استدلال النافین لحجّیة الخبر الواحد بالکتاب

استدلال النافین لحجّیة الخبر الواحد بالکتاب

‏ ‏

‏فاستدلّ المنکرون بوجوه :‏

فمن الآیات :‏ قوله تعالی : ‏‏«‏أَنَّ الظَّنَّ لا یُغْنِی مِنَ الْحَقِّ شَیْئَاً‏»‏‎[1]‎‏ .‏

‏ولکن المتدبّر فی سیاق الآیات یقف علی أنّها راجعة إلی الاُصول‏‎ ‎‏الاعتقادیة .‏

ومنها :‏ قوله تعالی : ‏‏«‏وَلا تَقْفُ مَا لَیْسَ لَکَ بِـهِ عِلْمٌ إنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ‎ ‎وَالْفُؤادَ کُـلُّ اُولَئِکَ کَانَ عَنـْهُ مَسْئُولاً‏»‏‎[2]‎‏ وذیل الآیـة یوجب تعمیمها للفروع ؛ لو‏‎ ‎‏لم نقل باختصاصها بها .‏


کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 429
‏ولکن صحّة الاستدلال بها مستلزمة لعدم جواز الاستدلال بها ؛ وذلک لأنّه‏‎ ‎‏یدلّ علی نحو القضیة الحقیقیة علی الزجر عن کلّ اتّباع بغیر علم یوجد فی‏‎ ‎‏الخارج ، مع أنّ الأخذ بظاهر الآیة أیضاً اتّباع لغیر علم ومصداق له ؛ لأنّ دلالتها‏‎ ‎‏علی الردع عن غیر العلم ظنّیة لا قطعیة ، فیلزم من الأخذ بمدلولها عدم جواز‏‎ ‎‏اتّباعها ؛ لکون دلالتها بالفرض ظنّیة ، والآیة شاملة لنفسها ؛ لکونها قضیة حقیقیة .‏

وربّما یقال :‏ إنّ الآیة غیر شاملة لنفسها لأجل المحذور الذی ذکر . وبعبارة‏‎ ‎‏اُخری : أنّ الآیة مخصّصة عقلاً ؛ للزوم المحال لولا التخصیص .‏

أقول :‏ إنّ الاستحالة مندفعة بأحد أمرین : الأوّل ما ذکره القائل من عمومها‏‎ ‎‏لکلّ غیر علم إلاّ نفسه ، والثانی بتخصیصها بما قام الدلیل علی حجّیته .‏

‏ولا ترجیح ، بل الترجیح للثانی ؛ لأنّ الآیة وردت للزجر عن اتّباع غیر‏‎ ‎‏العلم ، ولا یتمّ الزجر إلاّ إذا کان ظاهرها حجّة عند المخاطبین ؛ حتّی یحصل لهم‏‎ ‎‏التزجّر عند الزجر ، ولا وجه لخروج ظاهر الآیة عن هذا العموم إلاّ کون الظواهر‏‎ ‎‏حجّة عند العقلاء ، کسائر الظنون الخاصّة .‏

‏وحینئذٍ : فخروج ظاهر الآیة أو مطلق الظواهر دون سائر الظنون تحکّم‏‎ ‎‏محض ؛ لوجود البناء من العقلاء فی الموردین .‏

‏هذا ، مع أنّ هذه الآیة قابلة للتخصیص ، وما لا تقبل له راجعة إلی‏‎ ‎‏الاُصول الاعتقادیة .‏

ثمّ إنّ بعض أعاظم العصر ‏قدس سره‏‏ قد أجاب عن هذا الإشکال بما هذا حاصله : إنّ‏‎ ‎‏نسبة الأدلّة الدالّة علی حجّیة الخبر الواحد إلی الآیات نسبة الحکومة لا‏‎ ‎‏التخصیص ؛ لکی یقال إنّها آبیة عنه ؛ فإنّ تلک الأدلّة تقتضی إلقاء احتمال الخلاف‏

کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 430
‏وجعل الخبر محرزاً للواقع ؛ لکون حاله حال العلم فی عالم التشریع . هذا فی غیر‏‎ ‎‏السیرة العقلائیة القائمة علی العمل بالخبر الواحد .‏

‏وأمّا السیرة فیمکن أن یقال : إنّ نسبتها إلیها هی الورود ، بل التخصّص ؛ لأنّ‏‎ ‎‏عمل العقلاء بخبر الثقة لیس من العمل بالظنّ ؛ لعدم التفاتهم إلی احتمال المخالفة‏‎ ‎‏للواقع . فالعمل به خارج بالتخصّص عن العمل بالظنّ .‏

