظنّ أن یشکّ أحد فی‏‎ ‎‏دلالتها علی حجّیة الخبر الواحد . وبما ذکرنا من التقریب یمکن دفع جمیع ما ذکر‏‎ ‎‏من الإشکالات علی التمسّک بها‏‎[2]‎‏ ، انتهی . ثمّ تصدّی لبیان الإشکالات ودفعها .‏

وفی کلامه مواقع للنظر :

‏منها :‏‏ أنّ ما ادّعاه من أنّ ما یقع بعد کلمة «لعلّ» إنّما یکون دائماً علّة غائیة‏‎ ‎‏لما قبلها منقوض بقوله تعالی : ‏‏«‏فَلَعَلَّکَ بَاخِعٌ نَفْسَکَ عَلی آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ یُؤْمِنُوا بِهَذا‎ ‎الْحَدِیْثِ أَسَفاً‏»‏‎[3]‎‏ ؛ فإنّ الجملة الشرطیة وإن کانت متأخّرة ظاهراً لکنّها متقدّمة‏‎ ‎‏علی قوله تعالی : ‏‏«‏فَلَعَلَّکَ بَاخِعٌ . . .‏»‏‏ إلی آخره حسب المعنی .‏

‏مع أنّ ما بعد «لعلّ» لیس علّة غائیة لما قبلها ؛ أعنی الجملة الشرطیة ؛ فإنّ‏‎ ‎‏بخوع نفسه الشریفة ‏‏صلی الله علیه و آله وسلم‏‏ لیس علّة غائیة لعدم إیمانهم ؛ وإن کان مترتّباً علیه ، غیر‏‎ ‎‏أنّ الترتّب والاستلزام غیر العلّة الغائیة .‏

‏لکن الأمر سهل بعد کون المقام من قبیل ما ذکره  ‏‏رحمه الله‏‏ .‏

ومنها :‏ أنّ ما ذکره من وجوب التحذّر لکونه غایة للإنذار الواجب غیر‏‎ ‎‏صحیح ، بل الظاهر کونه غایة للنفر المستفاد وجوبه من «لولا» التحضیضیة الظاهرة‏‎ ‎‏فی الوجوب .‏


کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 464
‏ومع ذلک أیضاً : لیس للآیة ظهور تامّ فی وجوب النفر حتّی یترتّب علیه‏‎ ‎‏وجوب التحذّر ؛ فإنّ صدر الآیة ـ أعنی قوله تعالی : ‏‏«‏وَمَا کَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِیَنْفِرُوا‎ ‎کَافَّةً‏»‏‏ ـ یعطی : أنّ الغرض المسوق له الکلام هو النهی عن النفر العمومی ، وأنّه لا‏‎ ‎‏یسوغ للمؤمنین أن ینفروا کافّة ، وإبقاء رسول الله وحیداً فریداً .‏

‏وعلی ذلک فیصیر المآل من الآیة هو النهی عن النفر العمومی ، لا إیجاب‏‎ ‎‏النفر للبعض . فالحثّ إنّما هو علی لزوم التجزئة وعدم النفر العمومی ، لا علی نفر‏‎ ‎‏طائفة من کلّ فرقة للتفقّه .‏

ودعوی :‏ أنّ ذلک خلاف ظاهر الآیة ، بشهادة أنّه لو کان الغرض هو المنع‏‎ ‎‏عن النفر العمومی لکان الواجب الاکتفاء علی قوله ـ عزّ شأنه ـ ‏‏«‏وَمَا کَانَ‎ ‎الْمُؤْمِنُونَ لِیَنْفِرُوا کَافَّةً‏»‏‏ ، من دون أن یعقّبه بما ذکره بعده من التفقّه والرجوع‏‎ ‎‏والإنذار والتحذّر ؛ فإنّ التعقیب بما ذکر شاهد علی أنّ الغرض هو الحثّ علی‏‎ ‎‏تحصیل هذه المطالب ؛ من بدوها إلی ختامها .‏

‏أضف إلی ذلک : أنّ قوله تعالی : ‏‏«‏وَمَا کَانَ الْمُؤْمِنُونَ . . .‏»‏‏ إلی آخره لیس‏‎ ‎‏نهیاً ولا منعاً ، بل إخباراً عن أمر تکوینی خارجی ؛ وهو امتناع النفر العمومی امتناعاً‏‎ ‎‏واضحاً یحکم به ضرورة العقول ؛ لاستلزامه اختلال النظام . ثمّ أردف ذلک ـ عزّ‏‎ ‎‏شأنه ـ بنفر البعض ؛ لعدم استلزامه هدم النظام وفساد المجتمع .‏

مدفوعة :‏ بأنّ عدم الاکتفاء علی الجملة الاُولی یمکن أن یکون لدفع ما ربّما‏‎ ‎‏ینقدح فی الأذهان من بقاء سائر الطوائف علی جهالتهم وعدم تفقّههم فی الدین ،‏‎ ‎‏فقال ـ عزّ شأنه ـ یکفی لذلک تفقّه طائفة ، فلیست الآیة فی مقام بیان وجوب النفر ،‏‎ ‎‏بل فی مقام بیان لزوم التفرقة بین الطوائف .‏


کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 465
‏وقوله : ‏‏«‏وَمَا کَانَ الْمُؤْمِنُونَ‏»‏‏ إخبار فی مقام الإنشاء ـ ولو بقرینة شأن‏‎ ‎‏نزولها ، کما قال المفسّرون‏‎[4]‎‏ ـ ولیس المراد بیان أمر واضح وهو امتناع نفر جمیع‏‎ ‎‏الناس فی جمیع الأدوار إلی طلب العلم والتفقّه حتّی لزم التنبّه به ، إلاّ أن یحمل‏‎ ‎‏ذکره لصرف المقدّمة لما بعده ، وهو أیضاً بعید مخالف لشأن نزول الآیة وقول‏‎ ‎‏المفسّرین .‏

