الاستدلال بآیة النفر
وممّا استدلّ به قوله تعالی : «وَمَا کَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِیَنْفِرُوا کَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ کُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِیَتَفَقَّهُوا فِی الدِّینِ وَلِیُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَیْهِمْ لَعَلَّهُمْ یَحْذَرُونَ» .
وقد ذکر بعض أعاظم العصر تقریباً ، زعم أنّه یندفع به عامّة الإشکالات المتوهّمة فی دلالة الآیة ، فقال : إنّ الاستدلال یترکّب من اُمور :
الأوّل : أنّ کلمة «لعلّ» مهما تستعمل تدلّ علی أنّ ما یتلوها یکون من العلل الغائیة لما قبلها ؛ سواء فی ذلک التکوینیات والتشریعیات ، والأفعال الاختیاریة وغیرها . فإذا کان ما یتلوها من الأفعال الاختیاریة التی تصلح لأن یتعلّق بها الإرادة الآمریة کان لا محالة بحکم ما قبلها فی الوجوب والاستحباب .
وبالجملة : لا إشکال فی استفادة الملازمة بین وجوب الشیء ووجوب علّته الغائیة . وفی الآیة جعل التحذّر علّة غائیة للإنذار ، ولمّا کان الإنذار واجباً کان التحذّر واجباً .
الثانی : أنّ المراد من الجموع فی الآیة هی الجموع الاستغراقیة لا المجموعیة ؛ لوضوح أنّ المکلّف بالتفقّه هو کلّ فردٍ فردٍ من النافرین أو المتخلّفین ـ علی التفسیرین ـ فالمراد : أن یتفقّه کلّ فرد منهم ، وینذر کلّ واحد منهم ، ویتحذّر کلّ واحد منهم .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 463
الثالث : المراد من التحذّر هو التحذّر العملی ، وهو یحصل بالعمل بقول المنذر ، بل مقتضی الإطلاق والعموم الاستغراقی فی قوله «وَلِیُنْذِروُا» هو وجوب الحذر مطلقاً ـ حصل العلم من قول المنذر أو لم یحصل ـ غایته : أنّه یجب تقیید إطلاقه بما إذا کان المنذر عدلاً . وبعد العلم بهذه الاُمور لا أظنّ أن یشکّ أحد فی دلالتها علی حجّیة الخبر الواحد . وبما ذکرنا من التقریب یمکن دفع جمیع ما ذکر من الإشکالات علی التمسّک بها ، انتهی . ثمّ تصدّی لبیان الإشکالات ودفعها .
وفی کلامه مواقع للنظر :
منها : أنّ ما ادّعاه من أنّ ما یقع بعد کلمة «لعلّ» إنّما یکون دائماً علّة غائیة لما قبلها منقوض بقوله تعالی : «فَلَعَلَّکَ بَاخِعٌ نَفْسَکَ عَلی آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ یُؤْمِنُوا بِهَذا الْحَدِیْثِ أَسَفاً» ؛ فإنّ الجملة الشرطیة وإن کانت متأخّرة ظاهراً لکنّها متقدّمة علی قوله تعالی : «فَلَعَلَّکَ بَاخِعٌ . . .» إلی آخره حسب المعنی .
مع أنّ ما بعد «لعلّ» لیس علّة غائیة لما قبلها ؛ أعنی الجملة الشرطیة ؛ فإنّ بخوع نفسه الشریفة صلی الله علیه و آله وسلم لیس علّة غائیة لعدم إیمانهم ؛ وإن کان مترتّباً علیه ، غیر أنّ الترتّب والاستلزام غیر العلّة الغائیة .
لکن الأمر سهل بعد کون المقام من قبیل ما ذکره رحمه الله .
ومنها : أنّ ما ذکره من وجوب التحذّر لکونه غایة للإنذار الواجب غیر صحیح ، بل الظاهر کونه غایة للنفر المستفاد وجوبه من «لولا» التحضیضیة الظاهرة فی الوجوب .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 464
ومع ذلک أیضاً : لیس للآیة ظهور تامّ فی وجوب النفر حتّی یترتّب علیه وجوب التحذّر ؛ فإنّ صدر الآیة ـ أعنی قوله تعالی : «وَمَا کَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِیَنْفِرُوا کَافَّةً» ـ یعطی : أنّ الغرض المسوق له الکلام هو النهی عن النفر العمومی ، وأنّه لا یسوغ للمؤمنین أن ینفروا کافّة ، وإبقاء رسول الله وحیداً فریداً .
وعلی ذلک فیصیر المآل من الآیة هو النهی عن النفر العمومی ، لا إیجاب النفر للبعض . فالحثّ إنّما هو علی لزوم التجزئة وعدم النفر العمومی ، لا علی نفر طائفة من کلّ فرقة للتفقّه .
ودعوی : أنّ ذلک خلاف ظاهر الآیة ، بشهادة أنّه لو کان الغرض هو المنع عن النفر العمومی لکان الواجب الاکتفاء علی قوله ـ عزّ شأنه ـ «وَمَا کَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِیَنْفِرُوا کَافَّةً» ، من دون أن یعقّبه بما ذکره بعده من التفقّه والرجوع والإنذار والتحذّر ؛ فإنّ التعقیب بما ذکر شاهد علی أنّ الغرض هو الحثّ علی تحصیل هذه المطالب ؛ من بدوها إلی ختامها .
