فی الإشکالات المختصّة بآیة النبأ و أجوبتها

فی الإشکالات المختصّة بآیة النبأ وأجوبتها

‏ ‏

منها :‏ أنّ المفهوم علی تقدیر ثبوته معارض لعموم التعلیل فی ذیل الآیة ؛ فإنّ‏‎ ‎‏الجهالة هی عدم العلم بالواقع ، وهو مشترک بین إخبار الفاسق والعادل ، فالتعلیل‏‎ ‎‏بظاهره یقتضی التبیّن عن کلا القسمین ، فیقع التعارض بینهما ، والتعلیل أقوی فی‏‎ ‎‏مفاده ؛ خصوصاً فی مثل هذا التعلیل الآبی عن التخصیص ، فعموم التعلیل لأقوائیته‏‎ ‎‏یمنع ظهور القضیة فی المفهوم ، فلا یصل النوبة إلی ملاحظة النسبة ؛ فإنّها فرع‏‎ ‎‏المفهوم‏‎[1]‎‏ .‏

وأجاب عنه بعض أعاظم العصر ‏قدس سره‏‏ : أنّ الإنصاف أنّه لا وقع له :‏

‏أمّا أوّلاً : فلأنّ الجهالة بمعنی السفاهة والرکون إلی ما لا ینبغی الرکون إلیه ،‏‎ ‎‏ولا شبهة فی جواز الرکون إلی خبر العادل دون الفاسق ، فخبر العادل خارج عن‏‎ ‎‏العلّة موضوعاً .‏

‏وأمّا ثانیاً : فعلی فرض کونها بمعنی عدم العلم بمطابقة الخبر للواقع یکون‏‎ ‎‏المفهوم حاکماً علی عموم التعلیل ؛ لأنّ أقصی ما یدلّ علیه التعلیل هو عدم جواز‏‎ ‎‏العمل بما وراء العلم ، والمفهوم یقتضی إلغاء احتمال الخلاف ، وجعل خبر العادل‏‎ ‎‏محرزاً للواقع وعلماً فی مقام التشریع ، فلا یعقل أن یقع التعارض بینهما ؛ لأنّ‏‎ ‎‏المحکوم لا یعارض الحاکم ؛ ولو کان ظهوره أقوی ؛ لأنّ الحاکم متعرّض لعقد وضع‏‎ ‎‏المحکوم إمّا بالتوسعة أو التضییق .‏


کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 442
‏فإن قلت : إنّ ذلک فرع ثبوت المفهوم ، والمدّعی : أنّ عموم التعلیل مانع عن‏‎ ‎‏ظهور القضیة فیه .‏

‏قلت : المانع منه لیس إلاّ توهّم المعارضة بینهما ، وإلاّ فظهورها الأوّلی فیه‏‎ ‎‏ممّا لا سبیل لإنکاره ، وقد عرفت عدم المعارضة بینهما ؛ لأنّ المفهوم لا یقتضی‏‎ ‎‏تخصیص العموم ، بل هو علی حاله من العموم ، بل إنّما یقتضی خروج خبر العادل‏‎ ‎‏عن موضوع القضیة ، لا عن حکمها .‏

‏فلا معارضـة بینهما أصلاً ؛ لعدم تکفّل العامّ لبیان موضوعـه وضعـاً ورفعاً ،‏‎ ‎‏بل هـو متکفّل لحکم الموضوع علی فرض وجـوده ، والمفهوم یمنع عـن‏‎ ‎‏وجوده‏‎[2]‎‏ ، انتهی .‏

وفیه أمّا أوّلاً :‏ فلأنّ التعلیل مانع عن المفهوم فی المقام بلا إشکال ، لا لما‏‎ ‎‏ذکره المستشکل من أقوائیة التعلیل ، بل السرّ : ما وافاک‏‎[3]‎‏ من أنّ دلالة الشرطیة‏‎ ‎‏علی المفهوم واستفادة ذلک من تلک القضیة مبنیة علی ظهور الشرط فی القضیة فی‏‎ ‎‏کونه علّة منحصرة ؛ بحیث ینتفی الحکم بانتفائه ، وأمّا إذا صرّح المتکلّم بالعلّة‏‎ ‎‏الحقیقیة ، وکان التعلیل أعمّ من الشرط أو کان غیر الشرط فلا معنی لاستفادة‏‎ ‎‏العلّیة ؛ فضلاً عن انحصارها .‏