‏فلا تصلح الآیات الناهیة عن العمل به لأن تکون رادعة عنها ؛ فإنّه ـ مضافاً‏‎ ‎‏إلی خروج العمل به عن موضوع الآیات ـ یلزم منه الدور المحال ؛ لأنّ الردع عن‏‎ ‎‏السیرة بها یتوقّف علی أن لا تکون السیرة مخصّصة لعمومها ، وعدم التخصیص‏‎ ‎‏یتوقّف علی الرادعیة .‏

‏وإن منعت عن ذلک فلا أقلّ من کون السیرة حاکمة علی الآیات ، والمحکوم‏‎ ‎‏لا یصلح أن یکون رادعاً للحاکم‏‎[3]‎‏ ، انتهی .‏

وفیه :‏ أنّ ما هو آبٍ من التخصیص إنّما هی الآیات الناهیة عن اتّباع الظنّ ،‏‎ ‎‏وأمّا قوله سبحانه : ‏‏«‏وَلا تَقْفُ مَا لَیْسَ لَکَ بِهِ عِلْمٌ‏»‏‎[4]‎‏ فقد عرفت أنّه عامّ للاُصول‏‎ ‎‏والفروع وقابل للتخصیص .‏

‏وأمّا حکومة الأدلّة الدالّة علی حجّیة الخبر الواحد علی الآیات فلا أصل‏‎ ‎‏لها ؛ لأنّ الحکومة تتقوّم باللفظ ، ولیس لسان تلک الأدلّة ـ من آیاتها وأخبارها ـ‏‎ ‎‏لسان الحکومة ، کما لا یخفی .‏

‏وأمّا قوله ‏‏علیه السلام‏‏ : ‏«العمری ثقة فما أدّی إلیک عنّی فعنّی یؤدّی ، وما قال لک

کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 431
عنّی فعنّی یقول ، فاسمع له وأطع ؛ فإنّـه الثقـة المأمون»‎[5]‎‏ فلا یصلح لإثبـات ما‏‎ ‎‏رامه ‏‏قدس سره‏‏ ؛ فإنّ مفاده هو وجوب اتّباع قوله لوثاقته ، وأمّا تنزیل ما یقوله منزلة العلم‏‎ ‎‏حتّی یکون حاکماً علی ما دلّ علی الزجر عن اتّباع غیر العلم فلا یستفاد منه .‏

‏وأمّا السیرة : فالقول بأنّ نسبتها نسبة الورود أو التخصّص فلا یخلو عن‏‎ ‎‏ضعف ؛ لأنّ ذلک فرع کون العمل بالخبر الواحد عند العقلاء عملاً بالعلم ، وهو‏‎ ‎‏ممنوع جدّاً ؛ لعدم حصول العلم من أخبار الآحاد ؛ حتّی لو فرضنا غفلتهم عن‏‎ ‎‏احتمال الخلاف فلا یصحّ أیضاً ؛ لأنّ الورود والتخصّص یدور مدار الخروج‏‎ ‎‏الواقعی ، لا علی الخروج عند المخاطب ؛ فإنّ الورود لیس إلاّ خـروج موضوع‏‎ ‎‏أحـد الدلیلین عن موضوع الدلیل الآخـر حقیقـةً بعنایـة التشریع ، کما أنّ‏‎ ‎‏التخصّص هو الخروج حقیقةً وتکویناً ، ومع ذلک کلّه فهما یدور علی الخروج‏‎ ‎‏الواقعی لا عند المخاطب .‏

‏والعجب عمّا أفاده أخیراً من حدیث حکومة السیرة ؛ فإنّ السیرة عمل‏‎ ‎‏خارجی والحکومة من أوصاف دلالة الدلیل اللفظی ، فکیف یصحّ حکومة العمل‏‎ ‎‏الخارجی علی دلیل آخر ، مع أنّها قائمة بین لسانی الدلیلین اللفظیین ؟‏

‏نعم ، یمکن أن یقال بعدم صلاحیة تلک الآیات للردع عن السیرة الدائرة بین‏‎ ‎‏العقلاء ؛ لعدم انتقالهم من التدبّر فی هذه الآیات إلی کون الخبر الواحد مصداقاً له ؛‏‎ ‎‏وإن کان مصداقاً واقعیاً له .‏

نعم ،‏ یمکن تقریب ورود السیرة علی الآیات بوجهین :‏


کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 432
الأوّل :‏ أنّ المراد من قوله تعالی : ‏‏«‏وَلا تَقْفُ مَا لَیْسَ لَکَ بِهِ عِلْمٌ‏»‏‎[6]‎‏ أی‏‎ ‎‏لا تقف ما لیس لک به حجّة ؛ إذ لو اُرید منه العلم الوجدانی ، واُرید منه الزجر عن‏‎ ‎‏التمسّک بغیر العلم الوجدانی لزم تعطیل أکثر الأحکام أو ورود التخصیص الأکثر‏‎ ‎‏المستهجن ، وهذا نظیر حرمة القول بغیر علم أو الإفتاء بغیر علم ، وعلیه کلّ ما یدلّ‏‎ ‎‏علی حجّیة الخبر الواحد یکون وارداً علیه .‏