أضف إلی ذلک : أنّ قوله تعالی : «وَمَا کَانَ الْمُؤْمِنُونَ . . .» إلی آخره لیس نهیاً ولا منعاً ، بل إخباراً عن أمر تکوینی خارجی ؛ وهو امتناع النفر العمومی امتناعاً واضحاً یحکم به ضرورة العقول ؛ لاستلزامه اختلال النظام . ثمّ أردف ذلک ـ عزّ شأنه ـ بنفر البعض ؛ لعدم استلزامه هدم النظام وفساد المجتمع .
مدفوعة : بأنّ عدم الاکتفاء علی الجملة الاُولی یمکن أن یکون لدفع ما ربّما ینقدح فی الأذهان من بقاء سائر الطوائف علی جهالتهم وعدم تفقّههم فی الدین ، فقال ـ عزّ شأنه ـ یکفی لذلک تفقّه طائفة ، فلیست الآیة فی مقام بیان وجوب النفر ، بل فی مقام بیان لزوم التفرقة بین الطوائف .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 465
وقوله : «وَمَا کَانَ الْمُؤْمِنُونَ» إخبار فی مقام الإنشاء ـ ولو بقرینة شأن نزولها ، کما قال المفسّرون ـ ولیس المراد بیان أمر واضح وهو امتناع نفر جمیع الناس فی جمیع الأدوار إلی طلب العلم والتفقّه حتّی لزم التنبّه به ، إلاّ أن یحمل ذکره لصرف المقدّمة لما بعده ، وهو أیضاً بعید مخالف لشأن نزول الآیة وقول المفسّرین .
ومنها : أنّ ما ذکره قدس سره من أنّ المراد من الحذر هو الحذر العملی ، وهو یحصل بالعمل بقول المنذر لا یخلو عن ضعف ، بل الظاهر : أنّ المراد من الحذر هو الحذر القلبی بعد إنذار المنذر وإیعاده وتلاوته ما ورد فی ذلک من الآیات والنصوص والسنن .
وعلی ذلک : فبعدما أنذر المنذر بما عنده من الآیات والروایات ، وحصل الحذر والخوف القلبیان یقوم المنذرون ـ بالفتح ـ بما لهم من الوظائف العملیة التی تعلّموها من قبل ، أو یلزم تعلّمها من بعد ، فلیست الآیة ظاهرة فی أخذ المنذر ـ بالفتح ـ شیئاً من الأحکام من المنذر ـ بالکسر ـ تعبّداً .
وبالجملة : غرض القائل سبحانه من الآیة لیس تعلّم المنذَر شیئاً من المنذِر ولا عمله بقوله ، بل غرضه سبحانه أنّ المنذرین بعدما أوعدوا قومهم بتذکار الله وبیان عظمته ، وما اُعدّ للمتّقین من الجنّة وللکافرین والفاسقین من النار ، وذکروا ذلک کلّه علی سبیل الموعظة والإنذار یحصل له حذر قلبی وخوف باطنی یجبر ذلک الخوف علی العمل بالوظائف الشرعیة العملیة .
وأمّا ما هو الوظائف وأنّها من أین یلزم تحصیلها والوقوف علیها فلیس
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 466
مورداً لغرض الآیة ، کما أنّ أوصاف المنذِر من عدالته وتعدّده لیس مصبّاً للبیان . وعلی ذلک فبین معنی الآیة وحجّیة الخبر الواحد بون بعید .
ومنها : ـ وذلک أهمّ ما فی الباب من الإشکال ـ وملخّصه : إنکار إطلاق الآیة بالنسبة إلی حصول العلم من قول المنذر وعدمه ؛ فإنّ الإطلاق فرع کون المتکلّم فی مقام البیان ، ولیس فی الآیة ما یشعر بکونه سبحانه فی مقام بیان تلک الجهة بعامّة خصوصیاتها .
فإنّ الآیة ـ حسب بعض تفاسیرها ـ فی مقام بیان وجوب أصل النفر وقیام عدّة به ، ورجوعهم وإنذارهم وتحذیرهم ، وأمّا لزوم العمل بقول کلّ منذر ؛ سواء کان عادلاً أم فاسقاً ، واحداً أم متعدّداً ، حصل منه الظنّ أو العلم أم لا فلیس فی مقام بیانها حتّی یؤخذ بإطلاق الآیة .
والعجب : أنّه قدس سره قد صار بصدد دفع الإشکال ، فقال : بعدما عرفت من أنّ المراد من الجمع هو العامّ الاستغراقی لا یبقی موقع لهذا الإشکال ؛ إذ أیّ إطلاق یکون أقوی من إطلاق الآیة بالنسبة إلی حالتی حصول العلم من قول المنذر وعدمه ؟ ! انتهی .
وأنت خبیر : أنّ کون العامّ استغراقیاً لا یثبت الإطلاق من ناحیة الفرد ؛ إذ لا منافاة بین کون الحکم شاملاً لکلّ أحد وبین حجّیة قول کلّ واحد منها فی ظروف خاصّة وأوقات معیّنة .
ومنها : أنّ بعض الروایات الصادرة عنهم علیهم السلام یستفاد منها أنّ الأئمّة الهداة
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 467
قد استشهدوا بها علی لزوم النفر إلی تحصیل العلم بالإمام المفترض طاعته بعد فوت إمام قبله ، ومعلوم أنّ الاُصول الاعتقادیة لا یعتمد فیها بخبر الثقة ، وهذا أیضاً یؤیّد عدم الإطلاق الفردی .
هذا ، وقد استدلّ القوم بآیات کثیرة ، غیر أنّ المهمّ ما عرفت .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 468