الاستدلال بآیة النبأ

الاستدلال بآیة النبأ

‏ ‏

‏أمّا الآیات : فمنها قوله تعالی فی سورة الحجرات : ‏‏«‏یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا إِنْ‎ ‎جَاءَکُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأًفَتَبَیَّنُوا‏»‏‎[1]‎‏ .‏

‏والعمدة فی الاستدلال به هو مفهوم الشرط ، ودفع کون الشرط محقّقاً‏‎ ‎‏للموضوع ، وقد قیل فی تقریبه وجوه :‏

منها :‏ ما عن المحقّق الخراسانی أنّ تعلیق الحکم بإیجاب التبیّن عن النبأ‏‎ ‎‏الذی جیء به علی کون الجائی به الفاسق یقتضی انتفائه عند انتفائه ، وعلی ذلک لا‏‎ ‎‏یکون الشرط مسوقاً لتحقّق الموضوع‏‎[2]‎‏ . ‏ولا یخفی :‏ أنّه مخالف لظاهر الآیة .‏

ومنها :‏ ما عن بعض محقّقی العصر من أنّ الظاهر أنّ الشرط هو المجیء مع‏‎ ‎‏متعلّقه ـ أی مجیء الفاسق ـ فیکون الموضوع نفس النبأ ولمفهومه مصداقان : عدم‏‎ ‎‏مجیء الفاسق ، ومجیء العادل ، فلا یکون الشرط محقّقاً للموضوع .‏

‏وأمّا إذا جعل الشرط نفس المجیء یکون الموضوع نبأ الفاسق ، فیصیر‏‎ ‎‏الشرط محقّقاً للموضوع‏‎[3]‎‏ .‏


کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 437
وفیه :‏ أنّ الظاهر بقاء الإشکال علی حاله ؛ فإنّ مفهوم قولک : «إن جاءک‏‎ ‎‏الفاسق بنبأ» أنّه إذا لم یجئک الفاسق بنبأ ، وأمّا مجیء العادل مکانه فلیس مذکوراً‏‎ ‎‏فی المنطوق حتّی یعلم حکمه من المفهوم .‏

‏أضف إلیه : أنّ تعدّد المصداق للمفهوم لا یتوقّف علی ما ذکره من کون‏‎ ‎‏الشرط هو مجیء الفاسق ، بل یتمّ لو کان الشرط هو المجیء والموضوع هو نبأ‏‎ ‎‏الفاسق ، فلانتفائه فی الخارج مصداقان : عدم مجیء النبأ أصلاً ومجیء العادل‏‎ ‎‏بالنبأ . ومع ذلک کلّه : فالمرجع هو العرف ، وهو لا یساعده .‏

ویمکن تقریب المقام بوجه آخر ؛‏ وهو أنّه لا فرق فی شمول العامّ لأفراده بین‏‎ ‎‏کونها الأفراد الذاتیة أو العرضیة إذا کانت القضیة شاملة لها علی وجه الحقیقیة ،‏‎ ‎‏فکما أنّ الأبیض صادق علی نفس البیاض لو فرض قیامه بذاته ، کذلک صادق علی‏‎ ‎‏الجسم المعروض له ، مع أنّ صدقه علیه تبعی لدی العقل الدقیق ، لکنّه حقیقیة لدی‏‎ ‎‏العرف .‏

‏وعلیه : فلعدم مجیء الفاسق بالخبر فردان : عدم المجیء بالنبأ أصلاً ـ لا من‏‎ ‎‏الفاسق ولا من العادل ـ ومجیء العادل بالخبر . والأوّل فرد ذاتی له والآخر عرضی ،‏‎ ‎‏فیشمل العامّ لهما .‏

‏فمفهوم الآیة : إن لم یجئ الفاسق بالخبر لایجب التبیّن ؛ سواء جاء به العادل ؛‏‎ ‎‏وهو الفرد العرضی أو لم یجئ أصلاً ؛ وهو الفرد الذاتی ، والعامّ یشملهما معاً .‏

أضف إلی ذلک :‏ أنّ القضایا السالبة ظاهرة فی سلب شیء عن شیء مع وجود‏‎ ‎‏الموضوع ، لا فی السلب باعتبار عدم الموضوع . ولو حمل المفهوم علی المصداق‏‎ ‎‏الذاتی ـ وهو عدم الإتیان بالخبر أصلاً ـ تصیر السالبة صادقة باعتبار عدم‏

کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 438
‏الموضوع ، ولو حمل علی إتیان العادل بالخبر تصیر من السوالب المنتفی محمولها‏‎ ‎‏مع وجود الموضوع ، وهو أولی .‏

وفیه :‏ أنّ الأمر فی المثال والممثّل متعاکس ؛ وهو أنّ البیاض مصداق‏‎ ‎‏للأبیض عند العقل دون العرف ، ولکن عدم إتیان الفاسق بالنبأ مصداق ذاتی للمفهوم‏‎ ‎‏عند العقل والعرف ، وأمّا مجیء العادل بالخبر فلیس من مصادیق ذلک المفهوم‏‎ ‎‏عندهم ؛ وإن فرض أنّ أحد الضدّین ینطبق علیه عدم الضدّ الآخر ، ویکون مصدوقاً‏‎ ‎‏علیه لا مصداقاً حسب ما اصطلحه بعض الأکابر‏‎[4]‎‏ ، لکنّه أمر خارج عن المتفاهم‏‎ ‎‏العرفی الذی هو المرجع فی الباب .‏

‏وأمّا ما ذکر من ظهور القضایا السالبة فی سلب المحمول فإنّه یصحّ لو کانت‏‎ ‎‏القضیة لفظیة ، لا مفهوماً من قضیة منطوقة بالدلالة العقلیة . علی أنّه لو فرض صبّ‏‎ ‎‏هذا المفهوم فی قالب اللفظ لما فهم منه أیضاً إلاّ کون الشرط محقّقاً للموضوع ،‏‎ ‎‏وانتفاء التبیّن باعتبار انتفاء موضوعه .‏

ثمّ‏ إنّه لو فرض المفهوم للآیة فلا دلالة فیه علی حجّیة قول العادل وکونه‏‎ ‎‏تمام الموضوع للحجّیة ؛ لأنّ جزاء الشرط لیس هو التبیّن ؛ فإنّ التبیّن إنّما هو بمعنی‏‎ ‎‏طلب بیان الحال ، وهو غیر مترتّب علی مجیء الفاسق بنبأ ؛ لا عقلاً ولا عرفاً ،‏‎ ‎‏والجزاء لابدّ أن یکون مترتّباً علی الشرط ؛ ترتّب المعلول علی العلّة أو نحوه .‏

‏فلابدّ من تقدیر الجزاء بأن یقال : إن جاءکم فاسق بنبأ فأعرضوا عنه أو لا‏‎ ‎‏تقبلوه وأشباههما ، وإنّما حذف لقیامه مقامه .‏

‏وحینئذٍ : یصیر المفهوم علی الفرض : إن جاءکم عادل بنبأ فلا تعرضوا عنه‏

کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 439
‏واعتنوا به ، وهو أعمّ من کونه تمام الموضوع أو بعضه . ولعلّ للعمل به شرائط اُخر‏‎ ‎‏کضمّ آخر إلیه أو حصول الظنّ بالواقع ونحوهما .‏

ثمّ إنّ بعض أعاظم العصر ‏قدس سره‏‏ قد أفاد فی تقریب الآیة ما هذا حاصله : یمکن‏‎ ‎‏استظهار کون الموضوع فی الآیة مطلق النبأ والشرط هو مجیء الفاسق به من مورد‏‎ ‎‏النزول ؛ فإنّ مورده إخبار الولید بارتداد بنی المصطلق ، فقد اجتمع فی إخباره‏‎ ‎‏عنوانان : کونه خبراً واحداً ، وکون المخبر فاسقاً ، والآیة وردت لإفادة کبری کلّیة‏‎ ‎‏لیتمیّز الإخبار التی یجب التبیّن عنها عن غیرها .‏

‏وقد علّق وجوب التبیّن فیها علی کون المخبر فاسقاً ، فیکون هو الشرط ، لا‏‎ ‎‏کون الخبر واحداً . ولو کان الشرط ذلک لعلّق علیه ؛ لأنّه بإطلاقه شامل لخبر‏‎ ‎‏الفاسق . فعدم التعرّض لخبر الواحد وجعل الشرط خبر الفاسق کاشف عن انتفاء‏‎ ‎‏التبیّن فی خبر غیر الفاسق .‏