‏فلو قال : «إن جاءک زید فأکرمه» ثمّ صرّح أنّ العلّة إنّما هو علمه فنستکشف‏‎ ‎‏أنّ المجیء لیس علّة ولا جزء منها ، وهذا واضح جدّاً . وهو أیضاً من الإشکالات‏‎ ‎‏التی لا یمکن الذبّ عنه ، وقد غفل عنه الأعلام ، وعلیه فلا وقع لما أفادوه فی دفعه .‏


کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 443
وثانیاً :‏ أنّ جعل الجهالة بمعنی السفاهة أو ما لا ینبغی الرکون إلیه کما‏‎ ‎‏أوضحه ـ تبعاً للشیخ الأعظم‏‎[4]‎‏ ـ غیر وجیه ، بل المراد منها عدم العلم بالواقع .‏

‏ویدلّ علیه جعلها مقابلاً للتبیّن ؛ بمعنی تحصیل العلم وإحراز الواقع ، ومعلوم‏‎ ‎‏أنّ الجهالة بهذا المعنی مشترک بین خبری العادل والفاسق .‏

‏بل لا یبعد أن یقال : إنّ الآیة لیست بصدد بیان أنّ خبر الفاسق لا یعتنی به ؛‏‎ ‎‏لأنّ مناسبات صدرها وذیلها وتعلیلها موجبة لظهورها فی أنّ النبأ الذی له خطر‏‎ ‎‏عظیم وترتیب الأثر علیه موجب لمفاسد عظیمة والندامة ـ کإصابة قوم ومقاتلتهم ـ‏‎ ‎‏لابدّ من تبیّنه والعلم بمفاده ، ولا یجوز الإقدام علی طبقه بلا تحصیل العلم ؛ لاسیّما‏‎ ‎‏إذا جاء به فاسق .‏

‏فحینئذٍ : لابدّ من إبقاء ظاهر الآیة علی حاله ؛ فإنّ الظاهر من التبیین طلب‏‎ ‎‏الوضوح وتحقیق صدق الخبر وکذبه ، کما أنّ المراد من الجهالة ضدّ التبیین ؛ أعنی‏‎ ‎‏عدم العلم بالواقع لا السفاهة ؛ ولو فرض أنّها إحدی معانیها ، مع إمکان منعه ؛ لعدم‏‎ ‎‏ذکرها فی جملة معانیها فی المعاجم ومصادر اللغة .‏

‏ویمکن أن یکون إطلاقها ـ کما فی بعض کتب اللغة‏‎[5]‎‏ ـ لکونها نحو جهالة ؛‏‎ ‎‏فإنّ السفیه جاهل بعواقب الاُمور ، لا أنّها بعنوانها معناها .‏

‏ثمّ إنّه علی ما ذکرناه فی معنی الآیة لا تلزم فیها التخصیصات الکثیرة ، علی‏‎ ‎‏فرض حملها علی العلم الوجدانی ـ کما قیل بلزومها‏‎[6]‎‏ ـ فتدبّر جیّداً .‏


کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 444
وثالثاً :‏ أنّ جعل المفهوم حاکماً علی عمومه ـ مضافاً إلی عدم خلوّه من‏‎ ‎‏شبهة الدور ؛ فإنّ انعقاد ظهور القضیة فی المفهوم فرع کونه حاکماً علی عموم‏‎ ‎‏التعلیل ، وکون المفهوم حاکماً یتوقّف علی وجوده ـ أنّ الحکومة أمر قائم بلسان‏‎ ‎‏الدلیل ، ومعلوم أنّ غایة ما یستفاد من المفهوم هو جواز العمل بخبر العادل أو‏‎ ‎‏وجوبه ، وأمّا کونه بمنزلة العلم وأنّه محرز الواقع وأنّه علم فی عالم التشریع فلا‏‎ ‎‏یدلّ علیه المفهوم .‏

