الاستدلال بآیة النبأ
أمّا الآیات : فمنها قوله تعالی فی سورة الحجرات : «یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا إِنْ جَاءَکُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأًفَتَبَیَّنُوا» .
والعمدة فی الاستدلال به هو مفهوم الشرط ، ودفع کون الشرط محقّقاً للموضوع ، وقد قیل فی تقریبه وجوه :
منها : ما عن المحقّق الخراسانی أنّ تعلیق الحکم بإیجاب التبیّن عن النبأ الذی جیء به علی کون الجائی به الفاسق یقتضی انتفائه عند انتفائه ، وعلی ذلک لا یکون الشرط مسوقاً لتحقّق الموضوع . ولا یخفی : أنّه مخالف لظاهر الآیة .
ومنها : ما عن بعض محقّقی العصر من أنّ الظاهر أنّ الشرط هو المجیء مع متعلّقه ـ أی مجیء الفاسق ـ فیکون الموضوع نفس النبأ ولمفهومه مصداقان : عدم مجیء الفاسق ، ومجیء العادل ، فلا یکون الشرط محقّقاً للموضوع .
وأمّا إذا جعل الشرط نفس المجیء یکون الموضوع نبأ الفاسق ، فیصیر الشرط محقّقاً للموضوع .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 437
وفیه : أنّ الظاهر بقاء الإشکال علی حاله ؛ فإنّ مفهوم قولک : «إن جاءک الفاسق بنبأ» أنّه إذا لم یجئک الفاسق بنبأ ، وأمّا مجیء العادل مکانه فلیس مذکوراً فی المنطوق حتّی یعلم حکمه من المفهوم .
أضف إلیه : أنّ تعدّد المصداق للمفهوم لا یتوقّف علی ما ذکره من کون الشرط هو مجیء الفاسق ، بل یتمّ لو کان الشرط هو المجیء والموضوع هو نبأ الفاسق ، فلانتفائه فی الخارج مصداقان : عدم مجیء النبأ أصلاً ومجیء العادل بالنبأ . ومع ذلک کلّه : فالمرجع هو العرف ، وهو لا یساعده .
ویمکن تقریب المقام بوجه آخر ؛ وهو أنّه لا فرق فی شمول العامّ لأفراده بین کونها الأفراد الذاتیة أو العرضیة إذا کانت القضیة شاملة لها علی وجه الحقیقیة ، فکما أنّ الأبیض صادق علی نفس البیاض لو فرض قیامه بذاته ، کذلک صادق علی الجسم المعروض له ، مع أنّ صدقه علیه تبعی لدی العقل الدقیق ، لکنّه حقیقیة لدی العرف .
وعلیه : فلعدم مجیء الفاسق بالخبر فردان : عدم المجیء بالنبأ أصلاً ـ لا من الفاسق ولا من العادل ـ ومجیء العادل بالخبر . والأوّل فرد ذاتی له والآخر عرضی ، فیشمل العامّ لهما .
فمفهوم الآیة : إن لم یجئ الفاسق بالخبر لایجب التبیّن ؛ سواء جاء به العادل ؛ وهو الفرد العرضی أو لم یجئ أصلاً ؛ وهو الفرد الذاتی ، والعامّ یشملهما معاً .
أضف إلی ذلک : أنّ القضایا السالبة ظاهرة فی سلب شیء عن شیء مع وجود الموضوع ، لا فی السلب باعتبار عدم الموضوع . ولو حمل المفهوم علی المصداق الذاتی ـ وهو عدم الإتیان بالخبر أصلاً ـ تصیر السالبة صادقة باعتبار عدم
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 438
الموضوع ، ولو حمل علی إتیان العادل بالخبر تصیر من السوالب المنتفی محمولها مع وجود الموضوع ، وهو أولی .
وفیه : أنّ الأمر فی المثال والممثّل متعاکس ؛ وهو أنّ البیاض مصداق للأبیض عند العقل دون العرف ، ولکن عدم إتیان الفاسق بالنبأ مصداق ذاتی للمفهوم عند العقل والعرف ، وأمّا مجیء العادل بالخبر فلیس من مصادیق ذلک المفهوم عندهم ؛ وإن فرض أنّ أحد الضدّین ینطبق علیه عدم الضدّ الآخر ، ویکون مصدوقاً علیه لا مصداقاً حسب ما اصطلحه بعض الأکابر ، لکنّه أمر خارج عن المتفاهم العرفی الذی هو المرجع فی الباب .
وأمّا ما ذکر من ظهور القضایا السالبة فی سلب المحمول فإنّه یصحّ لو کانت القضیة لفظیة ، لا مفهوماً من قضیة منطوقة بالدلالة العقلیة . علی أنّه لو فرض صبّ هذا المفهوم فی قالب اللفظ لما فهم منه أیضاً إلاّ کون الشرط محقّقاً للموضوع ، وانتفاء التبیّن باعتبار انتفاء موضوعه .
