فی الإشکالات المختصّة بآیة النبأ وأجوبتها
منها : أنّ المفهوم علی تقدیر ثبوته معارض لعموم التعلیل فی ذیل الآیة ؛ فإنّ الجهالة هی عدم العلم بالواقع ، وهو مشترک بین إخبار الفاسق والعادل ، فالتعلیل بظاهره یقتضی التبیّن عن کلا القسمین ، فیقع التعارض بینهما ، والتعلیل أقوی فی مفاده ؛ خصوصاً فی مثل هذا التعلیل الآبی عن التخصیص ، فعموم التعلیل لأقوائیته یمنع ظهور القضیة فی المفهوم ، فلا یصل النوبة إلی ملاحظة النسبة ؛ فإنّها فرع المفهوم .
وأجاب عنه بعض أعاظم العصر قدس سره : أنّ الإنصاف أنّه لا وقع له :
أمّا أوّلاً : فلأنّ الجهالة بمعنی السفاهة والرکون إلی ما لا ینبغی الرکون إلیه ، ولا شبهة فی جواز الرکون إلی خبر العادل دون الفاسق ، فخبر العادل خارج عن العلّة موضوعاً .
وأمّا ثانیاً : فعلی فرض کونها بمعنی عدم العلم بمطابقة الخبر للواقع یکون المفهوم حاکماً علی عموم التعلیل ؛ لأنّ أقصی ما یدلّ علیه التعلیل هو عدم جواز العمل بما وراء العلم ، والمفهوم یقتضی إلغاء احتمال الخلاف ، وجعل خبر العادل محرزاً للواقع وعلماً فی مقام التشریع ، فلا یعقل أن یقع التعارض بینهما ؛ لأنّ المحکوم لا یعارض الحاکم ؛ ولو کان ظهوره أقوی ؛ لأنّ الحاکم متعرّض لعقد وضع المحکوم إمّا بالتوسعة أو التضییق .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 442
فإن قلت : إنّ ذلک فرع ثبوت المفهوم ، والمدّعی : أنّ عموم التعلیل مانع عن ظهور القضیة فیه .
قلت : المانع منه لیس إلاّ توهّم المعارضة بینهما ، وإلاّ فظهورها الأوّلی فیه ممّا لا سبیل لإنکاره ، وقد عرفت عدم المعارضة بینهما ؛ لأنّ المفهوم لا یقتضی تخصیص العموم ، بل هو علی حاله من العموم ، بل إنّما یقتضی خروج خبر العادل عن موضوع القضیة ، لا عن حکمها .
فلا معارضـة بینهما أصلاً ؛ لعدم تکفّل العامّ لبیان موضوعـه وضعـاً ورفعاً ، بل هـو متکفّل لحکم الموضوع علی فرض وجـوده ، والمفهوم یمنع عـن وجوده ، انتهی .
وفیه أمّا أوّلاً : فلأنّ التعلیل مانع عن المفهوم فی المقام بلا إشکال ، لا لما ذکره المستشکل من أقوائیة التعلیل ، بل السرّ : ما وافاک من أنّ دلالة الشرطیة علی المفهوم واستفادة ذلک من تلک القضیة مبنیة علی ظهور الشرط فی القضیة فی کونه علّة منحصرة ؛ بحیث ینتفی الحکم بانتفائه ، وأمّا إذا صرّح المتکلّم بالعلّة الحقیقیة ، وکان التعلیل أعمّ من الشرط أو کان غیر الشرط فلا معنی لاستفادة العلّیة ؛ فضلاً عن انحصارها .
فلو قال : «إن جاءک زید فأکرمه» ثمّ صرّح أنّ العلّة إنّما هو علمه فنستکشف أنّ المجیء لیس علّة ولا جزء منها ، وهذا واضح جدّاً . وهو أیضاً من الإشکالات التی لا یمکن الذبّ عنه ، وقد غفل عنه الأعلام ، وعلیه فلا وقع لما أفادوه فی دفعه .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 443
وثانیاً : أنّ جعل الجهالة بمعنی السفاهة أو ما لا ینبغی الرکون إلیه کما أوضحه ـ تبعاً للشیخ الأعظم ـ غیر وجیه ، بل المراد منها عدم العلم بالواقع .
ویدلّ علیه جعلها مقابلاً للتبیّن ؛ بمعنی تحصیل العلم وإحراز الواقع ، ومعلوم أنّ الجهالة بهذا المعنی مشترک بین خبری العادل والفاسق .