‏نعم ، لو ادّعی أنّ مفهوم قوله : ‏‏«‏إِنْ جَاءَکُمْ فاسِقٌ . . .‏»‏‏ إلی آخره هو عدم‏‎ ‎‏وجوب التبیّن فی خبر العادل ـ لکونه متبیّناً فی عالم التشریع ـ لکان للحکومة‏‎ ‎‏وجه ، لکنّه غیر متفاهم عرفاً .‏

ومن الإشکالات المختصّة :‏ لزوم خروج المورد عن المفهوم ؛ فإنّه من‏‎ ‎‏الموضوعات الخارجیة ، وهی لا تثبت إلاّ بالبیّنة ، فلابدّ من رفع الید عن المفهوم‏‎ ‎‏لئلاّ یلزم التخصیص البشیع‏‎[7]‎‏ .‏

وأجاب عنه بعض أعاظم العصر ‏قدس سره‏‏ : بأنّ المورد داخل فی عموم المنطوق ،‏‎ ‎‏وهـو غیر مخصّص ؛ فإنّ خبـر الفاسق لا اعتبار بـه مطلقاً ـ لا فی الموضوعات‏‎ ‎‏ولا فی الأحکام ـ وأمّا المفهوم فلم یرد کبری لصغری مفروضة الوجود ؛ لأنّه‏‎ ‎‏لم یرد فی مورد إخبار العادل بالارتداد ، بل یکون حکم المفهوم من هذه الجهة‏‎ ‎‏حکم سائر العمومات الابتدائیة ، فلا مانع مـن تخصیصه . ولا فرق بین المفهوم‏‎ ‎‏والعام الابتدائی ؛ سوی أنّ المفهوم کان ممّا تقتضیه خصوصیة فی المنطوق ،‏‎ ‎‏ولا ملازمة بین المفهوم والمنطوق من حیث المورد ، بل القدر اللازم هو أن یکون‏

کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 445
‏الموضوع فی المنطوق والمفهوم واحداً‏‎[8]‎‏ ، انتهی .‏

وفیه :‏ أنّ مبنی استفادة المفهوم من الآیة هو القول بأنّ علّة التشنیع‏‎ ‎‏والاعتراض فی العمل بقول الفاسق إنّما هو کون المخبر فاسقاً ؛ بحیث لولا فسقه أو‏‎ ‎‏کون المخبر غیره من العدول لما توجّه لوم ولا اعتراض .‏

‏مع أنّ الأمر علی خلافه فی المورد ؛ إذ لو کان الولید غیر فاسق أو کان‏‎ ‎‏المخبر غیره من العدول لتوجّه اللوم أیضاً علی العاملین ؛ حیث اعتمدوا علی قول‏‎ ‎‏العادل الواحد فی الموضوعات ، مع عدم کفایته فی المقام .‏

‏وبذلک یظهر : أنّ التخصیص فی المفهوم بشیع ، فلابدّ من رفع الید عن المفهوم‏‎ ‎‏والالتزام بأنّ الآیة سیقت لبیان المنطوق دون المفهوم . ‏

وبذلک یظهر :‏ النظر فیما أفاده الشیخ الأعظم ‏‏قدس سره‏‏ ، فراجعه‏‎[9]‎‏ .‏

‎ ‎

کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 446

  • )) الذریعة إلی اُصول الشریعة 2 : 535 ـ 536 ، العدّة فی اُصول الفقه 1 : 130 .
  • )) فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 3 : 171 ـ 173 .
  • )) تقدّم فی الجزء الأوّل : 99 .
  • )) اُنظر فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشیخ الأعظم 24 : 261 .
  • )) اُنظر المصباح المنیر : 113 .
  • )) نهایة الأفکار 3 : 115 .
  • )) اُنظر فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشیخ الأعظم 24 : 271 .
  • )) فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 3 : 174 .
  • )) فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشیخ الأعظم 24 : 271 .