الثانی :‏ أنّ نفس الطریق وإن کان ظنّیاً إلاّ أنّ ما یدلّ علی حجّیته أمر قطعی ؛‏‎ ‎‏لأنّ ما یدلّ من ظواهر الآیات علی حجّیة الخبر الواحد حجّة قطعیة عند الخصم ،‏‎ ‎‏کسائر الظواهر ، فینسلک اتّباع الخبر الواحد فی عداد اتّباع العلم ، فیتمّ میزان‏‎ ‎‏الورود ، فتدبّر .‏

‏وأمّا مشکل الدور فی رادعیة الآیات عن السیرة ففیه ـ مضافاً إلی أنّه لیس‏‎ ‎‏دوراً اصطلاحیاً ؛ فإنّ الدور المصطلح ما یقتضی تقدّم الموقوف علی الموقوف علیه ؛‏‎ ‎‏ضرورة عدم تقدّم الرادعیة علی عدم المخصّصیة ـ أنّ حجّیة السیرة یتوقّف علی‏‎ ‎‏عدم الرادعیة ، وعدم الرادعیة یتوقّف علی عدم مخصّص واصل ، وهو ـ أی العدم ـ‏‎ ‎‏حاصل ؛ إذ لا مخصّص فی البین .‏

وبالجملة :‏ فإنّ الآیات بعمومها تدلّ علی الزجر عن اتّباع کلّ ظنّ وما لیس‏‎ ‎‏بعلم ، ورادعیة هذه الآیات تتوقّف علی عدم مخصّص من الشارع ، والمفروض أنّه‏‎ ‎‏لم یصل إلینا مخصّص .‏

‏وأمّا السیرة بما هی هی فلا تصلح أن یکون مخصّصة ؛ إذ لا حجّیة للسیرة بلا‏‎ ‎‏إمضاء من الشارع ، فالرادع رادع فعلاً ، والسیرة حجّة لو ثبت الإمضاء ، وهو غیر‏‎ ‎‏ثابت ؛ لاسیّما مع ورود تلک النواهی .‏


کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 433
‏فإن قلت : إنّ العمل بالخبر الواحد کان سیرة جاریة قبل نزول تلک الآیات ،‏‎ ‎‏وسکوت الشارع عنه إمضاء لها . وأمّا بعد نزول الآیات فالمقام من صغریات‏‎ ‎‏الخاصّ المتقدّم ـ السیرة ـ والعامّ المتأخّر ، فیدور الأمر بین تخصیصها بالسیرة‏‎ ‎‏المتقدّمة أو ردعها إیّاها .‏

‏وإن شئت قلت : الأمر یدور بین التخصیص والنسخ ، ومع عدم الترجیح‏‎ ‎‏یستصحب حجّیة السیرة .‏

‏قلت : إنّ التمسّک بالاستصحاب من الغرائب ؛ إذ لم یثبت حجّیته إلاّ‏‎ ‎‏بأخبار الآحاد .‏

‏أضف إلی ذلک : أنّ السکوت فی أوائل البعثة لا یکشف عن رضاه ؛ فإنّ أوائل‏‎ ‎‏البعثة والهجرة لم یکن المفزع والمرجع فی أخذ الأحکام إلاّ نفس النبی ‏‏صلی الله علیه و آله وسلم‏‏ ،‏‎ ‎‏فلم یکن أکثر الأحکام منقولة بآحاد الرواة حتّی تقع مورد الرضاء والردع .‏

‏وأمّا العمل بها فی الاُمور العادیة والعرفیة فلا یجب للشارع تحدید العمل‏‎ ‎‏والتصرّف فیها ، بل من الممکن أنّ الآیات نزّلت فی أوائل الأمر للردع عن العمل بها‏‎ ‎‏فی العادیات ؛ لئلاّ یسری إلی الشرعیات .‏

‎ ‎

کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 434

  • )) یونس (10) : 36 .
  • )) الإسراء (17) : 36 .
  • )) فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 3 : 160 ـ 162 .
  • )) الإسراء (17) : 36 .
  • )) الکافی 1 : 330 / 1 ، وسائل الشیعة 27 : 138 ، کتاب القضاء ، أبواب صفات القاضی ، الباب 11 ، الحدیث 4 .
  • )) الإسراء (17) : 36 .