‏ولا یتوهّم : أنّ ذلک یرجع إلی تنقیح المناط أو إلی دلالة الإیماء ؛ فإنّ ما بیّناه‏‎ ‎‏من التقریب ینطبق علی مفهوم الشرط .‏

‏وبالجملة : لا إشکال فی أنّ الآیة تکون بمنزلة الکبری الکلّیة ، ولابدّ أن‏‎ ‎‏یکون مورد النزول من صغریاتها ، وإلاّ یلزم خروج المورد عن العامّ ، وهو قبیح .‏‎ ‎‏فلابدّ من أخذ المورد مفروض التحقّق فی موضوع القضیة ، فیکون مفاد الآیة بعد‏‎ ‎‏ضمّ المورد إلیها : أنّ الخبر الواحد إن کان الجائی به فاسقاً فتبیّنوا ، فتصیر ذات‏‎ ‎‏مفهوم‏‎[5]‎‏ ، انتهی .‏

وفیه مواقع من النظر :


کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 440
منها :‏ أنّ کون مورد النزول هو إخبار ولید الفاسق لا یصحّح کون الموضوع‏‎ ‎‏هو النبأ ، وأنّ الشرط هو مجیء الفاسق ، وأنّه غیر مسوق لتحقّق الموضوع ؛ إذ غایة‏‎ ‎‏ما یمکن أن یقال : إنّه مسوق لإعطاء القاعدة الکلّیة فی مورد الفاسق ، وأمّا بیان‏‎ ‎‏الضابطة لمطلق الخبر وظهورها فی إفادة الکبری الکلّیة لیتمیّز الإخبار التی یجب‏‎ ‎‏التبیّن عنها عن غیرها فلا یستفاد منها .‏

ومنها :‏ أنّ ما أفاده من أنّه اجتمع فی إخباره عنوانان : کونه خبر الواحد ،‏‎ ‎‏وکون المخبر فاسقاً بیان لمفهوم الوصف دون الشرط ، الذی هو بصدد بیانه ؛ ضرورة‏‎ ‎‏أنّه لم یعلّق وجوب التبیّن فی الآیة علی کون المخبر فاسقاً حتّی یصحّ ما ادّعاه من‏‎ ‎‏کون الموضوع هو النبأ والشرط کون المخبر فاسقاً ، بل علّق علی مجیء الفاسق‏‎ ‎‏بالخبر ، ومن المعلوم أنّ الشرط حینئذٍ محقّق للموضوع ، ولا مفهوم له .‏

وأمّا التمسّک بمفهوم الوصف :‏ فمع أنّه خارج عن محلّ الکلام غیر صحیح ؛‏‎ ‎‏لبناء المفهوم علی استفادة الانحصار من القیود ، وهی فی جانب الوصف بعید .‏

‏علی أنّه یمکن أن یکون ذکر الوصف ـ الفاسق ـ قد سیق لغرض آخر غیر‏‎ ‎‏المفهوم ؛ وهو التنبیه علی فسق الولید ، فکون مورد النزول إخبار الولید مانع عن‏‎ ‎‏دلالة الآیة علی المفهوم ، لا موجبٌ له ، کما أفاد .‏

‏وأمّا ما أفاده من تأیید کون الآیة بمنزلة الکلّیة ـ من أنّ المورد مـن‏‎ ‎‏صغریاتها وإلاّ یلزم إخراج المورد ـ فلا یخلو عن خلط ؛ فإنّ کون المورد من‏‎ ‎‏صغریاتها لا یستلزم کونها بصدد إعطاء الضابطـة فی مطلق الخبر ، بل یصحّ‏‎ ‎‏لـو کانت بصدد إعطاء القاعدة لخبر الفاسق ، ویصیر المورد من مواردها ، من غیر‏‎ ‎‏إخراج المورد ، ولا ثبوت مفهوم .‏

‎ ‎

کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 441

  • )) الحجرات (49) : 6 .
  • )) کفایة الاُصول : 340 .
  • )) نهایة الأفکار 3 : 111 ـ 112 .
  • )) الحکمة المتعالیة 1 : 157 .
  • )) فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 3 : 169 ـ 170 .