ومنها :‏ أنّ ما ذکره ‏‏قدس سره‏‏ من أنّ المراد من الحذر هو الحذر العملی ، وهو‏‎ ‎‏یحصل بالعمل بقول المنذر لا یخلو عن ضعف ، بل الظاهر : أنّ المراد من الحذر هو‏‎ ‎‏الحذر القلبی بعد إنذار المنذر وإیعاده وتلاوته ما ورد فی ذلک من الآیات والنصوص‏‎ ‎‏والسنن .‏

‏وعلی ذلک : فبعدما أنذر المنذر بما عنده من الآیات والروایات ، وحصل‏‎ ‎‏الحذر والخوف القلبیان یقوم المنذرون ـ بالفتح ـ بما لهم من الوظائف العملیة التی‏‎ ‎‏تعلّموها من قبل ، أو یلزم تعلّمها من بعد ، فلیست الآیة ظاهرة فی أخذ المنذر‏‎ ‎‏ـ بالفتح ـ شیئاً من الأحکام من المنذر ـ بالکسر ـ تعبّداً .‏

وبالجملة :‏ غرض القائل سبحانه من الآیة لیس تعلّم المنذَر شیئاً من المنذِر‏‎ ‎‏ولا عمله بقوله ، بل غرضه سبحانه أنّ المنذرین بعدما أوعدوا قومهم بتذکار الله ‏‎ ‎‏وبیان عظمته ، وما اُعدّ للمتّقین من الجنّة وللکافرین والفاسقین من النار ، وذکروا‏‎ ‎‏ذلک کلّه علی سبیل الموعظة والإنذار یحصل له حذر قلبی وخوف باطنی یجبر‏‎ ‎‏ذلک الخوف علی العمل بالوظائف الشرعیة العملیة .‏

‏وأمّا ما هو الوظائف وأنّها من أین یلزم تحصیلها والوقوف علیها فلیس‏

کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 466
‏مورداً لغرض الآیة ، کما أنّ أوصاف المنذِر من عدالته وتعدّده لیس مصبّاً للبیان .‏‎ ‎‏وعلی ذلک فبین معنی الآیة وحجّیة الخبر الواحد بون بعید .‏

ومنها :‏ ـ وذلک أهمّ ما فی الباب من الإشکال ـ وملخّصه : إنکار إطلاق الآیة‏‎ ‎‏بالنسبة إلی حصول العلم من قول المنذر وعدمه ؛ فإنّ الإطلاق فرع کون المتکلّم فی‏‎ ‎‏مقام البیان ، ولیس فی الآیة ما یشعر بکونه سبحانه فی مقام بیان تلک الجهة بعامّة‏‎ ‎‏خصوصیاتها .‏

‏فإنّ الآیة ـ حسب بعض تفاسیرها‏‎[5]‎‏ ـ فی مقام بیان وجوب أصل النفر وقیام‏‎ ‎‏عدّة به ، ورجوعهم وإنذارهم وتحذیرهم ، وأمّا لزوم العمل بقول کلّ منذر ؛ سواء‏‎ ‎‏کان عادلاً أم فاسقاً ، واحداً أم متعدّداً ، حصل منه الظنّ أو العلم أم لا فلیس فی مقام‏‎ ‎‏بیانها حتّی یؤخذ بإطلاق الآیة .‏

والعجب :‏ أنّه ‏‏قدس سره‏‏ قد صار بصدد دفع الإشکال ، فقال : بعدما عرفت من أنّ‏‎ ‎‏المراد من الجمع هو العامّ الاستغراقی لا یبقی موقع لهذا الإشکال ؛ إذ أیّ إطلاق‏‎ ‎‏یکون أقوی من إطلاق الآیة بالنسبة إلی حالتی حصول العلم من قول المنذر‏‎ ‎‏وعدمه‏‎[6]‎‏ ؟ ! انتهی .‏

وأنت خبیر :‏ أنّ کون العامّ استغراقیاً لا یثبت الإطلاق من ناحیة الفرد ؛ إذ لا‏‎ ‎‏منافاة بین کون الحکم شاملاً لکلّ أحد وبین حجّیة قول کلّ واحد منها فی ظروف‏‎ ‎‏خاصّة وأوقات معیّنة .‏

ومنها :‏ أنّ بعض الروایات الصادرة عنهم ‏‏علیهم السلام‏‏ یستفاد منها أنّ الأئمّة الهداة‏

کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 467
‏قد استشهدوا بها علی لزوم النفر إلی تحصیل العلم بالإمام المفترض طاعته بعد‏‎ ‎‏فوت إمام قبله‏‎[7]‎‏ ، ومعلوم أنّ الاُصول الاعتقادیة لا یعتمد فیها بخبر الثقة ، وهذا‏‎ ‎‏أیضاً یؤیّد عدم الإطلاق الفردی .‏

‏هذا ، وقد استدلّ القوم بآیات کثیرة ، غیر أنّ المهمّ ما عرفت .‏

‎ ‎

کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 468

  • )) التوبة (9) : 122 .
  • )) فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 3 : 185 ـ 187 .
  • )) الکهف (18) : 6 .
  • )) راجع مجمع البیان 5 : 126 .
  • )) التبیان فی تفسیر القرآن 5 : 322 .
  • )) فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 3 : 187 .
  • )) الکافی 1 : 378 / 1 ـ 3 .