ثمّ إنّه لو فرض المفهوم للآیة فلا دلالة فیه علی حجّیة قول العادل وکونه تمام الموضوع للحجّیة ؛ لأنّ جزاء الشرط لیس هو التبیّن ؛ فإنّ التبیّن إنّما هو بمعنی طلب بیان الحال ، وهو غیر مترتّب علی مجیء الفاسق بنبأ ؛ لا عقلاً ولا عرفاً ، والجزاء لابدّ أن یکون مترتّباً علی الشرط ؛ ترتّب المعلول علی العلّة أو نحوه .
فلابدّ من تقدیر الجزاء بأن یقال : إن جاءکم فاسق بنبأ فأعرضوا عنه أو لا تقبلوه وأشباههما ، وإنّما حذف لقیامه مقامه .
وحینئذٍ : یصیر المفهوم علی الفرض : إن جاءکم عادل بنبأ فلا تعرضوا عنه
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 439
واعتنوا به ، وهو أعمّ من کونه تمام الموضوع أو بعضه . ولعلّ للعمل به شرائط اُخر کضمّ آخر إلیه أو حصول الظنّ بالواقع ونحوهما .
ثمّ إنّ بعض أعاظم العصر قدس سره قد أفاد فی تقریب الآیة ما هذا حاصله : یمکن استظهار کون الموضوع فی الآیة مطلق النبأ والشرط هو مجیء الفاسق به من مورد النزول ؛ فإنّ مورده إخبار الولید بارتداد بنی المصطلق ، فقد اجتمع فی إخباره عنوانان : کونه خبراً واحداً ، وکون المخبر فاسقاً ، والآیة وردت لإفادة کبری کلّیة لیتمیّز الإخبار التی یجب التبیّن عنها عن غیرها .
وقد علّق وجوب التبیّن فیها علی کون المخبر فاسقاً ، فیکون هو الشرط ، لا کون الخبر واحداً . ولو کان الشرط ذلک لعلّق علیه ؛ لأنّه بإطلاقه شامل لخبر الفاسق . فعدم التعرّض لخبر الواحد وجعل الشرط خبر الفاسق کاشف عن انتفاء التبیّن فی خبر غیر الفاسق .
ولا یتوهّم : أنّ ذلک یرجع إلی تنقیح المناط أو إلی دلالة الإیماء ؛ فإنّ ما بیّناه من التقریب ینطبق علی مفهوم الشرط .
وبالجملة : لا إشکال فی أنّ الآیة تکون بمنزلة الکبری الکلّیة ، ولابدّ أن یکون مورد النزول من صغریاتها ، وإلاّ یلزم خروج المورد عن العامّ ، وهو قبیح . فلابدّ من أخذ المورد مفروض التحقّق فی موضوع القضیة ، فیکون مفاد الآیة بعد ضمّ المورد إلیها : أنّ الخبر الواحد إن کان الجائی به فاسقاً فتبیّنوا ، فتصیر ذات مفهوم ، انتهی .
وفیه مواقع من النظر :
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 440
منها : أنّ کون مورد النزول هو إخبار ولید الفاسق لا یصحّح کون الموضوع هو النبأ ، وأنّ الشرط هو مجیء الفاسق ، وأنّه غیر مسوق لتحقّق الموضوع ؛ إذ غایة ما یمکن أن یقال : إنّه مسوق لإعطاء القاعدة الکلّیة فی مورد الفاسق ، وأمّا بیان الضابطة لمطلق الخبر وظهورها فی إفادة الکبری الکلّیة لیتمیّز الإخبار التی یجب التبیّن عنها عن غیرها فلا یستفاد منها .
ومنها : أنّ ما أفاده من أنّه اجتمع فی إخباره عنوانان : کونه خبر الواحد ، وکون المخبر فاسقاً بیان لمفهوم الوصف دون الشرط ، الذی هو بصدد بیانه ؛ ضرورة أنّه لم یعلّق وجوب التبیّن فی الآیة علی کون المخبر فاسقاً حتّی یصحّ ما ادّعاه من کون الموضوع هو النبأ والشرط کون المخبر فاسقاً ، بل علّق علی مجیء الفاسق بالخبر ، ومن المعلوم أنّ الشرط حینئذٍ محقّق للموضوع ، ولا مفهوم له .
وأمّا التمسّک بمفهوم الوصف : فمع أنّه خارج عن محلّ الکلام غیر صحیح ؛ لبناء المفهوم علی استفادة الانحصار من القیود ، وهی فی جانب الوصف بعید .
علی أنّه یمکن أن یکون ذکر الوصف ـ الفاسق ـ قد سیق لغرض آخر غیر المفهوم ؛ وهو التنبیه علی فسق الولید ، فکون مورد النزول إخبار الولید مانع عن دلالة الآیة علی المفهوم ، لا موجبٌ له ، کما أفاد .
وأمّا ما أفاده من تأیید کون الآیة بمنزلة الکلّیة ـ من أنّ المورد مـن صغریاتها وإلاّ یلزم إخراج المورد ـ فلا یخلو عن خلط ؛ فإنّ کون المورد من صغریاتها لا یستلزم کونها بصدد إعطاء الضابطـة فی مطلق الخبر ، بل یصحّ لـو کانت بصدد إعطاء القاعدة لخبر الفاسق ، ویصیر المورد من مواردها ، من غیر إخراج المورد ، ولا ثبوت مفهوم .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 441