بل لا یبعد أن یقال : إنّ الآیة لیست بصدد بیان أنّ خبر الفاسق لا یعتنی به ؛ لأنّ مناسبات صدرها وذیلها وتعلیلها موجبة لظهورها فی أنّ النبأ الذی له خطر عظیم وترتیب الأثر علیه موجب لمفاسد عظیمة والندامة ـ کإصابة قوم ومقاتلتهم ـ لابدّ من تبیّنه والعلم بمفاده ، ولا یجوز الإقدام علی طبقه بلا تحصیل العلم ؛ لاسیّما إذا جاء به فاسق .
فحینئذٍ : لابدّ من إبقاء ظاهر الآیة علی حاله ؛ فإنّ الظاهر من التبیین طلب الوضوح وتحقیق صدق الخبر وکذبه ، کما أنّ المراد من الجهالة ضدّ التبیین ؛ أعنی عدم العلم بالواقع لا السفاهة ؛ ولو فرض أنّها إحدی معانیها ، مع إمکان منعه ؛ لعدم ذکرها فی جملة معانیها فی المعاجم ومصادر اللغة .
ویمکن أن یکون إطلاقها ـ کما فی بعض کتب اللغة ـ لکونها نحو جهالة ؛ فإنّ السفیه جاهل بعواقب الاُمور ، لا أنّها بعنوانها معناها .
ثمّ إنّه علی ما ذکرناه فی معنی الآیة لا تلزم فیها التخصیصات الکثیرة ، علی فرض حملها علی العلم الوجدانی ـ کما قیل بلزومها ـ فتدبّر جیّداً .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 444
وثالثاً : أنّ جعل المفهوم حاکماً علی عمومه ـ مضافاً إلی عدم خلوّه من شبهة الدور ؛ فإنّ انعقاد ظهور القضیة فی المفهوم فرع کونه حاکماً علی عموم التعلیل ، وکون المفهوم حاکماً یتوقّف علی وجوده ـ أنّ الحکومة أمر قائم بلسان الدلیل ، ومعلوم أنّ غایة ما یستفاد من المفهوم هو جواز العمل بخبر العادل أو وجوبه ، وأمّا کونه بمنزلة العلم وأنّه محرز الواقع وأنّه علم فی عالم التشریع فلا یدلّ علیه المفهوم .
نعم ، لو ادّعی أنّ مفهوم قوله : «إِنْ جَاءَکُمْ فاسِقٌ . . .» إلی آخره هو عدم وجوب التبیّن فی خبر العادل ـ لکونه متبیّناً فی عالم التشریع ـ لکان للحکومة وجه ، لکنّه غیر متفاهم عرفاً .
ومن الإشکالات المختصّة : لزوم خروج المورد عن المفهوم ؛ فإنّه من الموضوعات الخارجیة ، وهی لا تثبت إلاّ بالبیّنة ، فلابدّ من رفع الید عن المفهوم لئلاّ یلزم التخصیص البشیع .
وأجاب عنه بعض أعاظم العصر قدس سره : بأنّ المورد داخل فی عموم المنطوق ، وهـو غیر مخصّص ؛ فإنّ خبـر الفاسق لا اعتبار بـه مطلقاً ـ لا فی الموضوعات ولا فی الأحکام ـ وأمّا المفهوم فلم یرد کبری لصغری مفروضة الوجود ؛ لأنّه لم یرد فی مورد إخبار العادل بالارتداد ، بل یکون حکم المفهوم من هذه الجهة حکم سائر العمومات الابتدائیة ، فلا مانع مـن تخصیصه . ولا فرق بین المفهوم والعام الابتدائی ؛ سوی أنّ المفهوم کان ممّا تقتضیه خصوصیة فی المنطوق ، ولا ملازمة بین المفهوم والمنطوق من حیث المورد ، بل القدر اللازم هو أن یکون
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 445
الموضوع فی المنطوق والمفهوم واحداً ، انتهی .
وفیه : أنّ مبنی استفادة المفهوم من الآیة هو القول بأنّ علّة التشنیع والاعتراض فی العمل بقول الفاسق إنّما هو کون المخبر فاسقاً ؛ بحیث لولا فسقه أو کون المخبر غیره من العدول لما توجّه لوم ولا اعتراض .
مع أنّ الأمر علی خلافه فی المورد ؛ إذ لو کان الولید غیر فاسق أو کان المخبر غیره من العدول لتوجّه اللوم أیضاً علی العاملین ؛ حیث اعتمدوا علی قول العادل الواحد فی الموضوعات ، مع عدم کفایته فی المقام .
وبذلک یظهر : أنّ التخصیص فی المفهوم بشیع ، فلابدّ من رفع الید عن المفهوم والالتزام بأنّ الآیة سیقت لبیان المنطوق دون المفهوم .
وبذلک یظهر : النظر فیما أفاده الشیخ الأعظم قدس سره ، فراجعه .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 446